أقلام حرة

كلمة وفاء واعتذار متأخر لأمجد الدهامات

لم أكن أعرف بل لم أكن سمعت بالشهيد أمجد الدهامات قبل أن ينشر خبر اغتياله في وسائل التواصل الاجتماعي تحت خبر يصفه بأنه "ناشط مدني" كان يدعو "للسلمية". وجريا على العادة لم يلبث الملفق حتى كشف عن حقيقته عندما اتهم الحكومة ونسى انه سبق وأن قال أن الشهيد كان يدعو الى ما يسميه العراقيون اليوم "السلمية". هكذا تجري الأمور بنظر الملفق، تغتال الحكومة من يدعو الى المظاهرات السلمية وتكرم من يدعو للعنف ويمارسه ربما لانها بحاجة للافادة من تجربته. وكما هو معروف فإن صفحات وسائل التواصل قد هيمن عليها خليط من أناس قلة منهم معروفة من داخل العراق وأخرى كبيرة من خارجه وكثير من هؤلاء بأسماء وهمية وصفحات مفبركة كانت تحض الجماهير على التصعيد و على التصادم مع الاجهزة الأمنية كلما رأت منحا نحو النضج ووضوح الرؤية. وقد اشار مستشار رئيس الوزراء في مقابلة تلفزيونية له ان جميع هؤلاء المحرضين لا هم و لا أي من أبناءهم موجودون في ساحات التظاهر. ويمكن لمتتبع هذه الصفحات أن يلاحظ ان الكثير منها قد صدرت قبل التحرك الجماهيري بمدة ليست طويلة وكسبت الكثير من الاصدفاء بسرعة ووضعت لنفسها عناوين جذابة بعضها يهتم بتاريخ العراق.هذه الصفحات غيرت اختصاصها بين ليلة وضحاها لتتحول إلى صفحات محرضة تعرض مشاهد دموية. والغريب كما قال مستشار رئيس الوزراء ان الفيسبوك نفسه قد انقلب على التزاماته المعلنه بعدم نشر مشاهد دموية صادمة وبادر الى فتح صفحاته لهذا النوع من النشر.هذه الصفحات التي تقمصت شخصية جديدة لا علاقة لها بالاولى غير الاسم ومعها حشد من العراقيين الذيم يحملون جنسيات اوربية وامريكية بعضهم كتبة "لهم باع" في التنظير لم يكتبوا اي شئ يمكن ان ندخله تحت عنوان توجيه او نصيحة او مقترح للجماهير يمكن ان يعزز موقفها المطلبي ويطوره نحو صيغة سياسية واضحة تضع الاحزاب السياسية المكونة للبرلمان أمام خيار لا رجعة فيه لجهة القضاء على المفسدين واصلاح النظام السياسي.

خبر استشهاد الدهامات بدا لي غير عادي ودفعني للبحث عنه فوجدت انه من كتاب "المثقف" (وهو ما أشعرني بنوع من الخجل) فعكفت على قراءة جميع مقالاته.ادهشتني جزالة اللغة واقترابها دون ركاكة من فهم الشخص المتوسط، الموضوع معاصر ويتناسب مع حاجات اللحظة، الوصول الى المقصود باقصر الطرق واسهلها، مقارنات وأمثلة تفصيلية تثير الإعجاب. وسواء كان امتلك أرشيفا خاصا أم اعتمد "وكيبيديا" يظل ما قام به جهدا ابداعيا لافتا. وبكلمة يقف الدهامات متفردا في خصائص كتابية لا يشاركه فيها أحد.

وهذا لن يكون دون أن يكون الدهامات قريبا من الجماهير، غير متعال عليها، منصتا لما تقول عارفا ما ينقصها من معرفة، مدركا اي طريق يجب ان تسلك، وكيف تقاد...و لا استطيع أن أتصور الدهامات (لأني لا أعرف أيا من القريبين منه) إلا وهو محبوبا من وسطه، محترما في بيئته، مسموعا في كلمته، مقبولا في نصيحته، قادرا على القيادة الحكيمة. ومن اجل ذلك وربما غيره مما أجهله قتل..ممن؟ لا استطيع أن أتصور غير عصابات الجريمة المنظمة التي تعمل لدول إقليمية دائمة العداء والكراهية للعراق...هذه العصابات لا تقتل العالم أو القاضي النزيه أو الشخص الذي يعرف الكثير عن الفساد و لا يتورط به ويهدد أو ينوي المجاهرة به بل أيضا صاحب العقل الراجح الذي يمكن أن يتحول في لحظة فاصلة من الزمن كالذي يعيشه العراق الآن إلى مشروع زعامة قادر على قيادة الناس ليس بالاتجاه التدميري الذي يريده كارهو العراق وادواتهم من عراقيي الخارج بل باتجاه بناء ينقذ العراق من الفناء الذي يراد له.

