أقلام حرة

ماذا يعني أن نفكر في الإسلام اليوم؟.. حاكما أم مرشداً (2)

علي رسول الربيعيهل يمكن أن يصبح الدين مصدرًا للتعددية الديمقراطية؟

لقد كان استبعاد الدين كأحد مصادر التعددية الديمقراطية اتجاهاً شائعاً في العديد من المجتمعات التي ترعى القيم العلمانية وترسم خطًا فاصلاً بين المجال العام والخاص للنشاط البشري. لكن، في الوقت نفسه، يتم التسامح مع الدين من قبل العلمانية والاعتراف بوجوده لكن دون أن يكون له صوت في الفضاء العمومي لأفتقاره القدرة على التواصل مع من هم خارجه في المجتمع. لقد استسلمت جميع ديانات العالم، في بعض الأوقات، لضغوط العلمنة وخضعت للشرط السياسي  في مجتمعاتها، فأدت الملائمة والموافقة بين الجماعات الدينية والسلطة السياسية إلى إزالة الأسس التشريعية لمختلف التقاليد الدينية.

نشأ تركيز سلطة علمانية- دينية شاملة في يد قيادة حصرية رافقها إساءة معاملة لأولئك الذين داخل الجماعة وخارجها ممن يرفضون ادعاءات هذه الجماعة الدينية. لقد حرمت الجماعات التوحيدية من وقت لآخر أعضائها حقهم في الأنشقاق أو الاعتراض على التفسير الجمعي لتقاليدهم بسبب الخوف من أن مثل هذا الخلاف الداخلي (عادة ما يطلق عليه الردة أو الزندقة) قد يكون مدمراً للهوية الجماعية الإيمانية وتماسكها الاجتماعي.

هناك رغبة قوية بين مسيًري شؤون التقديس من مختلف الأديان لمنع أي شكل من أشكال الشقاق الداخلي. أددت المواقف اللاهوتية المتضاربة وحتى المتنازعة حول الحرية الدينية في مختلف المجتمعات العالمية إلى استخدام  غاشم للسلطة من اجل ضمان الالتزام بعقيدة واحدة شاملة. وقد تجلى ذلك في ظاهرة التعصب في العلاقات بين الأديان ايضًا. فبينما كان المسلمون يعاملون جماعات دينية أخرى بتسامحٍ نسبيٍّ، الاَّ أنهم غالبًا ما كانوا يُعامِلون معارضينهم الداخليين من ضمن دينهم بقسوة شديدة. فعن سبيل المثال، في ظل مختلف السلالات الإسلامية القوية الحاكمة، عانت الأقلية الشيعية أو السنية من الاضطهاد أكثر من اليهود والمسيحيين.[1]

لا يُخبر القرآن بأن الإنسانية قد سقطت جراء ارتكاب الخطيئة الأصلية. ولكنه يحذر الناس باستمرار من الفساد والأنانية التي يمكن أن تُضعف العزم على القيام بتنفيذ الأهداف إلالهية للبشرية. يمكن لغطرسة الإنسان أن تصيب وتفسد التعهدات في السياسة، والمعرفة، والسلوك اليومي، و الفقه والتفسير واللاهوت. وهذا الأخير هو الجانب الأكثر خداعًا  وفساداً لأنه يتم باسم الله.

يؤكد القرآن على تعزيز الروابط الإجتماعية البشرية الإيجابية بين الناس، وعلى المسؤولية الأخلاقية المشتركة تجاه بعضهم البعض، كما يؤكد على العلاقات المتبادلة التي يعززها النسب والأصل الواحد. يأمر القرآن الناس بتكريم نظرائهم. (الإسراء، الآية: 26)، ومن الواضح أن الأهمية التي يوليها القرآن للعلاقات بين الناس تشير إلى تشجع على إنشاء مجتمع أخلاقي روحي مكون من أفراد مستعدين وقادرين على مواجهة التحدي المتمثل في العمل من أجل الصالح العام.

