بأقلامهم (حول منجزه)

إشكالية الموت والحياة في قصة (وانشقّ القمر) للأستاذ ماجد الغرباوي / جميل حسين الساعدي

الإنسان بطبيعتهِ يخشى الموت، لأنه نهاية لما يسمى بالحياة، والتــي بالنسبة له ديمومة البقاء على هذه الأرض.

فبمجرد التفكير بالمــوت يجعل الإنسان فريسة للقلق ويعكّر صفو حياته. وأحيانا يولّد عنـــــده فكرة اللامعنى واللاجدوى في نظرته الى الحياة والوجود. وهـذا ما رآه أونامونو حين قال: " وأنا حين أجد نفسي مستغرقا فـي دوّامــة الحياة ــ مع ما يقترن بها من هموم ومشاغل ــ أو حينما أجـد نفسي منهمكا في حديث مشوّق أو في حفلة مسليـــّة، فإننــــي لا ألبــث أن أن أكتشف ــ على حين فجأة ــ أنّ الموت يحوم حولي، ويحلّق فوق رأسي! أستغفر الله، لا الموت نفسه، بل شئ اسوأ مــن الموت: ألا وهو الإحساس بالفناء، وهو ذلك القلق الأسمى الذي مابعده قلق" (1).

أمّا الفيلسوف الفرنسي الفرنسي باسكال   pascal  فهــو يتجاهــــل التفكير في الموت او يتناساه، كما يفعل غالبية الناس فيقول: " إنّه لما كان الناس لم يهتدوا إلى علاج للموت والشقاء والجهل، فقـــــد وجدوا انّ خير الطرق للتنعّم بالسعادة هي ألاّ يفكروا في هذه الأمـور على الإطلاق (2).

وقريب من هذا المعنى ما قاله لاروشفوكوla  Rochefoucauld  :" إنّ ثمّة شيئين لا يمكن أن يحدّق فيهما المرء: الشمس والموت " !في أ دبنا العربي يفسّرلنا الشاعر المتنبي ظاهرة الخوف من المـوت في البيتين التاليين:

إلفُ هــذا الهواءِ أوقع في الأنـ       فسِ أنَ الحمــام َ مرُّ المــذاقِ

والأسى قبلَ فرقة الروحِ عجزٌ       والأسى لا يكونُ بعـدَ الفراقِ 

فحسب رأي المتنبي يعود خوفنا من الموت الى اعتيادنا على الحياة، أمّا الموت نفسه فهو ظاهـــــرة، شأنه شأن الحياة، سواء بسواء، لا تستدعي الخوف. 

الشاعر الانكليزي المعروف جون ملتن يصف لنا في ملحمتـــــــهالشعرية (الفردوس المفقود) مشاعر الإنسان وانطباعاته تجــــاه ظاهرة الموت، عندما يتعرف عليها لأول مرّة، وذلك على لسان قابيل، الذي قتل أخاه هابيل في بيتي الشعر التاليين : 

سكنتَ وأبطلَ فيك الحراك         وهل ماتَ حيٌ اذا ما سَكَـــــــنْ

ألا لمْ تمُــتْ رغم اني رأيتُ        بوجهك معنى يثيــــرُ الشجَـــنْ 

نستنتج من البيتين السابقين أنه لا وجود للموت إلاّ في تصوراتنا، فبطلان حركة الجسم، لا تعني الموت إطلاقا،  وقد أدرك قابيــــل ذلك بفطرته. وقد أكّد هذه الحقيقة الأستاذ الغرباوي فــي معرض ردّه على تعليقي على نصّه، الذي نحن بصدده الآن حيث أفــــاد:

