أقلام حرة

مقدمات لـ "فهم الفلسفة السياسية" (10) الحقوق والعدالة والقانون (1)

علي رسول الربيعيسنتناول تحت هذا العنوان  القضايا التي تدور حول:

- مسألة التوازن بين الفرد والدولة

- النظر في الحقوق التي ينبغي أن تكون للفرد

- حدود القانون والسلطة السياسية.

"إننا نعتبر هذه الحقائق بديهية، حيث أن جميع الناس قد خُلِقوا متساوين، وهبهم خالقهم بحقوق معينة غير قابلة للتصرف، ومن بينها الحياة والحرية والسعي لتحقيق السعادة." إعلان الاستقلال الأمريكي (1776)

تُعد النظرة القائلة إن للأفراد حقوقًا يجب أن يحافظ عليها القانون سمة مركزية للنهج الليبرالي الواسع في السياسة ويستند إلى فكرتين سبق لنا  الكتابة  فيهما: المساواة والإنصاف. ولكن على الرغم من أن بعض الحقائق قد تبدو كذلك "بديهية"، الاَّ أنها تثير أسئلة هامة مثل:

- كيف نقيم توازناً عادلاً بين حقوق الفرد والمتطلبات السياسية للدولة؟

- كيف تُحدد العدالة؟ هل نبدأ باحتياجات وتطلعات الأفراد ومن ثم تقييم كيف يمكن للدولة أن ترضيهم؟ أو هل نبدأ بالحاجة إلى الحفاظ على دولة آمنة ومزدهرة، ثم تقييم الجزء الذي يُسمح  للأفراد أو تشجيعهم على التنافس فيه؟

- بما أن السيطرة تُمارس بالقانون (أو بالقوة الغاشمة إذا انهار القانون) كيف نضمن استقلال القضاء، بحيث لا يكون القانون مجرد أداة للسيطرة في أيدي القادة السياسيين؟

هناك مجموعة كاملة من المشكلات، لكن لا يمكننا سوى التطرق إلى بعضٍ منها هنا.

حكم العدالة

أكد أفلاطون، في الجمهورية، بأنَّ العدالة ستفيد كل فرد  في المجتمع. إنها ليست مجرد وسيلة لحماية الضعيف من الأقوياء ومنح الضعفاء حقوقهم. تتعزز العدالة نتيجة رؤية "الخير" نفسه، بدلاً من التأثر بالتفاعل مع الأحداث عبر الظلال المنعكسة على الجدار الخلفي لكهف السجناء.

اعتقد أفلاطون أنَّ العدالة لا يمكن فهمها من قبل الجميع، ولكن فقط من قبل أولئك الذين تلقوا تعليمًا مناسبًا. وهؤلاء  هم الأوصياء عليها وحماتها ومسؤوليتهم فهم وإيصال العدالة إلى غير المستنيرين. لا يمكن أن تزدهر حياة الأفراد إلا إذا كانت الدولة منظمة جيدًا، وإذا كانت هناك حاجة إلى "كذبة نبيلة"( يُستعمل مصطلح الكذبة النبيلة في السياسة ليشير إلى الأسطورة أو لا حقيقة، وغالبًا ماتكون ذات طبيعة  دينية، يتم نشرها عن قصد من قبل النخبة للحفاظ على الانسجام الاجتماعي. ويعود أصل هذا المصطلح إلى أفلاطون في الجمهورية) بشأن حالة الأنظمة الدنيا من أجل الاحتفاظ بها في مكانها، فأن مثل هذا الانحناء للحقيقة ثمنًا يستحق الدفع. وبعبارة أخرى، بالنسبة لأفلاطون، تم نشر العدالة وتطبيق القانون بواسطة الأوصياء، الذين وحدهم يعرفون ما هو في مصلحة الشعب  ومصلحة المدينة.

 كذلك رأى أرسطو، العدالة نتيجة لتعليم فضائل التسامح والاحترام، لكنه اعتبر أيضًا أن الشكل الحقيقي للعدالة كان نوعًا من الصداقة - وبعبارة أخرى، يمكن أن يعزز التبادل ازدهار الحياة. لكنه كان واقعيًا حول من الذي  يمكنه أن يثبت ويمارس مثل هذه العدالة في المدينة. يقترح أرسطو في الفصل الرابع من كتاب "السياسة" أن تُحكم الدولة من قبل الطبقات الوسطى، حيث أن  الأغنياء يميلون إلى الغطرسة والفقراء لارتكاب جرائم صغيرة، بينما الطبقات الوسطى هي  أكثر استعداداً لسماع  الحجة العقلانية!