ماذا عن الادعاء بأن التسامح يؤدي إلى حل وسط للحقيقة الدينية؟ قد تدعي جماعة أن تشجيع التسامح بين أعضائها يؤدي بها الى التضحية بميزتها الرفيعة وخصوصيتها المتفوقة السامية في علاقتها الفريدة مع الحقيقة الدينية لصالح مواقف براغماتية. من الصعب ان لم يكن من المستحيل حل الاختلافات اللاهوتية حول أي من مسائل الوحي. ومع ذلك، فإن روح التسامح وتسوية الخلافات تتطلب بالتأكيد وجوب البحث عن أرضية مشتركة لتنفيذ المصلحة العامة للمجتمع. إن العمل من أجل هذه المصلحة بدون الإصرار على فرض المعتقدات والرغبات العزيزة على قلب كل فرد يمكن أن ينتج عنه فضاء عام ذو مشروعية يستوعب خبرات دينية إنسانية متنوعة.

هل يمكن أن يتحقق هذا الفضاء العام دون النظر في الأفكار حول المقصد الأسنى والغاية الأعلى من وجود الإنسان على الأرض؟ هل يمكن تحقيقها من خلال التعاون الجماعي من أجل المصلحة العامة أو حتى على نطاق واسع من أجل المصالح الفردية المختلفة التي لا يمكن التوفيق بينها؟ كيف يمكن لجماعة دينية أن تظل محايدة وغير متدخلة في القضايا الأخلاقية التي قد تتعارض من وجهة نظر المرء مع إحساسه بالغايات العلوية أو النهائية للحياة؟ توحي الوصفة العلمانية للديمقراطيات الليبرالية بأن التسامح الديني لا يمكن تحقيقه إلا عندما يتم إضفاء الطابع المؤسسي على فكرة حرية الضمير في شكل حق الفرد الأساسي في حرية العبادة، أو نشر دينه، أو تغيير دينه أو حتى يتخلى عن الدين تماما.[2] ويُـقيد الإيمان في مجال الضمير الفردي الخاص، الذي يتم ترسيم حدوده بوضوح أزاء المجال العام، وبالتالي فصل المؤسسة الدينية عن الدولة. ولكن للمرء الحق في حرية الاختيار بين العقائد المتنافسة وممارسة إيمانه في المؤسسات الدينية الخاصة، ويرتبط بالمواطنة المشتركة في مؤسسات الدولة العامة. هذا هو الأساس العلماني للنظام العام الذي يتم فيه استبعاد جميع الاعتبارات المستمدة من السلطة المقدسة التي تأتي من الإيمان بالله إلى حياته الخاصة وفصلها من إدارة الحياة العامة.

تأسست التقاليد الإبراهيمية على الكتب المقدسة التي تحدد العدالة في التاريخ من خلال الجماعة. وأن المثل الأعلى للعدالة عند الجماعة الدينية هو نتيجة طبيعية للإيمان بإله أخلاقي يُصر على العدل والمساواة بين الأفراد بوصفه جزء من الكمال الروحي للمؤمن. وإنَّ هنالك أرتباط لا غنى عنه بين الأبعاد الدينية والأخلاقية للحياة الشخصية؛ وعليه يُقدم– هذا الأرتباط-  مبادئ دينية في الفضاء العام. ولكن يُسع هذا الوضع  الأخلاقي الشخصي عند فقهاء ومفسرين وسياسيين " دينيين" الى ربط  المؤسسة الدينية بالسياسة ارتباطًا وثيقًا. ولكن يبدو هذا غير ممكن طبقا لمطلب التعددية الديمقراطية الاَّ أن يخضع لشرط تقديم  محاججات عقلانية - منطقية عن مطاليبها لا أصدار فتاوى تراها ملزمة دينيًا في الفضاء العمومي.

