بأقلامهم (حول منجزه)

قُصي الشيخ عسكر: الحركة العمودية في قصة ماجد الغرباوي: وانشق القمر

يبدو اثر الفكر الروحي في أدب ماجد الغرباوي واضحا من خلال تأثره بالقران الكريم بخاصة ما يرسمه من لوحات فنية سواء في نصوصه المسماة " قصائد نثر" او نصوصه النثرية التي تزاوج بين القصة والسرد القريب من المقالة والخاطرة وهو مزج يدل على ان الأنواع الادبية يمكن ان تتلاقح حيث تزول الحدود بينها.

 والذي يطالع العنوان يجده ايضا مستوحى من القران الكريم فعنوان القصة جزء من اية وردت في سورة القمر " اقتربت الساعة وانشق القمر" فأجد ان الكاتب تصرف تصرفا ذكيا باختياره الجزء الثاني من الآية لان قصته او نصه الادبي اعتمد على زمنين هما زمن مباشر وهو زمن النص وزمن متتابع هو الزمن الموسيقي الكامن في النص والذي سندخل في تفصيلاته بعد قليل.

نقول ان القدامى انفسهم وقعوا في أشكال الزمن فنسبوا الى امريء القيس القول ادناه:

دنت الساعة. وانشق القمر  من غزال صد عني ونفر

من غير ان يعرفوا ان دَنا للمكان واقترب للزمان فنقول قطوفها دانية ومثل هذا الخطا لا يقع فيه شاعر جاهلي مثل امريء القيس الذي عاش قبل الاسلام بحوالي ١٥٠ عاما لذلك كله اختار السيد الغرباوي الجزء الثاني من الآية اذ ان قصته او نصه تتعامل في البدء مع لازمة مكانية فتتجه من الأعلى الى الأسفل بحركة تتوسل التطهير والتحول من الأدنى الى الأعلى.

 لتبيان الحال سأنقل آيات متتالية من سورة كريمة " إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7" حتى أوضح انها تتجه من الأعلى الى الأسفل الشمس ثم النجوم ثم الجبال ثم السهول:النوق والوحوش ثم البحر لياتي دور الانسان ان السورة الكريمة بدأت بأعلى نقطة واتجهت الى الانسان لتذكره ان المكان اصبح الزمن نفسه النفوس زوجت فالحركة من الأعلى الى الأسفل تبدأ من السماء حيث الشمس مصدر النور ومنبعه لتهبط الى أدنى نقطة وهي البحر اذ الماء عماد الحياة هي عودة للسمو من هذا الفهم اعتمد كاتب النص سورة لياخذ بعضا منها فيجعله عنوانا لنصه متحاشيا لوقوع في اللبس لا سيما انا لانميز في عصرنا الحالي بين ما يتجه للمكان وما يتجه للزمان لكنه مع ذلك ينحاز المؤلف للتمييز حين يورد معنى قرآنيا اخر وذلك حين يقول في اخر القصة " ثم أرتفع، فدنا... فكان قاب قوسين او أدنى" مما يجعلنا على يقين من ان الكاتب حصر نصه بين معنيين قرآنيين هما " اقتربت الساعة وانشق القمر" فاكتفى بالجزء الذي هو " وانشق القمر" لدلالته على الكل و " دَنا فكان قاب قوسين او أدنى" ليلتحم الزمان والمكان عبر ثلاثة ازمنة هي زمن النص وهو الذي نجده في قراءتنا لنصه الإبداعي اي الزمن المباشر وكم يستغرق من الوقت ثم الزمن الإدراكي وهو الذي يدفعنا للتساؤل من هي ميامي وكيف انشق البطل عن نصف انسان وتأمل نفسه لنبقى نحن معه ننظر ونتأمل في زوايا النص المتعددة وبؤره وامتداداتها مع ذلك فنحن ازاء زمن متتال او زمن ملحمي يشكل لنا وفق التتابع والتماهي الموسيقي لوحة تتفرق في اكثر من مشهد وتلتم في مشهد واحد انها لوحة تبدأ بالنور ويختمها الظلام " لم يمكث طويلا حتى رأى طيرا أسود، عرفه من حفيف جناحيه .. حالت حلكة الظلام دون معرفة فصيلته" الفكرة حقا تلتزم معنيين روحيين احدهما هبط من السماء الى الارض لينشر الحياة بعد الموت والآخر ارتفع بالانسان من الارض الى السماء فكان قاب قوسين او أدنى وبين هاتين الحركتين أصبحنا نحن المتلقين نعيش أزمان التتابع والمباشرة والإدراك ليحقق الكاتب بينها جميعها فيما بعد حركة نصه في المشهد الاخير ، " استغيث، لا أجد لصدى دموعي سوى جثة هامدة، ولما اقتربت منها، سمعت صوتا هامسا:

