أقلام حرة

ثورة الواتس آب.. من أعجب ثورات التاريخ

عبد السلام فاروقإنها ثورة لبنان..

ليست كثورات الربيع، أو ما قيل أنها كذلك .

وهى ليست كالانتفاضات الأخيرة فى السودان أو الجزائر أو العراق.

إنها شئ آخر.. لا باعتراف الثوار أو الفرقاء أو المتابعين لها فى المشرق العربي وحدهم، بل طبقاً لآراء العالم بأسره، وهو الذى يتابع هذه الثورة بالذات ويتفرج عليها بمزيج من الاستمتاع والدهشة .

والدهشة لم تكن بسبب أنها ثورة قامت تحت ضغط رسائل الواتس آب ! ولا أن الجنس الناعم اللطيف من قادتها، وهو أمر لا يعيب الثورة ولا لبنان . فهذا البلد مشهور بالجميلات، وهنَّ هناك كالرجال فى قوة الشخصية والتأثير، وكملكات جمال العالم فى الإغراء والشكل.

لكن هناك أسباب أخرى أعمق وأشد تعقيداً مما يبدو على سطح هذا المشهد الاستثنائى المدهش .

فى لبنان أنت أمام بلد مختلف وعجيب، يجمع كل المتناقضات فى جعبته الصغيرة الشبيهة بقبعة الساحر!

بلد أكثر شعبه يعيش فى كل بلاد الدنيا (أكثر من 8 ملايين لبنانى مهاجرون)، والأقل هم من يعيشون فيه (حوالى 4 ملايين ونصف)!

هؤلاء القلة تجار متمرسون منذ أجدادهم الفينيقيين .

وهم على قلتهم لهم مشارب ومذاهب وأحزاب وانتماءات تتنوع وتتعدد وتتمزق إلى موارنة وأرمن وسريان ولاتينيين وإنجيليين ودروزيين وعلويين وشيعة وسنة ! خليط عجيب مدهش، والأكثر إثارةً للدهشة والعجب أنهم عاشوا فى انسجام أقرب للمعجزة رغم الاختلافات الجوهرية فى مذاهبهم المتعددة فكرياً وعقائدياً . فالمصالح التجارية والمادية تلغى هذه الفروق وتصير المسألة الحيوية هنا هى الوصول إلى "عقد اتفاق" يرضى أغلب الأطراف . تلك هى العقلية التجارية .

وهذا ما حدث على مدار التاريخ اللبنانى.. أزمة 58 انتهت باتفاق بين أيزنهاور وجمال عبد الناصر، الحرب اللبنانية الأهلية التى استمرت 15 عاماً، انتهت باتفاق الطائف. الخلافات بين فريقي 8 آذار، و14  آذار، أى بين الموالين للوجود السورى والمناهضين له، انتهت عقب ثورة الأرز على يد الأمم المتحدة وبالاتفاق بين الفرق المتناحرة على عقد يرضى الجميع.

لهذا كانت ثورة لبنان ثورة مختلفة..

إنها تحمل فى طياتها كل هذا التاريخ الدسم الملئ بالتعقيدات، وهذا الواقع المتخم بأحمال التاريخ!

لا تستطيع لبنان فكاكاً من التعدد الطائفى، لأنها طبيعة البلد والشعب منذ عشرات السنين.. الجميع يعلم هذا، الشعب والحكام . وأقول حكاماً، لأن هناك قادة يحكمون الشعب معاً لا حاكم واحد مفرد.. هذا واقع مرير لا تنفك عنه لبنان .

والمسألة الحيوية والجوهرية فى لبنان ليست فى السؤال: مَن يحكم؟

بل فى السؤال: ما بنود عقد الاتفاق؟ ومَن أطرافه؟

الثوار يعرفون هذا.. والحكام أيضاً..ولهذا تبدو الأمور رغم التجاذب والغموض محسومة !

فحتى لو انتصرت الثورة، فإلى أين تتجه رياحها؟ وما هو اتجاه البوصلة السياسية حينئذ؟

الأغلب أن الوضع سيبقَى على ما هو عليه حتى لو اختلفت الوجوه، أو اختفت بعض الوجوه.

