أقلام حرة

الشعب المصرى بؤرة الإشعاع الثقافى العربي

عبد السلام فاروقابحث عن الجمهور الأكثر صخباً .. تجده هنا فى مصر.. ابحث عن السينما الأكثر انتاجاً وانتشاراً فى المنطقة العربية، لن تجد سوى مصر ..

ابحث عن أصحاب الخبرة الأبعد والأعمق فى التجربة الإبداعية والإنسانية والفنية فى المنطقة، سوف يحدثونك عن الفراعنة وأبنائهم وأحفادهم ..

ليست صدفة أن الفراعنة هم أقدم شعب عرف النظام وفهم آليات الحضارة  فصنع أول امبراطورية فى التاريخ ..

وليست صدفة أن كل من حاول فهم الشخصية المصرية أصاب مرة وأخطأ ألف مرة!

إنها شخصية انصهرت فيها عشرات الأحقاب والعهود والآماد .. تعرضت للسخرة والغزو والاستعمار والعبودية وصمدت رغم كل شئ.. تلاعبت أناملها الرقيقة بالذهب والأرابيسك والنحاس، ورفعت سواعدها الحديدية صروحاً من الجرانيت والحجارة بقيت آلاف السنين .. ثم أوت إلى الكوخ الفقير قريرة العين راضية بما صنعت لغيرها!

الشعب المصري لغز قلما وجد من يفهمه ويفك شفرته العصية على الحل. ففى اللحظة التى يتهمونه فيها بالتكاسل والتواكل والفوضوية يتحول إلى كتلة متحركة نابضىة بالنشاط والفعل، كما رأيناه فى ثورة 19 وثورة 52 وحرب الألف يوم التى أفضت إلى انتصار أكتوبر وعبور خط بارليف.

وفى اللحظة التى يتهمونه فيها بالسلبية وانعدام الانتماء والانشغال بالتوافه عن قضاياه الوطنية، يثبت أنه أكثر حكمة وذكاءً من الجميع، وأنه على وعى تام بقضاياه وإن بدا للجاهلين جاهلاً، وللأغبياء منقاداً سلبياً . ثم يكتشفون روح الشهامة فيه .. فقط فى المواقف الحرجة، والاختبارات الفارقة. فيلتف حول قيادته السياسية فى وجه كل معتدٍ ومتربص.

الكلمة الأولى فى التاريخ كانت للشعب المصرى ..

فلمن تكون الكلمة الأخيرة؟

البعد التاريخى فى الشخصية المصرية

ثمة سمات عامة لدى ساكنى كل دولة .. تنبع من مجموع المؤثرات والخبرات الاجتماعية والبيئية والسياسية والاقتصادية والحضارية لتلك الدولة .. فاليابانى مشهور بالدأب والأمريكي بحب المغامرة والألمانى بالتفانى فى العمل .. فما هى سمات الشخصية المصرية وما مدلولاتها؟

رباطة الجأش والصبر والقدرة على التكيف لأبعد مدى .. هى أهم سمات الشعب المصرى .

بصرف النظر عن بعض المثالب والعيوب كالفوضوية واللامبالاة وقلة الانضباط .. وبغض الطرف عن التحولات الطارئة على هذه الشخصية فى العقود الأخيرة كالتفكك الأسري والهجرة والتحلل الأخلاقى. يظل الشعب المصرى هو الأقدر على امتصاص الأزمات والتكيف مع المستجدات والأزمات مهما تفاقمت.

الأنماط الاجتماعية فى الأدب المصري القديم والحديث خليط من شخصيات شتَّى، الحرافيش والفتوات وأولاد البلد وأولاد الأصول والأمراء والباشوات والبلطجية والبهلوانات والفهلوية .. والشخصية المصرية  مزيج من كل هؤلاء، رغم أنها ليست أحد هؤلاء !

التعقيد الماثل فى وصف الشعب المصرى انعكاس للمنعطفات التاريخية التى شكلت شخصية هذا الشعب، وللأعاصير السياسية والاقتصادية التى حفرت نقوشها فى جوهر تلك الشخصية الفريدة.

وجوه المصريين صلبة قاسية قوية الملامح، لكنها لا تكف عن الضحك والسخرية من كل شئ!

قلوب المصريين ملأى بالقلق والتساؤل والخوف من المستقبل، وألسنتهم لا تكف عن الحمد والابتهال!