حرية الضمير الديني في القرآن

لقد تم الاعتراف بحرية الضمير والدين كحجر الزاوية في التعددية الديمقراطية.[3] يتطلب أي نظام اجتماعي تعددي تعبير فعلي عن العقلانية وعن استقلالية الفرد في مسائل الإيمان الشخصي داخل المجتمع كجزء من العهد الإلهي-الإنساني. وتتطلب الرؤية الحديثة للنظام العام الإستقلالية الفردية وتقاسم الأفراد الأفكار والمثل والقيم الأساسية الموجهة نحو الملامح الرئيسية للمجتمع المدني.[4]  كما يتطلب العيش معًا في مجتمع ما التبادل والتفاعل ليس فقط في مسائل التجارة وعلاقات السوق، ولكن يفترض أيضًا أساسًا مشتركًا للأخلاق الملزمة والمشاعر التي توحد الأفراد المستقلين القادرين على التفاوض حول الفضاء الروحي الخاص بهم - وهذه الشروط تنطبق على جميع المجتمعات في كل العصور.

أنْ تراجع الجماعات المتنوعة العقائد عن المطالبة بفرض تعاليمها الدينية لأشتقاق واستخلاص القواعد التي تُؤثر على الحياة العامة، بفضل الرغبة البشرية الطبيعية في التفاعل الاجتماعي، يمكن أن يخلق الاعتراف بالقيم الدينية التي تتعلق بالمشاركة والتبادل وتنفيذها دينًا مدنيًا، ويشجع على التعايش حتى مع أولئك الذين لايشاركون الجماعة المهيمنة رؤيتها الخاصة في الخلاص، إذ يمكن أن يتشاركوا في الاهتمام بالعيش في سلام وعدالة. والاهتمام باستقلالية الإنسان، لا سيما حرية العبادة (أو عدم العبادة). إن هذا أمر جوهري بالنسبة إلى الرؤية القرآنية للتدين الإنساني.

يطالب القرآن المسلمين أن يقيموا حوارًا مع تقاليدهم الدينية الخاصة للكشف عن مقاربة عادلة للتنوع العقائدي والتعايش بين الأديان. بالإضافة الى ذلك، يثبت التحليل الدقيق للقرآن، أنه من المستحيل دون الاعتراف بالحرية الدينية تُصور الالتزام الديني كعلاقة إنسانية- إلهية يُلتزم بها بشكل حر؛ فالحرية الدينية تعزز المساءلة الفردية من أجل قبول المرء للإيمان بالله أو رفضه، والالتزام بممارسة الحياة الأخلاقية، والاستعداد للحكم عليها طبقًا لذلك.

التمييز بين الاستجابة الأخلاقية والدينية لتوجيه الله أمر بالغ الأهمية، هنا يُخبرنا الله في القرآن فيما يتعلق بإرشاده البشرية عن شكلين من التوجيه: توجيه أخلاقي شامل وهو يتعلق بجميع البشر ككائنات إنسانية، وتوجيه إرشادي محدد يُعطى لمجتمع عقائدي معين. من المُتصَور أن نطلب، على أساس التوجيه العالمي، التوحيد والأنتظام لأن هناك معيارًا أخلاقيًا موضوعيًا يَفترض وجوده ضمان رفاه وسعادة الإنسان. ومن الأهمية بمكان وعلى أساس توجيه محدد من خلال  القرآن، يمكن السماح للبشر بممارسة إرادتهم في مسائل الإيمان الشخصي لأنَّ أي محاولة لفرض العقيدة الدينية من شأنه أن يؤدي إلى نفيها. وعلى الرغم من أن الطبيعة الشاملة للتوجيه القرآني تُقدم وصفًا مفصلاً لحياة الإنسان المثالية على الأرض التي تتفق مع الاعتبارات التاريخية والثقافية للحياة الجماعية في الإسلام، الاَّ أنها تُزيل العلاقة بين الله والإنسان من الولاية القضائية البشرية.[5]وهكذا، فإنَّ جانباً من التوجيه  الذي ينظم العلاقة بين الله والإنسان يتعلق بـ تذكير"  الناس"  وتحذيرهم" من عدم الإستجابة لالدعوة الإلهية من خلال "الخضوع" لإرادة الله. فلم يستخدم النبي بوصفه قائدًا للجماعة سلطته السياسية لفرض طبيعة العلاقة بين الله والإنسان لأن هذه العلاقة تقوم على استقلالية الذات وعلى مفهوم الإستخلافية الإنسانية. يُذكِّر القرآن الكريم النبي مرارًا وتكرارًا أنَّ واجبه هو تبليغ الرسالة إلى الناس دون أن يأخذها على عاتقه ليعمل كمنفذ ديني لله. (المائدة،آية:54 ؛ق آية: 45).