في الفيديو الذي ظهر على اليوتيوب تقوم محطة "الحرة" بسؤال أخ الشهيد أمجد عن تفاصيل الحادث فيورد القول أن أخاه وزميلا له كانوا يتفاوضون مع قائد الشرطة في المدينة للاتفاق على "صيغة حل لانهاء المظاهرات" وعند خروجه هو وزميله من الاجتماع تبعتهم سيارة اطلق منها النار فاردى الشهيدين. وكالعادة عمد مقدم برنامج "الحرة" الى دفع الحديث باتجاه اتهام ميليشيات (لا شك يرمي إلى الحشد الشعبي) فارسترسل أخو الشهيد بالحديث عن انتشار مجموعات مسلحة لم يحدد انتمائها وان شرطة المحافظة غير قادرة على ضبط الوضع الأمني كون مدير الشرطة غير مؤهل إلى آخر الكلام. وإذا كان كلام أخ الشهيد دقيقا أي أن الدهامات كان يفاوض للوصول إلى "صيغة حل لإنهاء المظاهرات" فهذا سبب كاف لأن يقتل على يد من لا يريد التوصل إلى إنهاءها وبالطبع لن يكون أحد من الجماهير المحتجة المسالمة بغالبيتها هو المسؤول عن هذه الجريمة خاصة وأن الشهيد الدهامات قد قاد أو ساهم بصورة ملحوظة في عملية تحويل الاحتجاجات إلى تظاهرات فنية متنوعة (حديثه مصور) اي نقلها من فضاء الاحتجاج الغاضب إلى فضاء الفن مكسبا أياها بعدا حضاريا على الضد من إرادة أطراف أخرى تريد للاحتجاجات أن تسير بخط صاعد نحو العنف. غير أنه من الصعب أن يتصور المرء أن الدهامات كان يفاوض حول صيغة "لإنهاء المظاهرات" لأنه ليس قائد شرطة ميسان هو الطرف الذي يمكن أن يلبي مطالب المحتجين سواء كانت معيشية أو خدمية أو سياسية.

و في كل الأحوال فإن مقتل الدهامات يمثل فشلا لأجهزة الاستخبارات الحكومية (ما لم تكن قد قبضت على القاتل) وللأحزاب الموجودة في مدينته لأن القبض على قتلة النخبة الحرة المفكرة والحكيمة أهم بكثير من القبض على محتج أضرم النار في بناية رغم أن كليهما في نهاية المطاف ينتمي إلى عصابات الجريمة المنظمة ولكن كل واحد منهما يعمل بجدول أعمال مختلفا. ان القبض على بضعة انفار من هذه الرؤوس لا بد وان يفتح الطريق امام معرفة المجاميع التي تقف وراء الاغتيالات ومطلقي النار بما فيهم من الاجهزة الامنية التي يوجد في اوساطها من هو غير مؤهل لمواجهة الاحتجاجات وربما من هو يعمل لصالح اطراف تسعى للتاجيج ذلك انه إذا كان هناك ضباط كبار مشكوك بولائهم للدولة فلماذا لا توجد مراتب دنيا تتصف بنفس الصف؟

ولكننا مرة اخرى "نسمع جعجعة و لا نرى طحينا". فبينما تتحدث الاجهزة الامنية عن القاء القبض على بعض الاشخاص لم نرها تبادر الى تقديم معلومات لا تضر بالتحقيق يمكن ان تقنع السامع اننا في الطريق الصحيح نحو فك لغز هذه المجاميع.

ان انضمام أصحاب الفكر الحر (مهما كان موقفهم السياسي طالما لا يدعو الى الفتنة) والكتاب الى قافلة المهددين بحياتهم الى جانب القضاة والموظفين النزيهين يعني ان المطلوب هو ان تظل الجماهير ليس بدون قيادة وحسب بل وبدون رؤية واضحة مما يعني سد الافق امام الوصول الى حل ناجز للازمة وفتح الطريق امام فقدان السيطرة على الأوضاع تمهيدا للعودة إلى إحياء دعاوى التقسيم أو الأقاليم ناهيك عن امكانية حصول اقتتال داخلي والذي أصبح إحتمالا بعيدا اليوم. وإذا أخذنا وضع إقليم كردستان نموذجا للقياس فلن يكون هناك فرق بين التقسيم أو الأقاليم وربما سيكون الخاسرالأكبر من الأقاليم هو إقليم كردستان فهو لن يرى أموال نفط الجنوب تمنح له عن طيب خاطرمرة أخرى.

ويفهم من المشهد العام أن الشهيد الدهامات كان يلعب دورا قياديا في الارتقاء بالممارسة الاحتجاجية الجماهيرية إلى مستويات ترقى على الانفعال والعنف نحو النضج السياسي وبذلك فهو يقدم نموذجا يمكن أن يهتدي به المحتجون في المحافظات الأخرى وهذا ما بدأ يظهر أيضا في ساحة التحرير في العاصمة وفي ساحات أخرى. ومع كل يوم جديد يبتعد المجهول وهو ما يلاحظ ليس في انتظام سلوك المحتجين بل وفي تصاعد وتيرة "هجمات المولوتوف" التي لا شك أن من يقف وراءها هم المرتعبون من النهايات الصحيحة.

 

ثامر حميد

 

في المثقف اليوم