بأقلامهم (حول منجزه)

ماجد الغرباوي.. أيقونة التسامح في زمن تحديات العنف

أهدي هذا المقال لكل قراء صحيفة المثقف احتفالا بمرور العام الثالث عشر من تاريخ صدورها

يعلم كل من يتابع كتاباتي ومقالاتي وكل من هو قريب لشخصي إنني متحرر تماماً من أية تبعية تقودها أهوائي لمصلحة ذاتية أرغب في تحقيقها، فقلمي متجرد من كل قيود ولا يستقي كلمته إلا من محبرة تراب الوطن فقط، ومن ضمير الحق الذي يسكن بداخلي ويقود كل كلماتي.

ومن تلك المحبرة وضمير الوطن والحق الذي يسكن بداخلها، غمست قلمي لأكتب عن ماجد الغرباوي الوطني والإنسان.. وما دفعني لذلك هو تلك المناسبة العطرة وهو الاحتفال بالعيد الثالث عشر لإصدار صحيفة المثقف والتي من خلالها تمكن ماجد الغرباوي أن يجمع العديد من الكتاب والمثقفين في مؤسسة فكرية ثقافية فتحت قلبها لكل الأقلام بمختلف جنسياتهم، ورحبت بالذين يحملون بداخلهم طاقة ذهنية وفكرية وإنسانية متوقدة يحطمون بها كل التناقضات ويواجهون بها  الزيف الثقافي (حسب ما أخبرتنا الأستاذة الفضلة "علجية عيش" في مقالها الصادر بعنوان في عيدها الثالث عشر.. المثقف نافذة تطلُّ على العالم).

ولذلك بسبب هذه المناسبة انتفض قلمي لأكتب عن ماجد الغرباوي للمرة الثانية، وهذه المرة بمناسبة وما أحلاها من مناسبة، فهي مناسبة شكر له علي ما تفضل به من خلال إنشائه لتلك الصحيفة الموقرة والذي لولاها  لما استطاع الكثير من الكتاب والمفكرين أن يحلقوا بعيدا عن أوطانهم أو يقفزوا إلى ما وراء البحار (هنا في أستراليا)  ليصنعوا ذواتهم، بعد أن مُورست عليهم ثقافة الإقصاء في بلادهم وليقولوا بصوت مرتفع "نحن هنا" في صحيفة المثقف نعبر عما يجيش في صدورنا وقلوبنا وعقولنا .

ومن هنا كان اللجوء الإعلامي.. الإبداعي والثقافي (في صحيفة المثقف)، والتي وجد فيها العديد من الكتاب والمثقفين ملجأ لهم،  ففتحت قلبها لكل الأقلام بمختلف جنسياتهم، ورحبت بالذين يحملون بداخلهم طاقة ذهنية وفكرية وإنسانية متوقدة يحطمون بها كل التناقضات ويواجهون بها  الزيف الثقافي، وهي تجربة مرت مع كل من تواصل مع مؤسسة المثقف برئاسة الاستاذ ماجد الغرباوي، ليس كمسؤول، وإنما كمبدع يعيش الواقع الثقافي العربي ويغوص في أعماقه،  فقد استطاعت المثقف أن تفتح آفاقا جديدة أمام كل الأقلام بمختلف جنسياتهم من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب، وتحقق الانفتاح، واستطاعت بفكرها الواسع أن تقضي على الفوارق الثقافية، فلا تفرق بين كاتب كبير وكاتب مبتدئ، بل جعلت من الصغير كبير، واحتلت مساحات جديدة في النفوس بعمق وحرية من أجل إيصال الفكرة وتوضيح الرؤية، وتنوير العقول، فكانت نافذة تطل على العالم، وهذا هو الوعي الثقافي في كل تجلياته. (حسب قول الأستاذة "علجية عيش" في مقالها السابق).

