أقلام حرة

قمة سوتشى.. ماراثون سياسي فى 48 ساعة

عبد السلام فاروقمدينة "سوتشى" الروسية التى استقبلت أولمبياداً رياضياً فى 2014.. شهدت أولمبياداً سياسياً أكثر سخونة وقوة..إنه الحدث الأهم عالمياً طبقاً لمراقبين غربيين: قمة "روسيا – أفريقيا".. فلماذا بات لديهم هو الحدث الأهم؟!

أسباب كثيرة يمكن استشفافها..

أولاً: لأنه يشهد تدشيناً لتحول استراتيجى ضخم من الجانبين.. الدب الروسي يغوص بأقدامه الثقيلة أكثر فى العمق الأفريقي، والمارد الأفريقي يستقبل الضيف الجديد بحفاوة واهتمام .

ثانياً: أن أفريقيا كلها مدعوة للحضور فى سوتشى، برئاسة مشتركة للمؤتمر بين الرئيس السيسي من جانب باعتباره رئيس الاتحاد الأفريقي، وبين الرئيس بوتين رئيس روسيا الاتحادية.. هناك 40 رئيس دولة أفريقية وقادة للإتحادات الدولية الكبري والمؤسسات والمنظمات الهامة ذات الثقل الاقتصادى.

ثالثاً: أن الغرب الأمريكي والأوروبى يتابع هذه الخطوة بعين الاهتمام المشوب بالتلمظ والغيظ.. فها هو بساط الهيمنة الغربية على مقدرات الأفارقة ينسحب من تحت أقدامهم الوالغة فى مزيج الدم والنفط. وها هم الروس يتقدمون بخطى ثابتة لإثبات ذواتهم كقوة كبري على الساحة الدولية .

 

إننا على أعتاب حقبة جديدة من الشراكة الاستراتيجية لا بين دولتين، بل بين أكبر قارتين من حيث كثافة السكان ووفرة الموارد.. فماذا يُنتظر من مثل هذه الشراكة القائمة بين القارة السمراء الشابة من ناحية وبين أكبر قوة اقتصادية وعسكرية فى قارة آسيا؟

مصر هنا تلعب دوراً محورياً فى تحقيق مثل هذا الهدف الاستراتيجى الهائل.. وروسيا فى حاجة لمصر وثقلها الإقليمى والدولى لتلعب هذا الدور.

السؤال الأبرز هنا : كيف تستطيع مصر أن تستغل هذا المؤتمر أفضل استغلال لتمرير ملفاتها الأهم لدى روسيا من ناحية، ولدى أصدقائها الأفارقة من ناحية أخرى؟

القادمون بقوة

ثمة حماس ملحوظ لدى كافة الأطراف لهذا المؤتمر الاستثنائى..

هناك تحضيرات وفاعليات كثيرة سبقته، وثمار هائلة يُنتظر لها أن تُجنى بعده .

أقلها وأسهلها الترويج السياحى والاقتصادى لمصر. وثمار أخرى كثيرة أشهى وأعظم..

مائدة متسعة سوف تضم كبريات الشركات هنا وهناك.. وآفاق بعيدة يَعِد بها هذا المؤتمر الطموح.

طبقاً للشعار الدعائى للمؤتمر: "Russia-Africa Economic forum" أنه مؤتمر اقتصادى فى المقام الأول . ووفقاً لبيان وزارة الخارجية، أن من المأمول توقيع حزمة هامة من الاتفاقيات فى المجالات التجارية والاقتصادية والاستثمارية، وأن القمة تسعى للتركيز على تنمية مجالات التعاون المشترك سياسياً واقتصادياً وفنياً وثقافياً.. بالإضافة لمناقشة ملفات الجهود المشتركة لمواجهة التحديات والتهديدات لتعزيز الاستقرار الاقليمى .

روسيا اليوم تخطو نفس الخطوة التى قامت بها الصين منذ عدة سنوات مضت، وبالتحديد عام 2006 حيث انعقدت القمة الصينية الأفريقية الأولى، والتى تَضاعف بعدها التواجد الصينى وحجم التبادل التجارى بين الصين وبين دول أفريقيا تضاعفاً مذهلاً بحيث بات حجم التعاملات الصينية الأفريقية يفوق نظيرتها الروسية بعشر مرات! فهل تأخر الدب الروسى فى هذه الخطوة، أم أنه كان يزنها ويؤخرها لحاجة فى نفسه؟ أم أنه تجنب خوض مثل هذا النوع من الصراع الاقتصادى ضد أمريكا وأوروبا اللتان سبقتاه فى أفريقيا بعشرات السنين؟