يزودنا هذا التوضيح الذي يتحدث عنه القرآن بخصوص شكليً التوجيه بأساس ديني لحرية التدين. ليس فقط الحفاظ على فكرة القيم الأخلاقية العالمية والموضوعية التي يمكن الوصول إليها من أدراك الطبيعة البشرية ذاتها دون أي تمييز بين المؤمن وغير المؤمن؛ ولكن دعم فكرة الضمير غير المعصوم والقابل للخطأ الذي قد يفشل في الاستجابة لدعوة الله. يؤدي هذا التصور لإمكانية رفض التوجيه والإرشاد الديني إلى التسامح مع حق الإنسان في الاستقلالية أزاء الخيارات الدينية كافة.

لكن يبدأ التوتر حالما يتحدث القرآن عن النظام العادل. بين العديد من التفسيرات ذات الأبعاد السياسية التي تحمل افتراضات إجرائية الزامية لاتتعلق بالحرية الدينية الفردية فقط ولكن تهدف الى تشكيل نظام اجتماعي "عادل"، يمنح القرآن الدولة/ الحكومة، كممثل للمجتمع سلطة كبح "الفتنة في الأرض"، الذي ينشأ من غياب القانون وحمل السلاح ضد النظام الإسلامي القائم. وبأعتبار إن القضاء على الفساد في الأرض، هو واجب أخلاقي وسياسي  لحماية رفاهية الجماعة. وبين إن يترك، النظام السياسي الإسلامي، الذي ينظر الى الدين بوصفه لا ينفصل عن الأجندة العامة، لأتباع العقائد المتنافسة حرية ممارسة معتقداتهم، مما يخلق توترًا متأصلًا بين الجماعات الدينية. وهذا ما لايمكن حله الاً بواسطة التنظيم القانوني والإجرائي للدولة.

قدم "نظام الملل" في العالم الإسلامي نموذج ما قبل الحداثة لمجتمع تعددي دينياً يمنح كل جماعة أو طائفة دينية وضعًا رسميًا ومقياسًا للحكم الذاتي. يعني نظام الملل أن "الأشخاص محددين دينيا"[6] فكان "نموذج لحقوق الجماعة"[7] التي تُـعرف من خلال الهوية الجماعية، وبالتالي لم يُعترف بأي مبدأ للإستقلال الفردي في مسائل الدين. ولم تقتصر هذه الهوية الجمعية على تحديد "الأقليات المحمية" غير المسلمة (الذمي)؛[8] فقد سمح وضع الحكم الذاتي للملل أن تحصل على حق سيادتها أو سلطتهاعلى العقيدة الأرثوذكسية رسميًا بواسطة قادة الملل.استلزم عن هذا الوضع الجماعي، في ظل الإدارة العثمانية، سيطرة الدولة على الهوية الدينية، وكانت تحت مراقبة المسؤول الإداري ممثل الدولة في ما يتعلق بالمجتمع الديني.[9] سمح النظام الملًيٍ بتطبيق العقيدة الدينية تحت رعاية الدولة، ولم يترك مجالاً للمعارضة الفردية، السياسية أو الدينية. كان يُنظر إلى كل ممارسة فردية لحرية الضمير بأنها تمثل أنحرافاً عن  العقيدة القويمة المقبولة التي يحافظ عليها وينفذها النظام الاجتماعي - الديني.