أنتبه ..

هذا ..

سر نجاتك!!"

فالكاتب اخيرا جعل نفسه مدار الإدراك في حركة يخيل إلينا انها أفقية لكنها تحمل معنى الارتفاع والعلو فأي طير هذا الذي يتشح بالسواد ويخطف من جثة كلمة يطير بها ؟

ان هناك شرطا مهما هو ان نفهم الازمنة الثلاثة : المباشر، والمتابع، والإدراك ومن خلال التلاقح والتفاعل الزمني ايضا نعود الى سورتي " القمر" و " التكوير" الكريمتين فنجد ان المؤلف وضع حدين لنصه في البداية والنهاية هما الظلمة والنور جعل النور في البدء والظلام في نهاية النص مستوعبا حركة اخرى من الفكر الروحي باطار اخر، عندنا نحن المسلمين وعند اليهود ايضا وكذلك الأسطورة ان الظلام هو الأسبق وقد عبرت التوراة عن ذلك في الآية الاولى من سفر التكوين" في البدء كان هناك ظلام" ويعلل ذلك فلاسفة المسلمين ومؤرخيهم بان الظلام هو الاعم والأشمل اذن في البدء حسب النص الذي بين يدينا ينشق القمر وتسير الاحداث من اعلى الى أسفل وعندنا بعد ذلك بطل النص وميامي معه لكنه ينشطر فيصبح نصفا حيّا ونصفا ميتا هو ميامي ليحل ظلام بعدئذ ينشطر منه غراب(لم يحدد المؤلف نوع الطير لكنه وصفه بكونه اسود ينبثق من الظلام لذلك أميل الى انه غراب) يخطف كلمة ما.

لا شك ان الغراب في المفهوم الديني الاسلامي لايعني التشاؤم كما هو الحال في موروثنا بل يدل على الحكمة لانه هو الذي علم ابن آدم كيف يدفن اخاه وهو المفهوم ذاته عند سكان شمال اوروبا حيث ان الغراب رمز للمعرفة والأخبار.

ان النص بلا شك ذو مخزون جمالي ومعرفي وقد صيغ بأسلوب فني جميل شرط ان نفهمه زمانيا بأزماته الثلاثة المباشر والمتابع وزمن النص لندرك حركته العمودية التي انبثقت عبر الزمن من روح كاتبه.

وانشق القمر / ماجد الغرباوي

خرج على غير عادته .. تتبع حركة السواقي والأنهار .. بهرته الطبيعة بسحرها .. استدرجته .. حتى غاص في أعماق الحقول المجاوره، وتغلغل في أحراشها العالية.

كان الجو صحوا، والشمس ترسل أشعتها ندية.. تنعكس على صفحة أحلامه، فيحلّق مع ميامي، وتأخذه نشوة الحديث معها.

فجأة تلبّدت السماء، وأضرمت غضبها، فهطل المطر، بعد أن زمجرت وأبرقت، لتعلن عن بداية عاصفة هوجاء.

بحث عن ملاذ .. ضاقت به الأرض بما رحبت. همّ بالفرار .. خذلته إرادته. هرول ليحتمي بظل شجرة عارية .. دمدم الرعد، وراح سنا البرق يملأ الحقول والبساتين. وهو يتلفت مرعوبا، ينظر الى دواب الأرض كيف تلجأ الى جحورها. نزلت صاعقة مدوية فأحرقت كل ما حوله .. بهت مذعورا، يا إلهي ....

