بأقلامهم (حول منجزه)

النقد الادبي: تحليل خطاب القصة الخيالية .. حافات قلقة لماجد الغرباوي مثالا / أروى الشريف

استنساخ أوجه الشبه بين الضحية والجلاد

إنّ مصطلح القصة الذي ورد في "معجم الدراسات الأدبية": "القصة مركزة عموما حول حادثة واحدة

وتدرس انعكاساتها النفسانية وشخوصها محدودة ولكن على عكس الحكاية لا تمثل الشخوص رموزا أو كائنات غير حقيقية لكن تمتلك حقيقة نفسية،بينما باختلاف مع الرواية،نفسية الشخوص ليست مدروسة بالكامل لكن تؤخذ من جانب جزئي . القصة تبحث لإنتاج انطباع الحياة الحقيقة".

في قصة الأديب ماجد الغرباوي أتناول بالدراسة خصائص هذه القصة وتحديدا خصائص "القصة الخيالية " .

في قصة الكاتب "حافات قلقة" تظهر جليا عملية تنظيم تقنية القصة الخيالية فماهي خصائصها في النص؟

في القراءة الأولية يتبين لنا اختلاف في تقنية القصة العادية حين اتجه منحى القصة الخيالية إلى تصوير فضاء القصة على انه فارغ من تقنيات "الزمكنة" حين قررت الشخصية "سعاد" وهي "الشخصية الأساسية" فرض لعبة "الاتجاهات والأبعاد" منذ البداية:

وقفت في ساحة العرض، اختارت نقطة الوسط تماما، نظرت إلى جميع

الاتجاهات، لاحت لها كوة صغيرة،.. انتشت قليلا، خطت خطوة إلى الأمام، تصورت فرحتها وهي تستلم الجائزة،

ان تعميق منظور الفضاء" المجهول" اسهم في إبراز حركة ملامح "القرية" التي يمكن أن تتكرر في كل "المجتمعات" وفي هذا الصدد يعرض "غلودمان" في (من اجل علم الاجتماع في الرواية) أن: "كل تصرف إنساني هو تجربة لإعطاء إجابة ذات دلالة في وضعية خاصة" أما في القصة "حافات قلقة "فالوضعية الخاصة هي واقعية وعادية لا غرابة فيها إذ تبدو سعاد فاعلة في الأحداث حين تقول:

قالت: إذن هنا سيعلن عميد القرية عن أسماء المتفوقين..

و تصبو هذه التجربة التي س"تعيشها" سعاد إلى خلق توازن بين ذاتها الفاعلة وبيئتها فهل تتمكن سعاد من بلوغ أمنيتها بالفوز وأن تكون كما وصفها الراوي في لحظة نشوة ومغمورة بالسعادة؟:

انتشت قليلا، خطت خطوة إلى الأمام، تصورت فرحتها وهي تستلم الجائزة، "

ويمكن القول أن من أهم شروط تحقيق نمطية "القصة الخيالية " هي:" الكتابة التي تستوجب حسا حادا جدا في اقتصاد النص ولزومية ذلك "فنلاحظ ترتيب أحداث القصة على أساس ذهني منطقي حيث يتفاعل السرد مع لحظات قلقة متوترة تشهدها دواخل سعاد:

آه .. يا الهي، لماذا تراودني الأوهام؟ لا .. لا .. عليّ أن أتريث، أعمالي أشاد بها الجميع وأنا واثقة من نفسي، فلماذا ينتابني القلق؟

القصة الخيالية تتمتع بخصائص سردية تترك القارئ مشدود الذهن منتبه الإدراك في كل لحظات القصة بهدف أدبي يتماشى مع تقنية الكتابة والسرد لتطوير العناصر الأساسية لإبداع وإقحام القارئ في مساحة ضيقة تشغلها نفسية سعاد بتراكم سريع للأسئلة و الأوهام.

هكذا رددت الكلمات بارتباك .. وحيرة

ثم أردفت:

لكنه صارم، لا يجامل .. أعرفه جيدا، هذا ما أخشاه، حقا سيسحق غروري إذا تجاهلني.

وسرعة تحول الشخصية في حركة مشاعرها أدت إلى تراكم عناصر عالم خاص بـ "سعاد" يتواجه فيه غرورها ضد سلطة "عميد القرية" وسلطة العنصر ألذكوري..