كتاب: تحديات العنف

967 tahadiyatalonf

كما قلت في الفقرات السابقة انتفض قلمي لأكتب عن ماجد الغرباوي ولكن بشكل مختلف عن المرة الأولي، حيث أخترت إحدى كتاباته المهمة والتي تعالج الواقع الحالي، وهو كتابه الشهير " تحديات العنف"؛   لأعرض له وأحلله وأنقده،  وهذا الكتاب كان قد صدر للمرة عن دار الحضارة للأبحاث ودار العارف في عام 2009م، وفي هذا الكتاب قدم لنا المؤلف من خلاله خلاصة مقطرة ومركزة لكنها بالغة التعبير والدلالة لحقيقة اكتشاف البنية المعرفية للممارسة العنف من قبل المتطرفين الإسلاميين، أي محاولة اكتشاف المفاهيم والمقولات والفضاءات الفكرية والعقيدية التي تدفع المتطرف نحو قتل الإنسان لا لشئ سوي إنه يختلف معه عقدياً أو دينياً أو فكرياً، كما يحاول المؤلف التعرف علي الخطاب الديني التكفيري الذي يمارسه الفقهاء المتطرفون ضد الآخر المختلف دينياً أو عقدياً .

لقد أراد ماجد الغرباوي في هذا الكتاب أن يعطينا خطاباً تجديدياً، حيث حاول أن يحرر الفكر الإسلامي من قيود القراءات التقليدية والأيديولوجية وإعادة تفسيره وتأويله من منظور واقع الحداثة ونقله إلى فضاء معرفي جديد. من مفارقات السجالات الفكرية المعاصرة حول ضرورة تجديد الفكر الإسلامي وتطوير آليات علمية جديدة لدراسة فقهه وتوظيفه من أجل مواكبة مسار الحضارة والتجاوب مع متطلبات العولمة وتعقيدات الحداثة، أن معظم المفكرين الإصلاحيين والتجديديين المسلمين يحظون باهتمام عامة الجمهور في دول العالم الإسلامي وباهتمام الرأي العام الغربي ليس بسبب اجتهاداتهم الفكرية وإنجازاتهم العلمية المميزة، بل بالدرجة الأولى لأنهم يعايشون محنة العالم الإسلامي وعواقب العنف، حيث حاول الغرباوي أن يحدد شروط ممارسة القوة في الإسلام، فليس العنف مرفوضا مطلقاً، وإنما له مبرراته الموضوعية، ولاسيما مع المعتدي الرافض للحوار أو في حالات الدفاع عن النفس أو غير ذلك بامتلاك القوة أمراً ضرورياً جداً، لأن تمسك بزمام الحياة في عملية إدارة وقيادة المجتمع.

لقد تناول " تحديات العنف " بعض الحركات الأصولية المتطرفة التي مارست العنف بشكل مريب ومكثف، متخطين بذلك كل القيم الدينية والخطوط الحمراء التي أرستها الشريعة المحمدية، ولم يتوقفوا عن إرتكاب مجازر العنف حتى مع المسلمين، ممن يختلف معهم مذهبياً أو فكرياً أو عقدياً، كما يكشف كذلك علي أن وتيرة العنف والعمليات الارهابية في العالم في تصاعد ما دامت بؤر التوتر لم تلامس حلولاً موضوعية ولا يقابل العنف إلا بعنف مضاد، سرعان ما يتحول هو الآخر إلى سلطة فوقية تمارس العنف والاضطهاد . ولذلك يعالج الكتاب طبيعة الصراع بين الأديان والمذاهب علي حقيقة العنف، حيث يتساءل المؤلف : ما الهدف من هذه الممارسات؟ هل هي حرب ضد إرهاب الدول الكبرى كأمريكا وحلفائها، فلماذا يقتل الأبرياء؟ هل هي جهاد في سبيل الله، فلماذا يتقاعس العلماء؟ هل هناك ما يبرر أعمالهم شرعاً فلماذا لا تستجيب لهم الشعوب المسلمة؟ من الذي يجيز لهؤلاء قتل الرجال والنساء في كل مكان؟ ومن المسؤول عن فتاوى التكفير ورمي الآخر بالردة والانحراف؟ وهل الرأي الآخر مبرر للقتل والعدوان؟ ولماذا لم يقتل الرسول صلي الله عليه وسلم جميع اليهود والنصارى بل من لا دين له من العرب وغيرهم؟ وهل الحرب والسيف الوسيلة الوحيدة لنشر الإسلام وبيان الحقيقة؟ لماذا لا يتمكن المسلمون مقارعة الكلمة بالكلمة؟ وهل صحيح إن الإسلام عاجز عن ممارسة الديموقراطية واقناع الآخر بوسائل وآليات حديثه؟ هل حصلت للمتطرفين شبهة عقدية؟ هل يتلقون توجيهاتهم من جهات أعلى؟ من هي هذه الجهات؟ هل هم فقهاء؟ وأي فقهاء؟ هل يفقهون الحياة؟ وهل يدركون مقاصد الشريعة وغاياتها؟ وهل يعترفون بدور الزمان والمكان؟ أم فقهاء متحجرون، متغطرسون؟.