لم تمهله السماء طويلا، فصعقت ثانية، إلا أنها أحرقت نصف جسده الأيسر.. فظل مشدوها، فاغرا فاه، متشبثا بنصفه الثاني، لا يدري ماذا يفعل. راح يلملم جراحه، ويشد من أزره بارتباك .. ملتحّفا بخوفه وترقبه.

ماذا يفعل..؟ .. تساءل وهو في الرمق الآخير من الحياة.

عجز عن الكلام، غير أن علامة استفهام ارتسمت على صفحة حيرته، واندهاشه.

كيف يعيش بنصف جسد لو قدر له أن يعيش؟

علامة استفهام أخرى، طفت .. لكن هذه المرة على مساحة واسعة من الأفق .. كاد ان يحدد نهايتها، فارتد بصره خاسئا.

عاد يتلفّت .. لم ير الا أعمدة دخان، بعد أن أتت النار على كل شي، سوى نصفه الأيمن.

انتصب بما تبقى من جسده .. نظر الى نصفه الآخر .. وانهمرت دموعه شلالا من الأسى،.. لم يجد شيئا من معالمه، الا عينا، وشبح أطراف، وصدرا عاريا، وبضع كلمات.

نظر الى السماء .. راحت الغيوم تجر أذيالها، بعد ان أنهت مهمتها، والشمس أذنت بالمغيب، الا خصلات ذهبية، أضفت لمسة سحرية على ذكريات ميامي الجميلة. لكنها سرعان ما توارت، خلف أمله التعيس، ليبقى فريسة سهلة للظلام الزاحف بلا روية ولا رحمة.

عاد تحت هول الصدمة، ينظر لنصفه الأيسر، يتأمله، يدقق فيه. كان أول ما لفت نظره تلك الكلمات .. حاول أن يقرأها، فاستفزه صوت جسده بعد أن هبط الليل بثقله.. كان مرعوبا، لا يسمع سوى اصطكاك أسنانه العارية، وأنين الموتى القادم من أعماق الأرض .. ولا يرى سوى احشائه المتدلية، فلاح له سؤال حيّره، هل نصفه الأيسر أحترق، أم اختطفه ضوء الصاعقه فصيّره رمادا؟

كانت حيرة فهمه للسؤال أصعب عليه من الاجابة .. ما الفرق في ذلك؟ .. جسده الان ملقى، بعد أن انتزعت النار كل معالمه. لكن يبدو هناك لغز يتوقف على فهمه لهذا السؤال اللعين. سؤال محيّر فعلا، أين يعثر على شفرته؟

وسرعان ما جرفه سيل الأسئلة .. أين احشاؤه .. قلبه .. رئته؟ هل ما زالت هناك، حيث يرقد نصف جثته المتفحم؟.

ثم راح يتأمل فاجعة الإنسان بعد موته، ماذا يتبقى منه؟ كيف خمد جانبه الأيسر بلا حراك، وماذا لو كان مات كله، من سيكون الشاهد على مأساته؟ .. مغرور هو الإنسان، هل كل ما تبقى من جانبي الأيسر بضع كلمات؟ آه يا لحسرتي .. ربما هي كل ما تبقى مني .. من يدري، يلفنا الغيب من كل جانب، ولا نبالي. تحاصرنا الدنيا من كل زاوية، ولا نفكر بما هو آت.

آه يا إلهي .. اراد ان يصرخ، يستغيث، يتشبث بصدى صوته، لكن حيرة الدهشة والسؤال عقدت لسانه الثاوي.

جانبه الأيسر، كان نابضا بالحياة، كان قلبه يعزف موسيقى الصباح .. يدندن كل يوم أغنية جديدة. كانت ميامي لا تأنس الا به .. بايقاعه .. بنبضه. هل ستعود ميامي الى أحلامه أم اختطفها سنا البرق الأهوج؟؟ .. سؤال آخر فاجأه بينما بدأ الليل يجهز عليه، ولم تبق سوى نقاط بعيده من الضوء، لا تبعث على التفاؤل اطلاقا.