لقد تعامل هذا الموقف والتقييم للمعارضة داخل الجماعة المسلمة بكثير من التعصب موصوفًا بشكل كامل في الأحكام التي تتناول الردة والتمرد الديني. وقد أظهرت الدراسات القانونية أدلة وافرة على أن الفقهاء المسلمين لم يُجرِوا تحقيقات في الفرضيات التشريعيًة الأخلاقية لأحكام محددة في القرآن. أدى غياب تحليل دقيق  للأحكام التشريعية القرآنية من جهة، والمقولات الأخلاقية الدينية من جهة أخرى، إلى توليد أحكام لا تعترف بالفصل بين الولاية القضائية التي تتصل بالعلاقة بين الإنسان - والإنسان والأخرى التي مدارها العلاقة  بين الإنسان- والله.

يقدم القرآن الكريم وصايا شاملة  ليس من السهل دائما التمييز فيها بين الأخلاقي والديني. جمع فقهاء المسلمين بين الأنتهاكات الأخلاقية والأخرى الدينية ثم رتبت عليها العقوبات نفسها. تعاملت الشريعة الإسلامية مع تلك الأنتهاكات والتجاوزات على أنها تؤثر على البشر، وعلى العلاقة مع الله، وأعتبرت كلاهما تستحق العقوبات نفسها، بينما العقوبات على "الجرائم" المرتكبة ضد الدين تقع خارج نطاق السلطة البشرية، فالسلطة القضائية في الإسلام مخولة بفرض عقوبات فقط عندما يكون هناك إثبات قطعي لاشك فيه أن الجريمة خطيرة وهي تنتهك حقاً من حقوق الناس، عنئذ يكون واجب الحاكم المسلم حماية المصلحة العامة؛ لكن هذه الوظيفة التي تمنحها التشريعات الفقهية له تخلق مشكلة عندما تخوله سلطة شخصية مطلقة لتحديد الطريقة التي يمكن بها تحقيق أغراض الله على أفضل وجه في المجتمع.

هل من الممكن نتوقع أن يساعد التبني الجديد للصيغ الكلاسيكية حول فصل الولاية القضائية في ظهور مكانا هاما للإسلام  في الفضاء العمومي بوصفه  دليل أخلاقي- ديني للتوجيه والإرشاد بدلاً من الحكم؟ يمكن أن تجعل السلطة الدينية، التي يثق بهاغالبية من المسلمين، مثل هذا المعنى للشريعة مقبول. فبدون تعاون علماء الدين في هذا الوقت، من الصعب تحقيق الديمقراطية لمجتمعات في سياق إسلامي وهي  مشروطة بالتسلط السياسي والديني. الخوف هو: إن يبقى الحال مقصورا بين الشكل الذي يزعم صفة "العلمانية" في سياساته السلطوية وبين حكم السياسة الدينية المتسلطة. من المؤكد أنه بدون تعاون القيادة الدينية التي يمكن أن تقبل تفسيراً للإسلام خارج أطر النظام المعرفي القروسطي السائد، سيحتفظ الإسلام، ولا سيما النسخة التي يتم سماعها في الوقت الحاضر، بنمطه الكلاسيكي/ القروسطي في مطالبته بالحكم  " تطبيقاً" للشريعة المقدسة للتحكم الكامل في جميع مجالات النشاط الإنساني. هنا يكمن الخطر على القيم الديمقراطية الأساسية للمساواة المدنية لجميع المواطنين في ظل دولة بالمعايير الحديثة. يمكن تبني النسغ الحي من القيَّم الإسلامية الكبرى بوصفها دليلا ومرشدا بدلاً من أن يحكم دولة أمة حديثة. وبهذه الحالة التاريخية يمكن للدول الإسلامية الاستفادة من تراثها الديني بشرط أن تتعامل مع جميع مواطنيها بوصفهم " نظراء في الخلق". بدون هذا الأساس لا يمكن لأي نظام سياسي أن يَدَّعي أنه ديمقراطي وتعددي

