أقلام حرة

الحتمية الاجتماعية والاحتمالية الثقافية

إن بُنية الذات الإنسانية لا يمكن أن تتحدَّد معالمها إلا مِن خلال منظومة اجتماعية حيوية وفعَّالة، لأن الإنسانَ جُزءٌ مِن الكُل الاجتماعي، وانعكاسٌ عن مِرآة العقل الجمعي . والغُصن لا يَقْدِر على إنكار الشجرة التي جاء منها، مهما كان صَلبًا وقاسيًا، والسمكةُ لا تستطيع العَيش خارج الماء، مهما كانت قوية ومتمردة . وهذا يعني أن أهمية الجُزء مُستمدة مِن قيمة الكُل . وكُل السلوكيات الاجتماعية الفردية نابعة مِن إفرازات المنهج الاجتماعي العام، الذي يقوم على تكريس النماذج التقليدية كمُسلَّمات ونظريات ثابتة . والمسؤوليةُ المعرفية للفرد تُحتِّم عليه أن يَطرح الأسئلةَ على الأنساق الاجتماعية، ويبحث عن إجابات شافية نابعة من قوة المنطق، وغَير مَفروضة بقُوَّة الأمر الواقع. وكثيرٌ مِن الأفكار الاجتماعية تكرَّست بفِعل التراكمات الزمنية ( القوة الخارجية المفروضة بحُكم العادات والتقاليد )، وليس بفِعل القوة الذاتية والتماسك الداخلي . وهذا الأمرُ يَجعل الفردَ مُجرَّد رَد فِعل، يتلقَّى الأوامرَ، ويستقبل التعليمات، ويُشاهد الأحداث، دُون أي دور في صناعتها وتوجيهها . وهذه الإشكاليةُ الكُبرى تُهدِّد ماهيةَ الفرد كقيمة معرفية وكيان فكري وبُنية ثقافية ومنظومة شُعورية، وتُحاصر هويةَ الفرد ضمن إطار من العُزلة الخانقة، التي تتماهى مع الاضمحلال التدريجي . وإذا أرادَ الفردُ كَسْرَ الحصار المفروض عليه، فلا بُد أن يَجعل سُلوكَه الاجتماعي رمزًا للانفتاح على المعنى الإنساني الراقي، ويُحوِّل القيمَ الذهنية التجريدية إلى مُعطيات واقعية، تُعيد إنتاجَ الواقع، وصناعته من جديد، بشكل يتوافق مع الحُلم الإنساني في الحرية والتحرر بعيدًا عن العبث والفوضى .

2

لا يُمكن للفرد أن يشعر بجدوى الحياة، إلا إذا نجح في تحويل الحُلم الإنساني إلى ظاهرة اجتماعية . وبعبارة أخرى، تحويل القيم الذهنية الهُلامية إلى منظومة اجتماعية ثقافية . ولا بُد في هذا السياق من ربط الحتمية الاجتماعية بالاحتمالية الثقافية، والتفريق بينهما في الخصائص والماهيات والتطبيقات . إذ إن القيم الاجتماعية ذات طبيعة إنسانية، والإنسان هو الإنسان في أي مكان في العالَم، مهما كان دِينه أو جِنسه أو عِرقه أو لَونه، وهذا يَجعل الحالةَ الاجتماعية ذات صِفة حتمية، وتتمتَّع بمسار أُحادي، في حِين أن القيم الثقافية مُتنوعة ومُختلفة تَبَعًا لاختلاف الزمان والمكان وطبيعة الأمم والشعوب، وهذا يَجعل الحالةَ الثقافية ذات مَنحى احتمالي مُتشعِّب ومُتعدِّد المسارات . وهذا الفرقُ الجوهري يُحدِّد طبيعةَ المساراتِ الإنسانية التي يسير فيها الفِكرُ. وإذا عُرِفَت قيمةُ العُنصر الاجتماعي، عُرِفَ مَوقعه ودَوره في المنظومة الثقافية . ولا شَك أن القطعة إذا عُرِفَت قيمتها، عُرِفَ موقعها ودَورها في الآلة .

3

كُل عُنصر في البُنية الاجتماعية الثقافية له وظيفة حياتية ودَور وجودي . وثنائيةُ (الوظيفة / الدَّور) تختلف باختلاف المكان، والمكانُ هو الذي يُحدِّد المكانةَ . والشَّيء نفْسه قد تنتقل وظيفته من النقيض إلى النقيض، تَبَعًا للموقع الذي يُوجد فيه . فمثلًا، إن وظيفة المِسمار في خشب السفينة، تختلف عن وظيفة المِسمار في خشب النَّعْش . إن ماهية المِسمار لم تتغيَّر، لكن مَكانه تغيَّر. ووَفْق طبيعة المكان، يتم تحديد طبيعة الوظيفةِ والدَّورِ والمكانةِ . وهذا المثال الذي يبدو بسيطًا، يدل على أهمية المنظومة الكُلِّية الجامعة، وسَطوتها على العناصر، ويُشير إلى سيطرة الكُل على الجُزء. والوسيلةُ الوحيدة لمنع التعارض بين الكُل والجُزء، هي تحديد مسارات التوازي والتقاطع في عَالَم الأفكار وتطبيقاتها، لأن الأفكار صانعة الواقع . ومهما كانت الأفكار مُتحرِّرة ومُنطلقة، فلا بُد أن تُصَبَّ في قوالب واقعية محدودة، لأن الواقع نابع من بيئة الحياة الملموسة، لذلك يتَّصف بأنه محدود ومحصور، أمَّا الأفكار فنابعة من بيئة الخيال غير الملموسة، لذلك تتَّصف بالتحرُّر والانطلاق . وكما أن السيطرة على سِكك الحديد، تَمنع تصادم القطارات، فكذلك السيطرة على مسارات المجتمع، تَمنع تصادم الأفكار .

 

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

 

 

في المثقف اليوم