أقلام حرة

الشعب الفلسطيني: من اللاوجود إلى الوجود المؤجل

لا تحتاج التراجيديا الفلسطينية إلى حكاة يروون تاريخها ليستدروا الدموع او يستثيروا الهمم فالدمع الذي يسفك على مأساة بطل أو بطلة في مسلسل تركي أغزر مما يسفك على فلسطين ولم يعد هناك من يستثار من أجلها فالناس في شرق أمة العرب مشغولون بتحسس رقابهم خوفا عليها من سكاكين الإرهاب وإن سلمت أجسادهم فترميم حياتهم الممزقة ودورهم المخربة والبحث عما يسكن بطون أطفالهم الجوعى... وفي غربها لا يزال الناس يقلبون وجوههم بحثا عن سبيل قويم يفضي بهم إلى حيث يرتضون ثمرة ما فعلت اياديهم التي قلبت الأمر من حال لم يرتضوه إلى حال لا زالوا لم يرتضوه..بعض يتأسى ما فات وآخر يحلم بالقادم عزاءه مذاق حرية جديدة  تمتزج فيها الحلاوة بالمرارة...

 لا تحتاج التراجيديا إلى حكاة ذلك أنها ماثلة أمام العيون تنضاف لها بشاعة جديدة  مع إطلالة كل يوم: في مخيمات سوريا أو في القدس أو في جنين أو الخليل أو على الحدود بين غزة وإسرائيل. ولا يتردد المحتل الإسرائيلي في أن يضيف فصولا جديدة تجعل منها أكثر تشويقا عزاءنا الوحيد في ذلك ان المحتل لم يعد، كما كان في السابق، يملك ورقة   VIP لدخول الوعي الإنساني ليجعل من الفلسطيني ملوما عندما يموت على يد محتله وملوما عندما يجوعه وملوما عندما يحاصره وملوما عندما يقول للإسرائيلي أو الأمريكي" عذرا لا استطيع أن أتفاوض على لا شئ"...

لم يعد ذلك ممكنا بعد أن مل الوعي الإنساني كثرة التزوير وفداحته....

عندما اختار الفلسطينيون في 1991  المفاوضات كوسيلة ضنوها - ولا يزالوا- ممكنة من أجل التوصل إلى تسوية مع "العدو التاريخي" تحفظ لهم 28 بالمائة من الأرض التي كانت كلها يوما ملكا لهم أحرار فيها أين يقيمون وأين يزرعون وأين يبنون منازلهم، كانوا قد وضعوا التاريخ كله وراءهم  ذلك التاريخ الذي كان يروي قصتهم من آلاف السنين غير آبهين من أن  يأتي يوم يعاقبهم ذلك التاريخ على "احتقارهم" إياه. لماذا فعلوا ما فعلوه؟ ربما لأنهم ضنوا، بعضهم قانع وآخر على مضض، أن القول الفصل هو للحاضر وحسب غاضين الطرف- بحكم الضرورة وليس الاختيار- عن حقيقة أن من أخرجهم من أرضهم هي الأسطورة التي حولت بفعل القوة إلى واقع أزاح واقعهم وهدده بالفناء.....

في مدريد وفي أوسلو قال الفلسطينيون للإسرائيليين: انتم موجودون وقد أكلتم حتى شبعتم واستطلتم واستعرضتم بما يكفيكم ونحن الآن موجودون قبالتكم تكلمونا ونكلمكم فتعالوا نرى سوية ما تبقى لنا على المائدة: تلك ال 28 بالمائة  نرضاها غطاء لنا نسميها دولة.

"حسنا، نتفاوض عليها" قال الإسرائيليون.