أقدامهم لا تكاد تحملهم من الإنهاك والتعب والمرض، وأيديهم لا تكف عن العمل والاجتهاد !

ثمة كروموسوم تاريخى غامض يحثهم على الاستمرار والصمود رغم الأزمات .

فإلى أى أصل ينتمى هذا الجين العجائبي ؟

إلى الفراعنة أم اليونان أم الرومان أم الفرس أم البيزنطيين أم الطولونيين أم الفاطميين أم العثمانيين أم المماليك .. إنه خليط منهم جميعاً، ولا أحد منهم قط!!

التناقضات والتحولات

للدكتور جلال أمين كتاب مهم رصد من خلاله التحولات المحورية التى حدثت للشخصية المصرية خلال العقود الخمسة الأخيرة فى القرن العشرين .. ثورة 52، التأميم، القضاء على الإقطاع، قوانين الإصلاح الزراعى، العدوان الثلاثى، نكسة 67، اقتصاد الحرب، العبور العظيم، الانفتاح، القطط السمان، الخصخصة وحكومة رجال الأعمال .. فما النتيجة؟

النتيجة اتساع الفجوات الاقتصادية والاجتماعية، انتشار الفساد والمحسوبية والبيروقراطية والاستغلال، التلوث والازدحام والضوضاء والبطالة وانتشار العنف والجريمة .. كنتيجة مباشرة للتردى الاقتصادى .

تحولات عنيفة مر بها الشعب المصرى ..

والنتائج أكثر عنفاً وقوة .

لكن الغريب أن الشعب المكافح لا يزال يقف على قدميه فى ثبات وأمل.

ينتظر حصاد الغد مهما طال الانتظار.

لا أحد يستطيع أن يراهن على مدى قدرة هذا الشعب على الصبر والتحمل، ولا أحد يستطيع التنبؤ بردود أفعاله تجاه أى قضية راهنة . فهو يفاجئ الجميع بحكمته وردود أفعاله.

التأثير والتأثر

تمتاز الشخصية المصرية بالوسطية ..

يميل الشعب المصرى بصفة عامة للاعتدال والبعد عن التطرف . هذا ما تؤكده الدكتورة سامية خضر صالح فى كتابها: "الشخصية المصرية، تحديات الحاضر وآفاق المستقبل المنظور" . وتنطلق لتصف فضائل هذا الشعب كالنبل والشهامة والنجدة وعظمة الروح واحترام قوانين العُرف الأخلاقى والعادات التراثية والقيم الإنسانية التى نشأوا عليها، كاحترام الكبير والكرم والتضحية والمسارعة للنجدة والمساعدة .

وأن تلك الصفات هى الأصل فى جوهر الشخصية المصرية، وأن ما يطرأ عليها من تغيرات وتشوهات نتيجة التحولات السياسية والاقتصادية مجرد قشرة هشة سرعان ما تزول مع تحسن الأحوال .

لهذا كان تأثير الشخصية المصرية على من حولها هو الأبقى والأقوى .

الموسيقى المصرية .. السينما .. الأدب .. المسرح .. اللهجة ..

قلما تجد بين العرب من المحيط إلى المحيط من لا يفهم اللهجة المصرية العامية .. والفضل للقوة الناعمة المتمثلة فى الفن المصري الأكثر تأثيراً فى محيطنا الإقليمى.

لكننا نتأثر بواقعنا المحيط بنفس القدر الذى نؤثر فيه على الآخرين .

فإلى أى مدى يمكن أن نتغير طبقاً لهذا التأثر؟

وإلى أى مدى يمكن أن نظل مؤثرين فى الواقع الثقافى الإقليمى؟

الافتخار بالهوية الوطنية

بعض المتِّهمين المغالين قد يأخذ على المصريين مبالغتهم فى الافتخار بمصريتهم .

وهو أمر فطرى لا حيلة لهم فيه .

إنه شئ فى جيناتهم الوراثية، أنهم ينتمون لهذه الأرض ويرتبطون بها مهما ابتعدوا واغتربوا.

إنه نوع من الارتباط الغريزى بإرثنا التاريخى العريق.

وسنظل نفتخر بتلك الهوية وندعو للزهو بهذه الهبة ..

أننا مصريون .    

 

عبد السلام فاروق

 

في المثقف اليوم