بأقلامهم (حول منجزه)

محمود محمد علي: قراءة تحليلية - نقدية في كتاب ماجد الغرباوي "تحرير الوعي الديني" (4)

قراءة تحليلية - نقدية في كتاب المفكر العربي ماجد الغرباوي "تحرير الوعي الديني" (*)

ذكرنا في المقالات السابقة بأن كتاب "تحرير الوعي الديني" لكاتبنا المبدع ماجد الغرباوي يهدف إلي تصحيح الوعي العربي - المسلم بعد أن بلغ تزييف الإسلام مداه بفكر مغلوط عن دين جاء رحمة للعالمين، عاون عليه طلاب الحكم من جماعات التطرّف والعنف، الذين اختطفوه وحرفوه بممارسات خاطئة، وبخطط خارجية من قوى غربية تبغي تركيع المسلمين، ووظفوا الإخوة الأعداء لبلوغ مآربهم الخبيثة؛ فروجوا فكر التكفير بأباطيل وأوهام ليس لها سند صحيح.

والسؤال الآن هو: هل نجح المؤلف ” ماجد الغرباوي” في تحقيق هذا الهدف الذي نذر كتابه له؟

في اعتقادي أن المؤلف تمكن – إلى حد كبير – من تحقيق هذا الهدف، إذ يلحظ القارئ – المنصف- أن المؤلف ظل يطرح الأسئلة الكبرى، ثم يقدم الإجابة عنها بطريقة المحاججة العقلية البعيدة عن التعسف والاتهام، كما ظل يتكئ على أكثر من شاهد وأكثر من دليل حتى يجلو الفكرة ويؤكدها، دون الاعتماد على الشوارد من الشواهد أو المفرد من الأدلة، وخير مثال أنه حين سئُل الغرباوي: هل تعد الحضارة الإسلامية الآن نداً للحضارة الغربية، ولو في بعض جوانبها ولماذا، فأجاب الغرباوي قائلاً: ” الندية تحتاج إلى تكافؤ بين الطرفين، أو يكون الفارق الحضاري من الضآلة ما يسمح بالتناد بينهما فهل تعتقد أن واقع المسلمين الآن يصلح أن يكون ندا للحضارة الغربية؟ .. لا أحد يرى ذلك حتى المسلمين أنفسهم فمنذ الصدمة الحضارية وما زلنا عيالا على الحضارة الغربية في كل شيء، ونحن بدون الغرب كما يقول أدونيس صحراء وجمل. وعندما أقول لا ندية بينهما أعي جيدا ما أقول. نحن نحتاجهم في كل شيء ونفتقر لمنجزاتهم حتى النظريات في مجال العلوم الإنسانية، بل وحياتنا الآن تتوقف على تلك المنجزات خاصة العلمية منها، والغرب راهنا يستعمر الدول الإسلامية إلا القليل من خلال حاجتها وافتقارها له. ولو قطع الغرب إمداداته العلمية لتوقفت الحياة في كثير من الدول الإسلامية. الغرب هو المركز ونحن الهامش والأطراف ندور من حوله، وهذا ليس انسحاقا أو شعورا بالدونية. إنما هو واقع نعيشه كل يوم، فنحن لم نحقق نهضتنا ولم نتقدم ما فيه الكفاية بحيث نتخلص من تبعيتنا للحضارة الغربية، ونكون ندا لها. تصور حتى في المجال الأدبي نحن نقلدهم في تطورهم على مستوي الأداء والنظريات النقدية. غاية الأمر أن بعضا يحاول أن يجد جذورا إسلامية لها، كما بالنسبة لقصيدة النثر، وهي احدى عُقدنا لا نعترف بالخطأ ونجيد التبرير والبكاء على الأطلال. إذن نحن مدعوون لاستكمال نهضتنا وتقديم نموذجنا أولا ثم نطرح أنفسنا للتناد مع الحضارات الأخرى (48).

كذلك يحسب للمؤلف قوله: “.. وما لم تختف مظاهر التخلف، بمعالجات جذرية حقيقية، لا يكتب النجاح لنهضتنا المرتقبة، ويعني أننا وضعنا أقدامنا على الطريق الصحيح وكلما اختفت ظاهرة كلما سجل المجتمع تطوراً ملحوظاً. وهذا يتطلب تحولا ثقافياً ومعرفياً، وعليه يجب البدء من الثقافة من أجل وعي جديد للحياة، وعلاقتنا بالماضي والحاضر والمستقبل. ويجب التحرر من كل السلطات التي تعيق حركة الفرد والمجتمع.. الفرد عندنا مشدود للوراء، يلتفت إلى الخلف حتى وهو يمشي إلى الأمام، بينما شروط الحياة تغيرت، ولكل عصر حاجاته ومتطلباته (49).

كما نجد ” الغرباوي” يجمل آراءه باختصار شديد وهدوء لافت، مدافعاً عن منهجه، مبرزاً حقه في الجدل والنقاش ليس بغرض التجريح الشخصي، بل بحثاً عن الحقيقة العلمية، وفي إشارة من إشاراته الدالة النادرة يكبر المؤلف في صاحب المشروع اعتداده برأيه والجهر فيه بلا مواراة أو تمويه، مؤشراً إلى ضرورة أن علماءنا المعاصرين عن بنية معرفية تبني ولا تهدم، ومن ذلك قوله: ” نحن بحاجة ماسة لمراجعة ثوابتنا ومقولاتنا وتراثنا وفكرنا وثقافتنا، بحثاً عن مصادر قوتها وتشخيص نقاط ضعفها، ومطالبون بتجديد رؤيتنا للحياة والآخرة، وعلاقة الإنسان بما حوله، والعودة إلى مصادر وعينا وتفكيرنا، في ضوء الواقع، وتحكيم العقل في قراءة التراث ومصادره (50).