لذلك عندما يتعلق الأمر بالحقوق والعدالة والقانون، كان الإغريق يهتمون بالدرجة الأولى بالدولة بدلاً من الفرد. لا يمكن الوثوق في غالبية الناس ليشرعوا قوانينهم الخاصة. يمكن للمواطنين المشاركة في المناقشات والتصويت، بطبيعة الحال، ولكن هذه العملية لم تكن مفتوحة للجميع، وعلى الرغم من أن كلاً من أفلاطون وأرسطو كان  قد قبل  أن يتم الإطاحة بحاكم سيء، الأ أنهما لم يوافقا على أي شكل من أشكال التمرد العمومي.

فمن الذي يُحدد العدالة؟ ماذا يحدث عندما تفرض الديكتاتورية العسكرية الحكم، مدعية أنها تفعل ذلك من أجل منع الاضطرابات والفوضى؟ من يستطيع أن يفصل بين الحكام والناس؟ وهل يمكن أن تكون الدولة آمنة حقًا  عندما توجد مواجهة طويلة الأمد بين الحكام والناس؟

ومن يُسيطر على الحقيقة في مثل هذا الموقف؟ يقبل أفلاطون بـ"الكذبة النبيلة" حول الطبيعة الثابتة للفئات الثلاث للمجتمع. ولكن ماذا عن "الكذبة النبيلة" حول كل الاضطرابات المدنية التي تنتج عن العناصر الإجرامية أو مثيري الشغب الأجانب؟

العدالة من الناس

تنص المادة 21 من إعلان الأمم المتحدة لحقوق الإنسان على ما يلي: "تكون إرادة الشعب هي أساس سلطة الحكومة". وبعبارة أخرى، تؤيد الديمقراطية باعتبارها أفضل نظام حكومي قادر على حفظ حقوق الإنسان. وينتج   هذا من نهج العقد الاجتماعي. حيث يتم تشكيل الحكومات من خلال اتفاق الشعب، وجزء من هذا الاتفاق هو أن  يقبل الأفراد بأنهم ملزمون بالقانون الذي  تضعه أو تنفذه  الحكومة.

تُنشئ الحكومات سلطة سياسية وتَفرض هذه السلطة من خلال القانون، وهذه سمة أساسية للاستقرار والأمن الداخليين للدولة. أن السؤال الأساسي الذي يتطلب أن يُطرح عن نظام ديمقراطي هو: إلى أي مدى ينتج أو يُشرع القانون من قبل الشعب، بدلاً من فرضه عليه؟

سنعود إلى هذا السؤال لاحقًا عندما نناقش موقع أو مكان التشريع. في الوقت الحالي، نحتاج، الآن، أن نضع في اعتبارنا القضية الأساسية للمبدأ التالي ــ يصوغ الشعب في ظل الديمقراطية، ومن خلال ممثليه المنتَخبين القوانين التي يتم إقرارها. بالإضافة إلى ذلك، لدينا مبدأ أن تطبيق العدالة من خلال محاكم مستقلة  ومنفصلة عن السلطة التنفيذية للحكومة.  لقد تم تصميم هذا  النظام من أجل توفير حماية إضافية من الاستخدام التعسفي لسلطة الحكومة.

لاحظ أنه، من وجهة نظر ليبرالية ديمقراطية  يتم الاتفاق على العدالة بين الناس، ويمكن تطبيقها على أُسس نفعية ــ تهدف القوانين إلى التعبير عن رغبات غالبية الناس. يسقط هذا مسألة ما الذي يشكل الحياة الجيدة، أو الازدهار البشري، وما إذا كان القانون يمكن أن يساهم في ذلك. ففي ظل الديمقراطية، ليس من المتوقع أن تقوم الحكومة بتحسين حياة الناس وفق تصورها أو كما تريد، بل أن واجبها أن تفعل ما يريدون.

حقوق

- ما هي الحقوق الأساسية التي يجب أن يتمتع بها كل فرد؟

- كيف يمكن حماية هذه الحقوق؟

- تحت أي ظرف من الظروف ولأي سبب، يجب على الدولة نزع حقوق الأفراد؟ (على سبيل المثال، قد تتم إزالة الحق في الحرية الشخصية للشخص الذي ارتكب جريمة، أو يشكل  خطراً على حياة الناس، من خلال وضعه في السجن).