فهل يتأكد الجميع أن سعاد ليست في مرتبة تنافس فيها:

... فلان هو الفائز الأول، وآخر يقول فلان،

صراع

وثالث يقول: كل توقعاتكم خاطئة. ولاحت من بعضهم نظرات مريبة، فكاد أن يغشى عليها، لكنها تماسكت حينما طل من كوته،

فهل تحقق سعاد التوازن بين بيئتها وذاتها الحائرة والتائهة؟ واستطاع الكاتب، بفضل تحكمه في تقنية الكتابة في "القصة الخيالية"، من خلق أحداث أقلقت ودفعت سعاد إلى الانهيار:

(وبيده أوراقه العتيدة، ومعه بعض رجاله وحاشيته).. الشخصية السلطة ... الحاشية .. صراع

(نظر إلى الجميع، شاهد الرجال والنساء، كل يترقّب. اتخذ مكانا مرتفعا .. ثم بدأ نائبه يتلو الأسماء الفائزة واحدا بعد الآخر، وهي تصغي بلهفة، حتى إذا همّ بإعلان الاسم التالي قالت: أنا، أنا (س ع ا د)..

لكنه وهم .. وهم .. لست من الفائزين. فماذا انتظر .. هذه هي الحقيقة ..)

**

ومن خلال تركيب عناصر سرعة السرد ودقة التفاصيل التي تتعلق بإشارات نفسية ساهمت في بعث تداول الأفكار والخيالات في عقل سعاد:

عادت الى بيتها منكسرة، مذهولة .. تحاصرها نظرات الشامتين، وتطاردها كلمات المستهزئين، فودّت لو انها توارت، او ابتلعتها الارض. كان موقفا صعبا .. محرجا، لم يكن متوقعا مطلقا.

آفاقت من هول الصدمة، وقالت بغضب:

سانتقم ..

سانتقم ..

سيعرف من انا. ساحطّم كبرياءه. ساجعله يندم ..

الجمل الأخيرة لسعاد وجّهت القارئ إلى طرح أسئلة تسحبه إلى عالم الغرابة فهل النهاية تتحدد بين "غرابة أو واقعية "الغرور الذي يشحنه الانتقام " من ثم تتعرى شخصية "سعاد" من مجرد ذات تريد حيازة جائزة إلى ذات مهتزة وقلقة ومسكونة بتحطيم "عميد القرية" الذي يمثل السلطة المطلقة في التحكيم بين "أعمال المتنافسين والمتنافسة سعاد".

وماذا لو تقدّم عليّ فلان وفلان؟.. ماذا لو كنت الثالثة او الرابعة في قائمة الفائزين؟ ماذا سيقول عني ابناء القرية؟ .. آه .. يا الهي، لماذا تراودني الأوهام؟

طفت في هذه المرحلة المتقدمة على مستوى الكتابة أمور واقعية وغير واقعية واتجه الصراع بين الظاهري والمتواري في نفس مركبة هي تربة خصبة لادراكات خاطئة في شخصية "الأنثى "التي اختلط عليها الأمر بين سحر وشعوذة ووبين صورة ''المرأة التي تشحذ خيالها الشيطاني لتكسب الجائزة".

ثم راحت تقلب فنون المكر، وتفكر بحيل النساء، فصاحت بصوت مرتفع: وجدتها .. عليّ أن أكون أكثر حنكة، الأمر ليس هينا، عميد القرية يتحصّن خلف رجال أشداء، أقوياء، فكيف أجد من ينافسهم ويتحداهم في مهنتهم. هذه هي الخطوة الأولى في معركتي معه. أن أعثر على رجل يجعل عميد القرية يغيّر قناعته ....

لنجرب ..

تأكد القارئ أن افتعال تناقضات وأوجه الصراع بتركيب "نفسي وإدراكي"، مكنته من استكشاف وجه آخر لنمطية  تفكير"سعاد" بطرح سؤال فلسفي عويص وشائك وهو:

لكن هل بمقدورنا أن نصنع إنسانا كما نريد؟؟

التساؤل منطقي بالنسبة لـ "سعاد" وأي محاولة للتكهن ما إذا كانت سعاد تعاني من أعراض الجنون أو هي مسكونة بعبودية الشيطان الذي يصور خيالات الشر وتمكن الراوي من بث الشك بين القارئ وسعاد بفعل ترتكبه حين تقدم على تطبيق فكرة سحر "الدمى" إذ تسمى في السحر الأسود ب "قيري- قيري":