الثوار أنفسهم يتحدثون وفى أعينهم حيرة، وعلى أطراف ألسنتهم سؤال لا ينتظرون له إجابة!

خاصةً وأن تجارب الثورات من حولهم لا تبشر بخير .

هم يعلمون أن هناك قادة لا مجال لإخراجهم من المشهد، وأن هناك قوى متصارعة لن تتنازل عن نصيبها فى الكعكة اللبنانية . وبرغم الأمل العظيم الذى ينطلق من صدور تنبض بالشباب والأمل، إلا أن نبرة اليأس فى كلماتهم لا تشى بهذا الأمل.

بؤرة الثورة شعار: "كِلّن، يعنى كلن".. لماذا؟

من أعجب ما فى ثورة الواتساب، شعارها الذى تحول إلى أغنية لطيفة سرعان ما انتشرت على الفضائيات ومواقع التواصل.. هذه الأغنية لها مطلع يقول: " كِلُّن يعنى كلن، ولا واحد مِنُّن "، والترجمة: " لا بد أن يغادر الجميع، ولا يبقى أحد من هذه الوجوه التى سئمناها" . إنها الرغبة فى تغيير المشهد السياسي تغييراً شاملاً لا يُبقِى ولا يذر.

إنه شعار نابع من هذا اليأس العظيم، كما أنه نابع من نفس الأمل الغامض العظيم لدى الشباب اللبنانى: أن الثورة قادرة على إزاحة كل الوجوه التى باتت عبئاً على الواقع اللبنانى .

وجوه قديمة عقيمة تآكلت وتهالكت، وآن الوقت لتغييرها جميعاً..

لكن التساؤل يبقى رغم الشعار: لو أن هذه النخبة السياسية كلها غادرت المشهد الصغير . فهل سيتغير المشهد الكبير؟

إن الصورة ستبقى هى هى فى كل الأحوال . الخلافات الطائفية وصراعات الحكم داخلياً وخارجياً، وأطراف الصراع سوف يبقون ولو اختلفت الوجوه .

هذا هو سر اليأس فى نبرة ثوار يبحثون عن الأمل فى التغيير . أى تغيير والسلام!

إنهم يعلمون أن المشهد لن يتغير كثيراً لو وُجد من يستطيع إزاحة رموز السياسة اللبنانية القدامَى، ليأتى لهم بوجوه جديدة سرعان ما تتلون بالألوان الطائفية المعتادة، وتتحكم فيهم قوى أكبر منهم كالمعتاد!

فما جدوى الثورة ؟

لا أحد يسأل هذا السؤال، ولا أحد يريد.. فالثوار مستمتعون بالفعل الثورى فى ذاته حتى لو لم يُفضِى إلى شئ . إنهم ثائرون وكفى . إنها فرصتهم للصراخ بما يعتمل فى صدورهم من تساؤلات وهموم ومتاعب ومشاكل وتمرد وغضب . لكنهم رغم غضبهم يمرحون ويرقصون . ويعبِّرون عن تمردهم لا بالانفعال والتوتر والتراشق والتدافع، بل بالأغانى وابتكار الشعارات والتقليعات الثورية الحديثة . لأنهم لا يحملون هَمَّ الاستجابة لمطالبهم إن كانت لهم مطالب . بل ربما لا يريدون من الحكام استجابة، فالثورة فى ذاتها هى الهدف الأوحد، إنها تقليعة يريدون تجريبها والانسياق لها .

لهذا كان الشباب والمطربون والفنانون هم قادتها . إنهم مستمتعون بالمشهد الثورى وكفَى .

ولهذا يتابع الجميع هذا المشهد من موقع المتفرج الشغوف بالأحداث فى ذاتها، ولا أحد ينتظر ما تسفر عنه الأحداث، لأنه لا أحداث هناك . كأن العالَم لا يأخذ هذه الثورة على مَحمل الجد .

ولسوف يأتى التغيير . حين يأتى من يضع الجميع على طاولة المفاوضات.. التجارية لا السياسية!