ومنذ تلك اللحظة بدأ فصل جديد من المأساة حول الأمل إلى ألم، ألم أضاف غربة النفس إلى غربة الجسد في رحلة في المجهول دامت أكثر من  خمسة وعشرين سنة ظل فيها الفلسطيني يطلق حمامة تلو الأخرى بحثا عن يابسة ترسو إليها فتعود كل الحمامات إلى سفينته المتهالكة. وعبر  الأثير ظل ربابنة السفينة الفلسطينية يتلقون رسائل تعدهم برسو آمن إن هم قبلوا "بتنازلات مؤلمة" يقدم عليها محتلهم الذي يريد إنقاذهم أو الأمريكي بصفقته "القرنية": القدس والمستوطنات وشرق الضفة جزء من إسرائيل والاعتراف بيهودية الدولة ولا شئ اسمه حق العودة لفلسطينيي الشتات..و..و.. كل ذلك مقابل وعود بالرخاء. ممن ولمن؟ من ذلك الذي اجتز صوف الخروف في يوم  مثلج عندما اجتز مساهمته في الأنروا إذ لم تنجو من عسفه حتى منظمة إنسانية عايشت المأساة الفلسطينية مذ ساعة ولادتها المشؤومة عقوبة لها على لعبها دور الشاهد النزيه الذي يكاد يكون وحيدا قبالة شهود الزور الذين غصت بهم قاعة محكمة التاريخ المزور هو أيضا.. والرخاء لمن إن صدقناه؟لمجموعات سكنية فلسطينية لا رابط بينها و لا لها كيان يشي بهويتها و لو همسا.

ويدرك الفلسطينيون أن تلك "التنازلات المؤلمة" من طرف المحتل والتي يستحسن للفلسطيني أن يتلقفها مسرعا قبل فوات الأوان و"صفقة القرن" التي تعد بالرخاء لا تزيدان عن وصفة "لموت رحيم" تعيد طرح السؤال في عقل  الفلسطيني: هل راجع المحتل وحاميه نفسهما فقررا-عود على بدء- أن الفلسطيني غير موجود؟ ومع هذا السؤال تأتي كل الأسئلة الأخرى الحيرى لدى الفلسطيني العادي وبعض قادة المنفى: هل ما كنا نفعله طوال اكثر من عقدين  صحيح؟ وأكثر من ذلك عادت لدى البعض خيالات الماضي المترع بالشعارات...فعند هؤلاء، وللسخرية، أن يتوقف الزمن، يوقفه المحتل، تعني ضرورة العودة بالزمن إلى الوراء !...قيادة فلسطينية عينها على المستقبل تنضح عرقا ممزوجا بالدم وهي تجاهد لتدفع إلى الأمام في وجه من يوقف الزمن فيأتيها من عقر دارها من يريد أن يسحبها إلى الخلف، إلى زمن الشعارات...

 إن أسئلة "الشك" هذه هي ليست أسئلة الشك المفضي إلى اليقين بل أسئلة الشك الذي يفضي إلى الموت..هكذا تفعل كل الأسئلة التي تنتقص من النفس والتي تقول "أن ما نفعله غير صحيح". عندما يكون ما يفعله خصمك غير صحيح فذلك لن يجعل مما تفعله غير صحيح إذ لا يجوز أن تكون أنت وخصمك على باطل والحق بينكما ضائع...كما نرجو أن لا يحاول أن يوهمنا أحد بأن الصراع إنما يدور بين حقين لأنه عندئذ يصبح الأقوى هو صاحب الحق الأقوى وبالطبع تكون حصة الضعيف ما يتركه له القوي...

والفلسطيني، ومذ يوم أدرك ان وجوده مهدد بالفناء، لم يفكر أن الحفاظ على وجوده يمر عبر فناء الآخر ولم يقل يوما: "من هو اليهودي، أنا لم أسمع به" ولو قدر له البقاء في أرضه لم يكن لينازع اليهودي "من أهل الكتاب" حقه في العيش إلى جانبه وقد عاش في كنفه دهورا. ولم تكن الثورة يوم انطلقت من موطن الشتات هي أيضا مسعى فلسطينيا لنفي الآخر كشرط لاستمراره في الوجود بل كانت صرخة في وجه "اللاوجود" لا وجوده هو لتؤكد للنفس الفلسطينية أولا ثم  العالم أن الفلسطيني لا يمكن أن يكون رقما منسيا في قائمة الوجود الإنساني...ولم تكن البندقية كيانا جامدا غير ذي صلة فقد أشارت بالإصبع إلى حاملها الفلسطيني الذي كان منسيا وأسمعت صوته بل حتى الفوضى التي كان يخلقها أحيانا في مكان وجوده كانت ذات صله أشرت وجوده الإنساني فالفوضى فعل "إنساني" لا يخلقه إلا البشر...وهكذا يكون الفلسطيني أول من ابتدع فكرة "الفوضى الخلاقة"...