ولعل من المفيد – قبل عرضنا لهذا الكتاب ومحتواه – أن نشير في عجالة إلي أهم التوجهات الضابطة في مسيرة المؤلف الفكرية عبر فصول الكتاب العديدة .

وأبرز هذه التوجهات وهو ما ظهر له من أن دراسة "تحديات العنف " يمثل أمراً هاماً، لدراسة اسباب العنف واكتشاف بنيته المعرفية، من مقولات ومفاهيم وفضاءات فكرية وعقيدية، ومحاولة للتعرّف على الخطاب الديني التكفيري الذي يمارسه الفقهاء المتطرفون ضد الاخر المختلف دينياً وعقيدياً. واكتشاف الأدلة التي تبرر للإنسان منطق العنف والاقصاء والكراهية والتنابذ، وفهم طبيعة الثقافة التي تشبع بها الإرهابيون الدينيون فاستساغوا الموت وكرهوا الحياة، وامتلأت قلوبهم حقداً وبغضاء.

وثمة توجه آخر للمؤلف يتمثل في أنه إذا أمكن تحديد وسائل العنف، حيث يقول في مقدمة كتابه:" ليس العنف طارئاً، أو غريباً على سلوك الانسان، فماضي البشرية حلقات متواصلة من الحروب، وتاريخها مشهد تراجيدي موشح بالدماء، ونكبات الموت ترسم صورة قاتمة لمستقبل الحضارة الانسانية. وليس في الحياة سوى نكبات متوالية، وكوارث مرعبة. إنها ثقافة العنف الذي شكل تحدياً خطيراً لوجود الانسان منذ القدم، فراح يهدد أمنه وسلامته واستقراره. ويهوي به عميقاً في لجة التوحش والانحطاط. وهو اليوم أحد أخطر التحديات وأكثرها تعقيداً، وقد امتدت تداعياته إلى أغلب المدن فسلبتها أمنها واستقرارها. واختلطت الأوراق بشكل متشابك وملتبس بسبب ما أحدثته تلك العمليات من رعب واستفزاز إجتاح الساحتين الدولية والاقليمية، وبات من الصعب العثور على واحات سلام تسمح بالمراجعة والنقد، وتحري الخطأ وتشخيص الحلول الناجحة لتسوية الازمات، إذ ارتكز الجميع إلى فوهات البنادق لتصفية الحسابات، والتشبث بالعنف لتسوية الخلافات.

أما التوجه الثالث فيتمثل في ربط المؤلف دراسة العنف بالإعلام، حيث يقول :" إن التكثيف الإعلامي المضاد لوسائل الاتصال الحديث، بطريقة متهورة  أحياناً، ليس أقل خطر من الأعمال الإرهابية ذاتها التي يرتكبها البعض باسم الدين، أو هكذا يحلو لتك الوسائل أن تصفها. حتى تنبـّه ساسة بعض الدول إلى خطورة النتائج المترتبة على الأسلوب الاستفزازي للإعلام المضاد. فمثلاً دعا توني بلير رئيس وزراء بريطانيا في حينه وقبله جورج دبل بوش الرئيس الامريكي إلى توخي الحذر في إثارة حفيظة المسلمين والتمييز بين ما هو إسلامي ينتسب للدين الحنيف وما هو إرهابي يرتكبه بعض المتطرفين باسم الدين، مخافة أن ينقلب المسلمون أشد عنفاً إذا ما تمادت وسائل الإعلام في سياسة الطعن والتشويه، وتجاهل الحقوق المشروعة للشعوب في صراعها مع الدول المتسلطة، وحقها في التعبير عن ارادتها. وهكذا وضع الإسلام في قفص الاتهام حتى في حالات الدفاع الشرعي عن الذات والهوية.