قامت الجمعية الوطنية لفرنسا، في أغسطس عام 1789،  "اعتقادًا منها بأن جهل الإنسان أو إهماله أو ازدرائه لحقوق الإنسان هي السبب الوحيد للكوارث العامة وفساد الحكومات"، التي أصدرت إعلان حقوق الإنسان، أول فقرة فيه  " يولد الناس ويظلون أحرارا ومتساوين في الحقوق" وتلك  هي الحقوق "الطبيعية" والتي هي: الملكية، الحرية، الأمن، وحق مقاومة القمع.

 إنَّ الحقوق الموضحة في ذلك الإعلان معروفة : يجب اعتبار الناس أبرياء حتى تثبت إدانتهم؛ تمتد السلطة  على الدولة بأكملها، وليس على بعض الفئات من  الناس، و للناس الحق في الأمن والملكية وحرية التعبير.  إن المعنى العام للإعلان هو من حق  الفرد أن يكون متحرراً من الممارسة التعسفية للسلطة ويحميه القانون.

عندما كانت المستعمرات الأمريكية على وشك إعلان استقلالها عن بريطانيا، نشر ناشط سياسي أمريكي يدعى توماس باين (1737-1809) كتيب بعنوان Common Sense. ودعا إلى استقلال المستعمرات الأمريكية، والتخلص من الملكية وإقامة حكومة جماعية جديدة من شأنها أن توفر توزيعًا أكثر مساواة للثروة، والتخلص من مزايا طبقة النبلاء. وقال إن النظام السياسي يجب أن يستند إلى العقل والديمقراطية. وقد قيل أن هذا الكتيب بيع منه  150،000 نسخة!

لكن باين اشتهر بكتابه "حقوق الإنسان"، الذي نشر في جزأين في 1791 و 1792 – الذي وجه به هجوم جذري على كتاب " تأملات في الثورة في فرنسا"  من قبل المفكر السياسي البريطاني المحافظ، إدموند بيرك (1729-1797)، و كان قد تم نشره في العام السابق. على الرغم من دعم بيرك لاستقلال المستعمرات الأمريكية، الاَّ أنه كان ينتقد الثورة في فرنسا، ودعا إلى التغيير التدريجي في المجتمع والحفاظ على التقاليد الراسخة، بدلاً من الثورة. كما قبل نظام الطاعة واعتبره نظاما طبيعيا، وهذا ما لايمكن أن يقبله أو يتسامح به باين.

 بالضد من الحكم بالقوة أو بالسلطة الدينية،  يرى باين بأن أساس الحياة السياسية يجب أن يكون ميثاقًا اجتماعيًا - اتفاق بين الناس على العمل من أجل الصالح العام (بدلاً من بين الناس وحكومتهم)، لأن الناس موجودون قبل الحكومات: لذلك يجب أن يدخل الأفراد أنفسهم، كل منهم في حقه الشخصي والسياسي، في اتفاق مع بعضهم البعض لتشكيل حكومة: وهذا هو الأسلوب الوحيد الذي من حق الحكومات أن تنشأ عنه، والمبدأ الوحيد لديهم الذي يُعطي للحكومة حق وشرعية. (حقوق الإنسان - الجزء الثاني)

وقد أيد باين ماجاء في الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان، لا سيما في ممارسة "الحقوق الطبيعية لكل إنسان" - القيود الوحيدة على الحرية هي أن المرء يجب ألا يمنع الآخرين من ممارسة حرية مماثلة (بالضبط الحجة  نفسها التي وضعها أن لوك). وقد أوضح الأعلان أيضًا أن القانون يجب أن يحظر فقط تلك الأشياء التي تضر بالمجتمع، وبالتالي لا ينبغي منع أي شخص من فعل أي شيء لا يحظره القانون على وجه التحديد، ولا ينبغي الطلب منهم القيام بأي واجب  غير منصوص عليه  في القانون.

قام باين  بتمييز هام بين "الحقوق الطبيعية" (كما أعلنها الفرنسيون) و"الحقوق المدنية":

- الحقوق الطبيعية - هي تلك التي تؤكد على حق  الإنسان في وجوده.  وجميع الحقوق الأخرى من هذا النوع الحقوق الفكرية، أو حقوق الرأي، وكذلك جميع حقوق تصرف الفرد من أجل راحته وسعادته.