ملاحظات ختامية

يخلق دور الدين في الثقافة السياسية الإسلامية علاقة ثنائية في معنى الولاء، الولاء للأمة والولاء للتقاليد الدينية. فيكون هذا الولاء المنقسم مصدراً لهويتين في الوعي الإسلامي، الهوية التي تولدها علاقة المرء مع الله، والتي تم تعزيزها من خلال الالتزام بـ"الشريعة" المقدسة، والهوية التي خلقتها تجربة العيش كعضو في هيئة أعتبارية وكيان مؤسسي. ينشأ التوتر عندما يقوم المصدران للهويات، الوحي والعقل، بتقديم مطالب غير متوافقة وغير قابلة للتطبيق على الفرد لعقد عضوية حصرية وشاملة في الجماعة والدولة القومية الحديثة، على التوالي. يتم توفير الحل في الاعتراف بمبدأ يمكن أن يكون بمثابة أساس للمجتمع المدني. يمكن لهذا المبدأ أن يقود الهويتين إلى التقارب حول هدف مشترك - الإجماع المتداخل - هو الصالح العام في المجتمع. بغض النظر عن الانتماء الديني للفرد، فإن المبدأ، الذي تم التعبير عنه في أحد صيغ المستندات أو الوثائق  الإدارية للإسلام الكلاسيكي، يعترف بأن البشر "متساوون في الخليقة" وبحاجة إلى التوجيه والأرشاد والهداية وليس الحكم بالدين لغرس القيم التي من شأنها الحفاظ على حياة ذات معنى. كتب الخليفة الأمام علي بن ابي طالب (ت 660) وثيقة، عندما قام بتعيين واليًا لمصر، طرحت فكرة المساواة المدنية وأكدت على أن عضوية الجماعة لا تتعارض مع المساواة المدنية القائمة على كرامة الإنسان. وطالما كان دور الإيمان هو غرس الوعي الأخلاقي والروحي المؤدي إلى السلوك المسؤول في المجتمع، فإن الحكم يمكن أن يقوم على مبدأ عالمي هو الاعتراف بالبشر الآخرين كنظراء في الخلق. وبعبارة أخرى، كان الشاغل الحقيقي للدين هو توليد الاحترام لجميع البشر وتقاسم الكرامة والشرف بوصفهم خلق لله.

إن الاعتراف"بالمساواة في الخلق" هو أعتراف بغير المسلمين، و هو بالتأكيد وضع يمكن منحه للمواطن بغض النظر عن انتمائه الديني. وبالتالي، يتمثل دور الدين في تعزيز المعايير والمواقف والقيم التي يمكن أن تعزز العلاقات السلمية بين مختلف الجماعات العرقية والدينية. إن القواعد مثل "أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق " يمكن أن تكون بمثابة المبدأ المؤسس للحكم من خلال إنشاء مجتمع مدني. السؤال الذي يجب معالجته هو ما إذا كان المجتمع الحديث بمواطنته التعددية والمتنوعة من حيث التجمعات الدينية والثقافية يمكن أن يتجاهل مثل هذه التوجيهات القيمة في مسائل حكمه لمدينة نموذجية من البشر "أخ لك في الدين أو نظير في الخلق". الرد واضح جدا في القرآن الكريم (المائدة،آية:48) يتوقف الأمر كله على كيفية بدء المجتمعات الدينية في إضفاء الطابع المؤسسي الذي يتضمن إدراك  السر الإلهي للسماح للتعددية في مسائل الإيمان والقانون بأن تكون موجودة في المجتمع الإنساني. ما يهم في نهاية المطاف هو المسؤولية الأخلاقية المشتركة التي يتقاسمها البشر من أجل تعزيز الخير العام.[10]

 

الدُكّتور عليّ رَسول الرُبيعيّ*

.......................................