علي أن هذه التوجهات قد صاحبها ثلاث نزعات للمؤلف: إحداها نفسية، والثانية أخلاقية، والثالثة عقلية . أما الأولي من هذه النزعات، فتتمثل في إفراط المؤلف في القول بأن :" ويكفي لتأكيد ذلك مسلسل الاعمال الطائفية التي ارتكبها هؤلاء في باكستان والعراق وأفغانستان ضد إتباع المذاهب الإسلامية، بل وابناء المذهب الواحد والدين الواحد والوطن الواحد كما في كثير من البلدان الإسلامية مثل الجزائر ولبنان حتى (أدى التوسع العنيف لادعاءات الهوية التي تستبعد الآخرين إلى كثير من المعاناة والتضحيات. ويقدر أن الصراعات بين الدول داخل العالم العربي تسببت بين 1948 و 1991 في مقتل ما لا يقل عن 1.29 مليون نسمة وتهجير نحو 7.3 مليون نسمة) . ناهيك عما حدث بعد هذا التاريخ من مجازر في المنطقة ذاتها. فقد كان ضحية الموجات الإرهابية (نفذها الإسلاميون ام غيرهم) في مصر بين 1992- 1995 مالا يقل عن 984 شخصاً، كما عاشت الجزائر اضطرابات إرهابية دامية، وقد اعتبر جل الملاحظين أن حصيلة الهجمات بلغت ما لا يقل عن أربعين ألف وربما أكثر . كما حصدت الأعمال الإرهابية في أفغانستان وباكستان والهند والسعودية ودول أخرى الآلاف من الضحايا، وعندما نصل إلى العراق نجد الاعمال الإرهابية حولته بعد سقوط التمثال حتى موعد تشكيل الحكومة الانتقالية الى لوحة متشحة بدماء الاطفال والنساء، ومطرزة بجماجم العزّل والابرياء. فلم يبق جزء بما فيها الأماكن المقدسة لدى الشعب إلا واستباحته الموجات الإرهابية المعادية للسلام والحرية...الخ.

وأما التوجه الثاني فتتبدي لنا بجلاء في مواضع عديدة من الكتاب يعزف فيها المؤلف لحن عظمة الإسلام في شجب العنف، حيث  يقول الغرباوي :" إن ممارسة العنف واستخدام القوة في الإسلام تجري وفق ضوابط خاصة تطوقها خطوط حمراء ومساحات محرمة واسعة، فهي قوة للدفاع عن النفس والحقوق المشروعة، لا يسمح معها بالاعتداء والتجاوز على العزّل والأبرياء من الناس، أو الإطاحة بالممتلكات العامة، تحت أي عنوان كان ما لم يجد العنف مبرره الشرعي. كما أن القوانين الدولية الرافضة للإرهاب تلتقي مع الإسلام في استخدام القوة دفاعا عن النفس وردعاً لتجاوزات المعتدين، وترفض أيضاً استخدام العنف اللامبرر.

وأما النزعة العقلية فتبدو لنا واضحة في نظرته وأفكاره النقدية واحتفائه بالعقل في كل ما يطرح من قضايا وما يثيره من إشكاليات، سواء كانت هذه الأطروحات مستقاة من لمحات تراثية أو مستمدة من وقائع وطواهر فكرية وثقافية معاصرة . ونعتقد بيقين أن المؤلف بنزعته هذه يحقق درجات عالية من المصداقية في كل ما يقدمه لنا في هذا الكتاب من حيث تنطلق هذه النزعة أساساً من رفضه للثقافة السائدة لكونها في مجملها مدفوعة بالسطحية، داعمة للفكر الرجعي، داعية إلي الجمود والانغلاق، ومن ثم فإنها لم تثمر إلا تخلفاً ونكوصاً في مجملها مدفوعة بالسطحية، داعمة للفكر الرجعي، داعية إلي الجمود والإنغلاق . ومن ثم فإنها لم تثمر إلا تخلفاً ونكوصاً يضاعف أبعاد المسافة بيننا وبين الحضارة والفكر العالمي المعاصر، ويند آمالا وأحلاماً لنا مشروعة في التغيير إلي ما هو أفضل.

إن هذه النزعات وما صاحبها من توجهات قد أسهمت في تشكيل رؤي المؤلف وتنظيراته التي ضمنها كتابه الذي بين أيدينا.