وإذا كانت روسيا تتحسب لمثل هذه الخطوة، وتزنها بالميزان السياسي الحساس، فهل مصر تفعل نفس الشئ؟ هل ينبغى لمصر حقاً أن تخشى إغضاب شريكتها أمريكا بإقدامها على توطيد العلاقات الاقتصادية والسياسية مع روسيا؟

بوتين أم ترامب؟ أم كلاهما معاً؟

لأول مرة منذ عقود طويلة يشهد العالم رئيساً أمريكياً منفتحاً على روسيا، ولا يعتبرها عدواً . بل يزورها باعتبارها صديق محتمل.. هذا تحول استراتيجى خطير فى منحنى السياسة الأمريكية .

إننا أمام فرصة لا بد من اقتناصها..

أمامنا رئيس روسي ذكى يمد يده بالتعاون لأبعد مدى.. ورئيس أمريكى لا يمانع من حدوث مثل هذا التقارب، أو على الأقل لا يستطيع منعه . فلماذا لا ننتهز الفرصة السانحة؟

إننا لن نهجر أمريكا ولن نتخلى عن شراكتنا الاستراتيجية العريقة معها، وفى نفس الوقت سوف ننشئ علاقة أخرى متوازنة وقوية مع روسيا لتحقيق المصلحة المشتركة؟ فما الذى يضير أمريكا من هكذا معادلة؟!

صحيح أن أمريكا يحلو لها أحياناً أن تلعب دور الزوجة الغيور . لكن عليها أن تتحلى قليلاً ببعض المرونة وتتخلى قليلاً عن غيرتها وساديتها السياسية .

مؤتمر سوتشى فرصة عظيمة علينا استغلالها لتحقيق أقصي فائدة اقتصادية وسياسية ممكنة، دون الجور على الحق الأمريكي السامى!

إحداث التوازن.. اليوم قبل الغد

العالم اليوم يمر بعدد من المتغيرات الجيوسياسية الهائلة..

قوى تصعد، وقوى تسقط.. تحالفات تنحل، وأخرى تنشأ.. حروب وعمليات عسكرية هنا وهناك.. خريطة سياسية على صفيح ساخن ملتهب.

استقراء المشهد المستقبلى بات ضرورياً لتحديد الأولويات وتمييز الأصدقاء من الأعداء .

الصين انتهجت سياسة الباب المفتوح، ومدت يد الصداقة والشراكة للجميع.. واقتطفت ثمار تلك السياسة الناجحة.

روسيا الاتحادية فى نسختها الجديدة بقيادة بوتين بدأت تنحو نفس المنحى، وتحاول اختراق سياج الهيمنة الأمريكية بطريقة مدروسة ومشروعة، من خلال بناء تحالفات اقتصادية متينة . فمن منطلق كونها إحدى الدول الخمس دائمة العضوية فى مجلس الأمن، حاولت روسيا تقديم نفسها كشريك متضامن للحفاظ على السلم الدولى عن طريق المشاركة الفاعلة فى المنتديات والشراكات الاقتصادية حول العالم.. إنها عضو فى مجموعة الدول الثمانى الصناعية، ومنظمة الأمن والتعاون الأوروبى، وفى منظمة شانغهاى،ومنظمة معاهدة الأمن الجماعى، ومجلس أوروبا، ومنتدى التعاون الاقتصادى الآسيوى، والمجموعة الاقتصادية الأوراسية..

هل نستطيع أن نتخذ من روسيا متّكئاً لتطلعاتنا الاقتصادية، كما تتخذ روسيا منا مرتكزاً لمراميها الأفريقية؟

 

لسنا "ترانزيت".. نحن محور ارتكاز

روسيا لها علاقات واسعة مع عدد كبير من البلدان الأفريقية غير مصر .

دول مثل أنجولا وغانا ومالى وأوغندا وأثيوبيا والجزائر وناميبيا تربطها علاقات اقتصادية بالدب الروسي تتركز أغلبها فى صفقات السلاح .

مؤتمر سوتشى يفتح آفاقاً جديدة لأنواع أخرى من الصفقات الاقتصادية والاستثمارية.. ربما فى مشاريع البنية التحتية أو الطاقة أو التكنولوجيا أو التقنية .

ومصر هى المفتاح لكل هذا .