" كما تفضلت لا وجود للموت إلاّ في تصوّرنا، فهو كما يــــــرى بعض فلاسفة المسلمين انتقال من حالة الى حالة، وهذا الكلام وفقا للنظرية الاسلامية تام وصحيح. أمّا في الفلسفات غير الإسلاميـة، فالموت هو العدم المطلق. وهنا يظهر الفارق،ومدى تأثيره علـى سلوك الإنســان في الدنيا . فمن يعتقد (ويؤمن حقيقة) بوجود يوم آخر، يتوفر على وازع داخلي، يردعه عن ارتكــاب المعاصي، ويدفعه الى عمل الخير والإحسان.. ومهما كان رأينا حــــول هذه الظاهرة، لكنها تبقى هاجسا، تهز مشاعر الإنسان متى تذكرها "اذا ً يرى الغرباوي انّ الموت ما هو إلاّ عملية انتقال من حالـــــة الى أخرى . لكن ما طبيعة  هذا الانتقال والتحول؟ تضاربـــت الآراء وتنوعت الفلسفات بخصوص هذا الموضوع. ففلسفة الكارما الهندية تعتقد بتناسخ الأرواح، التي تعود الى الحياة من جديد وتحل في كائنات تحمل صفات مقاربة لصفاتها. امّا مسألة الثواب والعقاب بعد الموت فهي تؤكد على أنّ الإنسان يصنع مستقبله على ضــــوء طبيعة عمله . فالحياة مستمرة وهي لن تنتهي اذاما غادر الجسد هذا العالم إلى عالم آخر، وما الموت إلا جسر نعبر عليه الى الشاطئ الآخر. وقد  لمّح جبران خليل جبران بشكل رمزي الى معنــــــى الثواب والعقاب، المرتبطين بسلوكنا وأعمالنا فقال في بيت رائع: 

والموتُ كالبحرِ من خفّت عناصره

يجتازهُ وأخو الأثقالِ ينحدرُ 

الأديب الأستاذ الغرباوي حين يدلي برأيه في مسألتي الحيـــــــــــاة والموت من خلال حوار أو مناظرة فهو مباشر وواضح، لكنّه حين يعالج هاتين المسالتين أدبيا وفنيا، فهو يقودنا عبر غابات كثيفــــــة ويحثنّا أن نتسلّق قمما سامقة ثم يدعونا أن نهبط معه الى وديــــــان عميقة. إنّها رحلة الإثارة والإستغراب ! .. فهو يثير في نصّـــــــــه القصصي (وانشقّ القمر) مسألة الموت باسلوب، يّتّسم بالغرائبية وينحو منحى رمزيّا، لا يخلو أحيانا من بوح مكشوف عن المشـــاعر والأحاسيس، التي تنطلق من أعماق الإنسان، وهو يقف وجها لوجه أمام الموت.

في القصة يهاجم الموت الشخصيّة الرئيسية ويتسبب في مــــــوت النصف الأيسر منها، فيستمـــــرّ النصف الآخـــر يتفحــــص بيـن المحروقات أملا أن يعثر على النصف المفقود. وفي غمرة الذهـول والذعر، تتناهى الى سمعه كلمات مصدرها النصف الآخر. وهنــا ينقلنا الكاتب بخياله الى النقطة، التي يتداخل فيها الموت مع الحياة .فالمعروف انّ القلب يقع في الجانب الأيسر من جسم الإنسان، وهـو مصدر الحكمة والمعرفة، والكلمات، التي انبعثت من بين ركـــــام المحروقات، هي دليل على استمرار الحياة بعد الموت. إلاّ انّ الكاتب يتركنا فـــــــي دهشتنا و دون أن يعطينا جوابا مباشرا يقطــع الشكّ باليقين وهـــذا جزء مـــن الآليّة الفنيّة، التي اعتمدها في هندســــة نصوصه القصصية، والتي لمسناها في قصص سابقة.

الغرباوي كما ذكرت في مقالاتي النقديّة السابقة حول بعض قصصه، يمثّل منهجا جديدا في فنّ القصة الحديث، يتضمن عناصر مبتكرة من بنات أفكاره، وهي تحمل بصمات شخصيته الأدبيّة المتميّـــــزة في هذا المجال.

 *** 

جميل الساعدي - شاعر وناقد

......................

وانشق القمر ..!! / ماجد الغرباوي

  ...............................

(1)     Alain Guy “ Unammume „ ;Paris Seghers،

P.U.F.1964،pp. 30- 31

 (2)  د. زكريا ابراهيم:"تأملات وجودية" دار الآداب، بيروت،1962

الطبعة الأولى . العبارات المحصورة بين أقواس من ترجمة د.زكريا