96 majedalgharbawi600

ويسرني في نهاية هذه القراءة أن أبارك للأستاذ “ماجد الغرباوي” صدور هذا الكتاب الرائع عن “تحرير العقل الديني”، وهذا يدل على أنه مثقف تنويري، ومفكر مضيء، ونجم فكري، وثقافي نقدي لامع، يتجدد كل يوم في فضاءات العلم، والثقافة، والسياسة، والمعرفة، ويقف ضمن طليعة المفكرين والمثقفين العرب المستنيرين، والنقديين المشتغلين على نقد الفكر الديني، والحركات الإسلامية، ومسائل النهضة، والإصلاح، والتجديد، والمعاصرة، والتنوير، والعنف، والتسامح بين الأديان والعقائد والمذاهب.

كما كشف لنا هذا الكتاب كيف أعاد “ماجد الغرباوي” كتابة العلوم الدينية في صيغة عصرية، وكيف أعاد أيضا تأويل موقف الشريعة من قضايا تطور العقائد، القلق المصيري، فلسفة الخلق، سؤال الوجود، المعرفة البشرية، منطق الخطيئة، فلسفة الخلق بين نظريتين، التأويل الموضوعي، سياقات التأويل، محددات القراءة، التداخل بين الأسطوري والديني، تشابه السرد، العناصر المشتركة، المعرفة الدينية، النهوض الحضاري، مواضيع غيرها متعددة؛ علاوة على أنه صاحب رأي معلن بجرأة ووضوح في قضايا الدولة والمجتمع المدني وحرية الرأي والديمقراطية ومواجهة الفساد والتطرف، خاصة في كتابيه الحركات الإسلامية.. قراءة نقدية في تجليات الوعي، وجدلية السياسة والوعي.. قراءة في تداعيات السلطة والحكم في العراق. ويؤسس فلسفيا للتعايش بين الأديان والثقافات.

علاوة على أن كتاب “تحرير العقل الديني” يمثل مشروعًا جديدًا لتجديد الفكر الديني مرتكزًا فيه المؤلف على العقلانية النقدية – البوبرية، حيث يري ضرورة تطوير علوم الدين، وليس إحياء علوم الدين القديمة، نظرًا لتجمدها الذي يحوِّل القرآن من نص ديناميكي يواكب الحياة المتجددة إلى نص إستاتيكي يواكب زمنًا مضي وانتهى، ويُؤسس الغرباوي لتفسير جديد ينتقل من الوعظ والإدهاش والتخويف إلى تفسير من أجل التعقل والتفكير؛ حيث وجدناه يدعو إلى تكوين خطاب ديني جديد في كتابه ” إشكاليات التجديد “، وافتتح مشروعه بالتأكيد على أن الإسلام الذي نعيشه اليوم خارج التاريخ ومنفصل عن واقع حركة التقدم، ومن ثم بات من الضروري العودة إلى “الإسلام المنسي”، ولذلك رأى الغرباوي تكوين خطاب ديني جديد وليس تجديد الخطاب الديني القديم، بإقامة بناء جديد بمفاهيم جديدة ولغة جديدة ومفردات جديدة وتهجينها بلغة ومفردات العلوم الاجتماعية والإنسانية وفق متغيرات العصر وطبيعة التحديات التي تواجه الأمة، ونشر ممارسة مفاهيم التنوع والتعددية وقبول الآخر.

وفي النهاية لا أملك إلا أن أقول بأن كتاب ” تحرير العقل الديني”، كشف لي بأنني إزاء نموذج نادر يصعب أن يتكرر، لمثقف واسع الثقافة، وكذلك لمفكر حر نزيه لا يقيم وزناً ولا يحسب حساباً إلا للحقيقة العلمية وحدها، وفوق ذلك وأهم من ذلك بالنسبة لنا، أنه كان يقدم مادته العلمية في أسلوب بالغ الجاذبية والتشويق تجعلها أشبه ما تكون بالعمل الفني الممتع دون أن تفقد مع ذلك شيئا من دقتها الأكاديمية، ولهذا لم أكن مبالغاً حين قلت عنه في أحد مقالاتي بأن ماجد الغرباوي نموذج كبير لـ “مجدد العقل الديني ” (51)

فتحية خالصة لماجد الغرباوي لابن أرض الرافدين، وحفيد هارون الرشيد، الذي كان وما يزال رمزاً من رموز المعرفة الموسوعية الفريدة، وواحداً من أصحاب الرؤية الفكرية والثقافية الشاملة.. بارك الله فى ماجد الغرباوي، وأفاد تلاميذه وقراءه بعلمه ووطنيته، بفكره وموضوعيته، بنقائه وطبيعته.

 

الأستاذ الدكتور / محمود محمد على

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.

...............

* هذا هو العنوان الأصلي للمقال.

48- ماجد الغرباوي: تحرير الوعي الديني (متاهات الحقيقة 5)، مؤسة اللمثف في سيدني، استراليا ودار أمل الجديدة، دمشق، سوريا، ط1، 2021، ص 367

49- نفس المصدر، ص 403

50- نفس المصدر، ص 402

51- محمود محمد علي: تجديد العقل الديني في مشروع ماجد الغرباوي، صحيفة المثقف، العدد: 4608، المصادف 18-04-2019.

https://www.almothaqaf.com/a/tanweer/936248