موقعها المتميز بين القارات الثلاثة يتيح لها أن تلعب دوراً محورياً دائماً لتعظيم العلاقات الروسية الأفريقية لا كمجرد معبر أو ممر . بل كشريك تجارى، وملتقى مشترك للطرفين .

مصر لديها عدد من الأسواق الحرة، وأسطول من الطيران المدنى، بخلاف الموانئ وشبكة المواصلات الداخلية، والأيدى العاملة الوفيرة.. فهل وقع عليها الاختيار لتلعب هذا الدور المحورى؟

عصر "الدويتوهات " السياسية

بخلاف كوريا الشمالية.. تسعى كل بلدان العالم للانفتاح على غيرها من الدول وتسوية نزاعاتها مع جيرانها وتصفير مشاكلها الخارجية لتتفرغ لشئونها الداخلية الصعبة .

هكذا صارت كل دولة تبحث عن صديق أو حليف قوى يساندها .

الأمر لم يعد قاصراً على الدول الضعيفة، بل حتى الدول القوية تفعل، بدليل معاهدة الصداقة بين الصين وروسيا . هذا أحدث وأقوى دويتو سياسي على الساحة الدولية اليوم.

تعددية الأقطاب التى نراها الآن فى ملعب السياسة الدولى، نشأت فى الأساس من خلال شبكات التحالفات بين الدول ذات المصالح المشتركة.. ما أفقد أمريكا صدارة المشهد .

فما هى شبكة تحالفات مصر؟

وهل نشهد اتساع هذه الشبكة من خلال مؤتمر سوتشى وما وراءه من مؤتمرات؟

القوى الروسية الناعمة.. الأجمل والأقوى والأقدم!

قديماً عرفنا روسيا من خلال الأدب والفن .

الفولكلور الروسي، وفرقة البولشوى الأشهر والأقوى عالمياً فى أداء الباليه الراقى على أنغام موسيقى تشايكوفسكى، وريمسكى كورساكوف .

أدباء كثيرون فى مصر وأوروبا وحتى أمريكا نفسها تتلمذوا على روايات ليو تولستوى وأنطون تشيكوف وأشعار بوشكين .

اليوم باتت روسيا ذات تواجد إعلامى وفنى وسينمائى كبير وملحوظ . وقناة روسيا اليوم الفضائية التى انطلقت فى 2007 بنسختها العربية، أمست مؤثرة كمصدر تنويرى على خارطة الإعلام الفضائى .

هذا النوع من التواصل هو الأدوم والأبقى، والأكثر قدرة على الجذب السياحى .

فهل تستعيد روسيا دورها الريادى كقوة ناعمة فى مصر والشرق الأوسط؟

مشهد غريب.. أقدم حضارات العالم تلتقى..فتغيب الثقافة!

فى كل الصفقات الاقتصادية التى تنشأ بين مصر وغيرها من البلدان.. تغيب الصفقات الثقافية!

رغم أن صناعات الإبداع اليوم هى الأكثر ربحية .

لماذا لا نرى وزيرة الثقافة وسط موكب الوزراء الموقعين على الاتفاقيات والتفاهمات؟

هناك مشتركات كثيرة بين مصر وروسيا ثقافياً..

العمارة الروسية التى اعتمدت على القباب والزخارف شديدة القرب من العمارة الإسلامية المصرية. مناهج الأدب والفن لدينا استقت من روافد الأدب والفن الروسي.. حتى الأطعمة الروسية بها ما يشبه الأطباق المصرية، فالدرانيكى الروسي صنو الكباب، وأطباق العصيدة والسلاطة والمعجنات شبيهة بأطباقنا اليومية .

فلماذا لا تلعب القوى الناعمة دوراً فى التقريب بين شعبي روسيا ومصر، كما حدث التقارب بين حكومتيهما؟!

ماراثون سياسي فى 48 ساعة

فى يومين فقط، 23 و 24 من أكتوبر الحالى تنعقد القمة الروسية الأفريقية فيما يشبه الماراثون الاقتصادى، أو المباراة القصيرة الساخنة تحت شعار " من يسبق يكسب" .

أفريقيا كلها بمؤسساتها ومنظماتها وشركاتها الكبري ستكون هناك..

ثمة معرض يقام فى إطار فاعليات المؤتمر، يتيح لكل دولة عرض ما لديها من إمكانيات وأفكار خلاقة موحية بمجالات التعاون الممكنة فى التعدين والطاقة والزراعة والنقل والتقنيات

فمن يسابق مَن لاقتناص الصفقة الرابحة؟

 

عبد السلام فاروق

 

في المثقف اليوم