هل يرحل ..؟ .. كيف يترك نصفه الأيسر؟

سمع صوتا خافتا ينبعث من النصف المحطّم .. حاول ان يصغي له جيدا، لكن دون جدوى. عليه الاقتراب ولو قليلا.

كيف يقترب بنصف جسد خائر القوى؟. كيف يقطع المسافه بينه وبين نصفه الثاني؟

انها بضع خطوات.

لا .. لا .. لا .. ليست بضع خطوات، هي المسافة بين الحياة والموت .. اللغز الذي حير الإنسان منذ الأزل.

ليس من حيلة .. ألقى نفسه على الأرض .. زحف تحت جنح الظلام، سمع أصواتا غريبة .. ارتعدت فرائصه .. استلقى بجانب نصفه الآخر يرتجف، نظر اليه مليا، استغرب وجود تلك الكلمات .. حاول ان يصغي ثانية .. ركّز بكل جوارحه .. لم يسمع سوى صداها المحيّر .. تارة تتقاطع وآخرى تنتظم، أو ترسم عمودا من النور.

في غمرة تأمله، وحيرته، عاد يتساءل: كيف يعيش بنصف جسد لو قدر له أنْ يعيش؟ وكيف يواصل حياته؟ وماذا عن احلامه مع ميامي؟

أفاق على أنين ميت قريب، أو كائن لم يفهم كنهه. تخيله يزحف اليه، اجتاحته قشعريره .. حاول أنْ يتجلد .. أنْ يتمالك نفسه، لكنه فشل.

استسلم للرقاد، او كاد .. أرعبته الاصوات ثانية.

التف بحيرته، ليس معه سوى نصف جسد متفحم .. انه جسده، وعينه اليسرى، وأربع كلمات، تتخذ أشكالا مختلفة.

ماذا يفعل؟؟

كان من الصعب ان يمسك بما تبقى من جسده، كان خائر القوى .. أصوات مخيفه. آه يا الهي .. تخيّل ان ذلك الأنين يصدر عن جثث أخرى. من يدري .. ربما هو لرجل عظيم، او امرأة صالحة..

لماذا يشكك الانسان بالموت، أليس هو الحقيقة الوحيدة الماثلة أمامنا .. لماذا لا يردعه الموت؟

الإنسان؟ يا له من مخلوق عجيب .. كم هو بائس .. مغرور ..؟!!!

هل يخشى الإنسان ما بعد الموت؟ ربما .. لكنه عنيد، مكابر، لا ينصاع، الا حينما تسحقه الطبيعة بجبروتها.

يا للهول، أليس من حقنا ان نهرب منه؟ ماذا تبقى من نصفي الأيسر، سوى بضع كلمات. ما قدرها. نصفي الأيسر ذلك الكائن الجميل، الذي أرهق حياتي ..

لم يمكث طويلا حتى رأى طيرا أسود، عرفه من حفيف جناحيه .. حالت حلكة الظلام دون معرفة فصيلته، أخذ يحوم حولها، وينظر اليَّ بعين حمراء متوقدة، كجمرة في يوم شتائي قارص. أقترب من الجثة الهامدة، كتمثال أهمله تمادي القرون الطويلة، ثم أرتفع، فدنا... فكان قاب قوسين او أدنى .. تمتم بأصوات غير مفهومة، ارتبكت جثتي، ثم تجهّمت وأشتد غضبها حين خطف الطير إحدى الكلمات وحلق عاليا.

رأيت عيني اليسرى، كيف أجهشت بالبكاء .. توسلت بقواي كلها، لأقترب أكثر، وأصون ما تبقى منها. كنت أرتجف .. أصرخ .. استغيث، لا أجد لصدى دموعي سوى جثة هامدة، ولما اقتربت منها، سمعت صوتا هامسا:

أنتبه ..

هذا ..

سر نجاتك!!

.........................

للاطلاع

http://almothaqaf.com/index.php/nesos2010/63486.html