استبد بها صمت عميق، استغرقت في تفكيرها وهواجسها، ثم قامت فجأة، وأخذت تتحرك بأناة ورويّة، فجمعت قطعا من حديد ونحاس.. أوقدت عليها نار غضبها، وصهرتها بجمر أحشائها، وأضافت لها رماد حقدها الدفين، حتى لانت لها، فصيّرت منها تمثالا جميلا، قصير القامة، دعج العينين، ينظر شزرا، ولحية طويلة. وشقت في داخله قناة، تعلوها ثقوب أربعة، يمكنها التحكّم بها.

اثر السحر وإيهام القارئ بعدم وضوح أي رؤية أوعز للكاتب بضرورة اختفاء كل الدلالات في عمق "القصة الخيالية الوهمية "لسبب منطقي أن كاتب القصة لا يعطي أي شرح ولا أي تفسير.

ولما نفخت فيه من روحها الشريرة، بدى وجهه متجهما. ابتسمت حينما نظرت إليه،

عنصر الإثارة وعناصر اللغز قفزت دفعة واحدة وأحدثت ارتباكا مقلقل في "فعل القراءة "عند المتلقي فيطرح الأسئلة على نفسه:

كيف تنفخ فيه من روحها ..لكن يجيبه الراوي بسرعة:

وقالت: ما علينا إلا أن نصّدق أوهامنا، ونجد من يدافع عنها، حينئذٍ ستكون هي الحقيقة في أعين الناس .. أليس أصدق الحقائق أكذبها؟؟

يتحكم الكاتب بأهم شروط كتابة هذا النمط من القصة التي يتعايش فيها الواقع،الغرابة والخوارق بتقنية أخرى خاصة في القصة الخيالية وهي التنظيم،الوضوح في طرح الأفكار والأهداف مما اكسب القصة قوة ولذة.

وما تحديث المونولوج عند سعاد لأكثر من مرة إلا تأكيد على دراماتيكية المشهد حيث تكون سعاد الفاعلة الوحيدة فتكلم نفسها وتسكت ضميرها وشرحها لآلية الظلم الذي وقع عليها وعايشته . وتنفيذ طرق الانتقام تبدي للقارئ وجها شيطانيا حين يوظف الكاتب أسطورة النماذج النسائية التي تعاقبت على مر التاريخ لـ "وجه المرأة" الشيطان حين تقرر سلخ إنسانيتها فتتحول إلى "آلهة الشر" وترسخ مبدأ الخلق حين "نفخت من روحها الشريرة".

وصل الراوي بالقارئ إلى طريق مسدود ومجهول ومن الضروري ان يتوقع انفراج يجبر المتلقي على إعادة التأويلات أكثر من مرة ليفهم "ما الذي حدث؟".

أخيرا فان ترسيخ وجه أسطورة المرأة الشيطانية كشفت جدلية المرأة الضحية والجلاد في صورة "سعاد" هو نجاح القصة على مستوى السرد وعلى مستوى تركيب فكر الشخصية الأساسية بتعاطيها "الخاص" مع بيئتها فأعاد الكاتب التوازن إلى نفسية سعاد المهتزة الهسترية التي تحالفت مع الشيطان:

ثم أفاقت فجأة، وماذا لو انكشفت اللعبة؟؟

نظرت إلى نقطة بعيدة، تطوي الأفق في عينيها، وابتسمت:

وماذا عن جوقة المطبلين؟ .. هكذا أجابت بثقة عالية.

من ثم نشهد إعادة تنظيم فضاء القصة وإخراج القارئ من دوامة الحيرة والقلق التي رافقته طيلة رحلة القراءة:

ولما حان وقت التحدي، أرادت أن تحمله، لكن ...

باقتراب النهاية يفتح الكاتب القصة بخلق سلسة كبيرة من التأويلات المبنية على نظريات الطموح والحلم حين تتوهم النفس البشرية سبل النجاح فتكون طرق الحيلة والغوص في مستنقع الشر.

لكن أفاقت سعاد بحقيقة:

صعقها خواء حلمها.

فمهما بلغت طموحات الإنسان لا بد من عقل راجح وتفكير نير يعزز إرادته في بلوغ قمم النجاح والسعادة.

 *** 

أروى الشريف - كاتبة وناقدة من الجزائر