-"الحقوق المدنية -" هي تلك التي تؤكد على  حق الإنسان بأعتباره عضوًا في المجتمع. كل حق مدني له أساس في  بعض الحقوق الطبيعية الموجودة مسبقا للفرد..... (الاقتباس من حقوق الإنسان (الجزء الثاني).

الحقوق الطبيعية

نحن بحاجة إلى التوقف للنظر في معنى المقصود بالحق الطبيعي. لا توجد حقوق في الطبيعة. إنَّ الفكرة المتمثلة في أن للناس حقوقًا يمكنهم استخدامها لمجابهة الظلم الذي يصيبهم، هي نتاج نظام الاتفاقيات والقوانين المعمول بها في الدولة. الحقوق والقانون، وفكرة العدالة بأكملها، تعمل بمثابة مراقبة وتوازن لضمان حماية الأفراد. ستكون الحقوق زائدة عن الحاجة في مجتمع يتم كل شيء فيه بطريقة عادلة بما يرضي الجميع.

وبالتالي، لا توجد "حقوق طبيعية" و "قانون طبيعي" في الطبيعة، بل هي نتيجة لتفسير الطبيعة من خلال العقل البشري. لذلك، على سبيل المثال، الميزة الأساسية لنهج "القانون الطبيعي" في الأخلاقيات هي أن لكل شخص حق في الدفاع عن النفس - لأنه من الواضح أن الدفاع عن حياتك هو وظيفة أساسية لجميع الكائنات الحية، وسيكون من غير الطبيعي أن نتوقع من شخص لا يتصرف للحفاظ على نفسه . لكن هذا تفسير عقلاني - أن نقول إن كل شخص، عندما يتعرض للتهديد، يدافع عن نفسه فعليًا، ليس أكثر من ملاحظة (وبالطبع، قد لا يكون صحيحًا دائمًا)، ولكن القول بأن لكل فرد الحق في القيام بذلك أمر مختلف تمامًا - فهو يقدم مبررًا معقولًا لما يحدث.

 دعى بنثام الحقوق الطبيعية بالهراء، وجادل بأن الحقوق ليست "طبيعية" ولكن تم تأسيسها من قبل الإنسان بموافقة واتفاق. في حالة طبيعية (كما في حالة "الوحشية") لا يوجد أمن ولا قوانين ولا حكومة. وحجته هي: 

- ما هو غير موجود، لا يمكن تدميره ولا يحتاج إلى حماية.

- الحقوق الطبيعية غير موجودة، فمن غير المنطقي أن نفهمها ونطالب بالدفاع عنها.

لذلك كان ضد أي شيء يقول أن هناك حقًا أساسيًا يمكن للفرد أن يطالب به بمجرد ولادته. فالأساس الوحيد للحقوق – كما يرى بنثام- هو "المنفعة العامة". ولذلك  تلتقي الحقوق والقانون  لأنهما من صنع الإنسان، فلدى الإنسان حقوق ذلك لأن القانون يحددها. لكن في حالة عدم وجود قانون، كما في حالة الطبيعة، لا يمكن للإنسان التمتع بحقوق.

 لقد وجِهت أنتقادات عديدة لموقف بنتام النفعي، لأنه لا يقدم أي مرجعية مطلقة أو نهائية، ولا يوجد شرط أساسي بأن البشر يجب أن يُعامَلوا بطرق معينة بحكم كونهم إنسانًا.

فهناك من يدافعون بقوة عن الحقوق الطبيعية. يقول جون فينيس (أستاذ القانون في جامعة أكسفورد)  في عمله الرئيسي (Clarendon Press، 1979)  حيث يشرع في دراسة تلك الحقوق التي تتطلبها المعقولية العملية والتي يمكن تنفيذها من خلال القانون. إن هناك "سلع" أساسية لها قيمة جوهرية، بما في ذلك الحياة نفسها والمعرفة والصداقة والدين. قد يعتقد الناس أن بعض هذه "السلع" أهم بالنسبة لهم أكثر من غيرها، لكن لا يمكن قياسها منطقياً ضد بعضها البعض؛ جميعها قيمة ولا ينبغي تجاهلها.

إن أتباع نهج "القانون الطبيعي" العام يمكن أن تُفهم وتُفسر من خلاله  الطبيعة الأساسية للواقع. أن تكون إنسانًا تفترض وتوحي بأشياء معينة، بصرف النظر عن أي اتفاقات قانونية لاحقة.

 

الدّكتور علي رسول الرّبيعي

 

في المثقف اليوم