ولم تكن البندقية قادرة على إعماء بصيرة الزعامة الفلسطينية عن حقيقة التوازنات الدولية في فترة المواجهة بين معسكرين ولم تكن توظف تلك التوازنات إلا لجهة الانتصار لقضيته عبر الاعتراف بوجود الشعب الفلسطيني وبقيادته الشرعية وبحق هذا الشعب أن يكون له كيان مستقل..

ورغم كل ما حصل لا تزال القيادة الفلسطينية لا تملك سوى خيار البعد الإنساني الشامل الذي يستجيب له كل ضمير مقرونا بالبعد الحقوقي الذي وضع أصوله الكبار ذلك البعد الذي جعل من الفلسطيني استثناء من التطبيق فأصبح لدينا استثناءان تاريخيان معكوسان واحد فلسطيني سالب لا ينطبق عليه ما ينطبق على غيره وآخر إسرائيلي موجب تتجاوز حقوقه ما هو موجود في كل القوانين..

والمجموعات البشرية كلها لها شكل محدد من الوجود سواء كان وجودا مستقلا ضمن واقع سياسي وحقوقي معين أو كجزء من كل أكبر يملك هذا الوجود الحقوقي والسياسي وما يناسب ذلك من أسلوب حياة خاص بها يعبر عن تاريخها وثقافتها ضمن إطار علاقة مع الآخر من المحيط القريب أو البعيد. وكان الفلسطيني يملك هذا الشكل من الوجود، بدائي في معيار الحاضر ولكن أصيل، قبل أن يتعرض شكل وجوده وأسلوب حياته للتدمير تمهيدا للإلغاء. لم يقدر لمن أراد إلغاءه بلوغ مراده وتشبث الفلسطيني بتلابيب التاريخ ويقف اليوم مثخنا بالجراح لكنه شامخ لا يقبل ان يكون أقل من ند بين الأنداد يقول لمحتله وخصمه ومحاورة الإسرائيلي إن وجد:

"أنت هناك وانا أعترف بوجودك وقد حددت شكل وجودك بحريتك وإن كان على حساب وجودي وها أنا اليوم قبالتك واقبل أن يتحدد شكل وجودي بالتوافق معك بل أمنحك حرية تحديد شكل وجودي خارج دائرة الإلغاء واللاوجود الذي أصبح مستحيلا.  فدعنا ننظر للواقع وما يوفره من خيارات والتي أراها كلها خيارات التعايش. أن نعيش سوية على هذه الأرض كلنا أسياد خيار نقبله، أن نعيش متجاورين كل منا حر سيد في جغرافيته هو الآخرخيار نقبله. وليس التأجيل أو التأخير والمماطلة وزيادة آلام الفلسطيني بخيار، ولن يقدم المستقبل خيارات  لا إنسانية وإلا لما ارتقى الفلسطيني من حالة إنكار الوجود إلى الوجود ولو المؤجل ولكنه مؤكد لا حيد عنه منا و لا مهرب لكم منه ".

 قال لي الأخ هشام مصطفى المستشار الأول في سفارة فلسطين في تونس أن إسرائيليا سأله ذات يوم: "ماذا تنون أن تفعلوا عندما تحصلون على دولة؟" لا أظن أن ذاك الإسرائيلي كان يطرح سؤالا ساذجا و لا أدري أي جواب كان يريد رغم ذلك  فأن السؤال يشبه من يسأل رضيعا ولد للتو: "ماذا تريد ا تفعل بعد ان ولدت"؟ 

ماذا يريد الفلسطيني عندما يولد من جديد أكثر من أن يحيا ويعيش كبقية البشر ندا بين الأنداد؟

ويوم يولد من جديد فإنه لن يعيش على حساب أحد رغم أن الجميع عاش  على حسابه، عدوا محلفا كان أم أخا  في العروبة.

 

ثامر حميد

 

 

في المثقف اليوم