وينهج ماجد الغرباوي في معالجته لقضية "تحديات العنف" خلال أبواب وفصول هذا الكتاب، منهجا تاريخياً- نقدياً  - مقارناً في كل فصول الرسالة، مع استخدام منهج تحليلي تركيبي، بمعني أنه كان معنياً بتحليل أقوال توجهات القائلين بالعنف، حيث ارتكز المؤلف في كتابه إلي دراسة النصوص الدينية، وفلسفة أخرى في فهم الحقيقة. وتعمـّد المؤلف طوال البحث إلى استفزاز الوعي، وفتح الأضابير المحرمة، غير مكترث لأي ممنوع او محرم. ولا ينسى التأشير على الدوافع الشخصية والايدولوجية في فهم النصوص. والمحاولات المتكررة من قبل المذاهب والأديان ورجال الدين لاحتكار الحقيقية وتوظيفها لخدمة التبشير الديني، بعد تكفير المختلف والمعارض.

كما اعتمد الباحث ماجد الغرباوي في دراسته لهذا الموضوع علي المصادر الأصلية التي اشتملت علي تعريف العنف وتاريخه وفلسفته وانواعه، ثم التحديات الكبيرة للعنف على جميع الأصعدة. إضافة إلى دراسة مسيرة الحركات الإسلامية المتزامنة مع ممارسة العنف. وقراءة في الآيات والاحاديث التي يرتكز لها خطابها التكفيري، ومناقشة الفتاوى الدموية وفقه الكراهية الذي يتشبث به بعض الفقهاء لاستباحة دماء الناس. ولم يقتصر العنف على الحركات الإسلامية وحدها فهناك عنف الدولة والسلطة وعنف الفرد والقبيلة وغيرها من الأنواع.

يقع الكتاب الذي بين أيدينا في 417 صفحة موزعة علي مجموعة من القضايا والمحاور وذلك علي النحو التالي : بدأ المؤلف العنف تاريخياً، حيث تناول دلالاته الاصطلاحية، ثم عرض بعد ذلك للحديث عن القوة كمفهوم مغاير، حيث تناول القوة والعنف، القوة .. التسليح والتعبئة، القوة .. المدويات والأهداف، القوة .. المحددات والضوابط . كما تناول بعد ذلك فلسفة العنف من خلال العنف ومصداقية السلم وسيكولوجياً العنف، ولم يكتف بذلك بل راح المؤلف يتناول التحديات المختلفة للعنف سواء فيما يتعلق بمشروعه الحضاري أو وحدة المجتمع والأمة، أو الحوار بين الحضارات، أو أمن واستقرار الجاليات الإسلامية، أو قيام المجتمع المدني . ثم انطلق المؤلف عقب ذلك للحديث عن أشكال العنف من خلال : عنف الدولة، وإشكالية الفكر السياسي، أزمة السلطة، فخ العنف، أو الشعب ضد الدولة أو الدولة ضد الدولة . ثم تطرق بعد ذلك لموضوع مهم جداً وهو الحركات الإسلامية والعنف، وذلك من حيث التعريف بها، والركائز الفكرية، والإنجازات، والنشأة، كما تناول في ذات الموضوع لحركات إسلامية أخري، مثل الإخوان المسلمون في مصر، وحزب الدعوة الإسلامية في العراق وحركات إسلامية أخري ببعض الدول العربية، حيث تمكن المؤلف من أن يكشف أسباب ظهورها من خلال حركة الإصلاح الديني وسقوط دولة الخلافة، والاستعمار، والاستبداد، وفشل المشاريع الوطنية...الخ. كما تناول المؤلف لقضية مهمة بعد ذلك ألا وهي التطرف الديني والعنف، حيث أوضح لنا بداية العنف وأسبابه وذلك من خلال : الحاكمية الإلهية، وجاهلية المجتمع، والجهاد وفتاوي الفقهاء وعنف السلطة وأمور أخري. ثم تناول المؤلف بعد ذلك للسيرة النبوية والعنف مع قراءة لبعض آيات القتال في القرآن الكريم كما جاء في سورتي (الأنفال ويوسف) مع تحليل لأدلة القائلين بالحرب الابتدائية : سواء فيما يتعلق بحكم المشرك غير المعاهد، أو حكم المشرك المعاهد الناقص للعهد، أو حكم المشرك المعاهد الذي لم ينقض العهد، أو حكم أهل الكتاب. وأخيراً تناول أهم المصادر والمراجع التي عول عليها.