[1] تعامل الشريعة مع الأقليات غير المسلمة كفئة قانونية خاصة من أهل / الذمة ، مما يمنحهم وضع "الأقليات المحمية". وحتى عندما كان التمسك بالتمييز ضد هذه الأقليات ، فإن وضعهم المستقل كمجتمع يتمتع بالحكم الذاتي كان راسخًا. على العكس، لا يوجد في القانون ما يضمن حماية حياة وممتلكات "المنشق" داخل المجتمع. واعتبرت الأقلية الشيعية طائفة "هرطقة" من قبل أغلبية سنية في السلطة. تغير الوضع عندما كانت سلالة شيعية في السلطة. تزخر المصادر الإسلامية  بالتقارير حول إعدام "الزنادقة"  الذين هددوا الحكومات السُنّية الحاكمة والذين عارضوا بشكل علني وجهة نظر الأغلبية الرسمية للإسلام. مختلفة تبرز سياسة الدولة للحكم الإسلامي الذي يحكم الأقليات الدينية. على سبيل المثال ، انظر: 

S. Hodgson، The Venture of Islam، 3 vols (Chicago: University of Chicago Press, 1974

المجلد. 1 ، 242-251 ؛ 305-308. المجلد. 2، 536-539؛ المجلد. 3 ، 33-38.

[2]John Rawls, "The Priority of Right and Ideas of the Good:' in Philosophy and Public Affairs, Vol. 17 (4), 251-276.

[3] ohnRawls,"ThePriorityofRightsandIdeasoftheGood,"PhilosophyandPublicAffairs, Vol.17,No.4,260,265.

[4]Adam, B.Seligman,The Idea of Civil Society(NewYork:FreePress,1992),

يتطرق الفصلان الأول والثاني إلى تطور الفكرة في أوروبا والولايات المتحدة.  ليس هذا العمل مقارنا بأي معنى ومن ثم لا يتعامل مع تطور مماثل في مجتمعات أخرى. ولكن ، كما هو موضح فيه  ، فإن المجتمعات الإسلامية هي وريث للأفكار التوراتية واليونانية من النواحي الفردية والخاصة والعامة لنشاط الإنسان. وبالتالي ، فإن بعض الخصائص التي تم تحديدها الآن على أنها تتوافق مع المجتمع المدني كانت موجودة في جميع الثقافات حيث كان على الناس تعلم العيش في وئام.

[5]Michael Walzer, Thick and Thin: Moral Argument at Home and Abroad (Notre Dame: University of Notre Dame Press, 1994), x-xi,

يستخدم مايكل والزير "سميكًا" لتعيين الإشارة التفصيلية إلى "الخصائص المميزة" عبر ثقافات مختلفة ، والتي تمتلك أيضًا "أخلاقًا رفيعة وعالمية" تتقاسمها مع الشعوب والثقافات المختلفة. إن "السماكة" و "النحافة" للتقاليد الأخلاقية لشعوب و ثقافات معينة تقودنا أيضًا إلى إدراك المعاني "القصوى" و "الحد الأدنى" ، على التوالي ، في هذا التقليد ، مع فهم واضح بأن "المعاني المبسطة مضمنة في الأخلاق القصوى ، التي أعرب عنها في اللغة أو المصطلحات نفسها، وتقاسم نفس ... التوجه "(3). لقد أدخلت توجيهات "عالمية" و "خاصة" في التقاليد الإسلامية في إطار مفاهيمي مشابه ، حيث يقدم العالمي وصف الحد الأدنى والضيق للمبادئ الأخلاقية ؛ في حين ، على وجه الخصوص ، يوفر وصفا أقصى وأكثف من للغة أخلاقية متكاملة ثقافيا تستجيب لأهداف محددة.

[6]Benjamin Braude,"Foundation Myths of the Millet System," Christians and Jews in the Ottoman Empire: The Functioning of a Plural Society (New York: Holmes & Meier Publishers, Inc., 1982), 69.

[7]Will Kymlicka, "Two Models of Pluralism and Tolerance," in Toleration: An IllusiveVirtue,ed. David Heyd (Princeton: Princeton University Press, 1996), 82.

[8]Braude,"Foundations;'Christians and Jews,69-72.

[9] المصدر نفسه

[10]

 

في المثقف اليوم