رئيس مناضل.. بين ثورتين

هناك وجه وحيد بين النخبة السياسية اللبنانية يمثل لغزاً .

ثار الجميع من أجله قديماً حتى أتوا به رئيساً عقب ثورة الأَرز..

ولم تمر سوى سنوات قلائل حتى ثار الجميع ضده!

دار بينه وبين المحور السورى صراع مرير طويل، حتى صار رمزاً للاستقلال اللبنانى ورمزاً للكفاح الوطنى . ثم ما لبث أن بات متهماً بالفشل بعد أن صار رئيساً .

لبث فى المنفى عندما كان "رفيق الحريري" فى السلطة . ثم عاد للأضواء كرئيس للبلاد فإذا بالبلاد تنهار وتصل إلى ما وصلت إليه من انقسام وتشرذم. فهل يقع عليه عبء الفشل وحده ؟

الآراء كالعادة منقسمة بين مؤيد له ومعارض .

لكنه ليس وحده من يحكم لبنان.. هناك قوى تتقاسم السلطة . وليس الرئيس "ميشال عون" وحده المسئول عن حدوث الثورة . فهل يكون فى يده مفتاح الحل ؟  هل يبادر هو ليصير البطل الذى يعقد الاتفاق الذى ينقذ البلاد من الدخول فى منعطف الفوضى؟

وكعادة الأسئلة فى خضم الثورات.. هو سؤال بلا إجابة .

ما سر تعاطف المصريين مع ثورة الواتس آب؟

لا سر هناك..

إنه  العشق القديم المتبادل بين القاهرة وبيروت .

منذ عهد بعيد ونحن نحب لبنان بلداً وشعباً.. جمالها الخلاب، فنها، ثقافتها، صحافتها، أدبها، شعرها.. كل ما فيها فتان وفتاك .

لا يختلف مصريان على حب فيروز وصباح ووديع الصافى وإليسا ونانسي عجرم وغيرهم من فنانى لبنان الملأى بالمبدعين والمبدعات . كما لا يختلف أحد على أشعار إيليا أبو ماضى وكتابات جبران خليل جبران .

إن أول وأعرق صحيفة فى مصر قام بتأسيسها لبنانى هو "سليم تقلا" مع أخوه "بشارة".. وأول نقيب للممثلين فى مصر لبنانى أيضاً هو "جورج أبيض" مؤسس معهد الفنون المسرحية .

المصريون يعشقون كل ما هو لبنانى.. فطباعهم قريبة من طباعنا، خفة الدم، واللهجة الحلوة القريبة للسمع والقلب، وحتى أكلاتهم قريبة الشبه بأكلاتنا .

إنهم نحن بنكهة أوروبية .

نظرية المؤامرة.. هل لها وجود هنا؟

لا يمكن لأحد أن يغفل دور الأجندات الخارجية والأصابع الأجنبية فى الأحداث الخطيرة التى تمر بها المنطقة . لاسيما ولبنان متاخم للعدو الأول للعرب، والمتآمر الأقدم ضدهم.. إسرائيل.

ولاشك أن الفوضى التى تميز الانتفاضات والثورات تتيح الفرصة لكل التدخلات والأفعال التآمرية بكل أشكالها ودرجاتها . وأعداء لبنان والعروبة يتربصون لا بلبنان وحدها، بل بالعالم العربي كله .

هم دائماً موجودون خلف الكواليس وفى الزوايا والظلال.. يهدفون لتحويل دفة الأحداث لتصب فى مصالحهم وفى جيوبهم . فهل ينجحون ؟

إن حماة الثورة الحقيقيون هم أولئك الشباب فى حوارى وشوارع وأقضية لبنان. حتى ولو لم يأخذ العالم ثورتهم مأخذ الجد.. فلا بد أن يكون لصوتهم صدى عاجلاً أو آجلاً .

والمطلوب هو أن يكون قادة لبنان جميعهم هم الآخذون بزمام المبادرة لإحداث التوازن وإيجاد الحلول والوصول إلى صفقة عادلة ترضى جميع الأطراف قبل فوات الأوان.

 

عبد السلام فاروق

 

في المثقف اليوم