وفي نهاية عرضنا يمكن القول بأن كتاب " تحديات العنف" لماجد الغرباوي، سياحة عقلية خالية من أي تعصب، بعيدة عن أي إسفاف، مجردة من أي هوي، واعية متأنية في ذاكرة تاريخ الفكر الفلسفي الإسلامي نقف من خلالها مع المؤلف علي استقصاء دوافع العمل الإرهابي، إلا أنها تأمل أيضاً في تحديد شروط ممارسة القوة في الإسلام. فليس العنف مرفوضاً مطلقاً، وإنما له مبرراته الموضوعية سيما مع المعتدي الرافض للغة الحوار ولا يفهم سوى منطق القوة والعنف. أو كما في حالات الدفاع عن النفس أو مباغتة العدو المتأهب لقتال المسلمين خشية الاحاطة بهم إذا كانوا قادرين على ذلك. إذن فامتلاك القوة أو أن تكون قوياً أمراً ضرورياً جداً، لأن امتلاك القوة لا يعني العنف وإنما ( أن تكون نفسك لا غيرك ... وأن تمسك بزمام الحياة في عملية إدارة وقيادة .. أن تعطيك الحياة طاقاتها وثروتها لتسخرها كما تريد، وتفجرها كما تشاء، وتصنعها كما يروق لك. إما أن تفقد القوة ..فتكون ضعيفاً ..  تفقد القدرة على الصراع وعلى الحركة ..  فمعناها أن تكون صورة غيرك.. وظله، كمثل الشبح الذي يبدو، ويزول، ليعود في بعض اللمحات، باهت اللون، ضائع الملامح .. وأنك لا تشارك في الحياة إلا من بعيد تماماً، كاللمحة الخاطفة من الضياء الخافت الآتي من مسافات شاسعة على خجل واستحياء، من أجل أن يخترق سواد الليل فلا يخدش إلا بعض حواشي الظلام، بكل هدوء) .

وأخيراً وليس آخراً أقول إنني استمتعت بقراءة هذا الكتاب الجاد الذي رجع صاحبه لكل الأصول المتاحة، وهي هائلة كماً وكيفاً وتقصت حقيقة كل ما له علاقة بتحديات العنف في تراثنا العربي – الإسلامي، واجتهد في التأويل والتفسير، ونقل إلينا دهشته وشغفه فشاركناه مشواره، وأحسب أن هذا الكتاب فريدا في منحاه ومنهجه في كتاباتنا العربي، فهو ليس تأريخاً سردياً، وإنما هو تأريخ لحقبة من الفكر في تراثنا العربي – الإسلامي من خلال التحديات التي تواجه الجاليات العربية والمسلمة بسبب العنف، مستحضراً أمثلة كثيرة واجهت العرب والمسلمين كردود فعل سلبيه من قبل المتطرفين، كما قارن المؤلف في كتابه حال الجاليات قبل موجة العنف وبعدها، والإجراءات التي باتت تواجه العربي والمسلم في المطارات والأسواق، وتوجس الشعوب الأخرى من العرب والمسلمين تحديدا.

وفي النهاية لا أملك إلا أن أقول بأن هذا الكتاب كشف لي بأنني إزاء نموذج نادر يصعب أن يتكرر، لمثقف واسع الثقافة وكذلك لمفكر حر نزيه لا يقيم وزناً ولا يحسب حساباً إلا للحقيقة العلمية وحدها، وفوق ذلك وأهم من ذلك بالنسبة لنا أنه كان يقدم مادته العلمية فى أسلوب بالغ الجاذبية والتشويق تجعلها أشبه ما تكون بالعمل الفني الممتع دون أن تفقد مع ذلك شيئا من دقتها الأكاديمية، ولهذا لم أكن مبالغاً حين قلت في عنوان الكتاب بأن ماجد الغرباوي - مؤلف الكتاب يعد بالفعل في مرحلتنا الراهنة "أيقونة التسامح في زمن العنف".

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط