بأقلامهم (حول منجزه)

سمر محفوض: مغادرات إلى المخيلة.. قراءة في نص: حافات قلقة لماجد الغرباوي

ليس لديها متسع من وقت كزمن نصي أو قصصي فهي لا تريد أن تقف بالوسط - سعاد - بطلة النص والشخص الوحيد المؤكد والأكثر محورية و حضورا، في نص حافات قلقة للأستاذ ماجد الغرباوي..

في فن القص للسرد أولوية، ومكانة في العمل، لامجرد وجوده بل القصد إليه بحيث تبقى هناك حكاية، اي تطور حداثي وتشكيل للوقائع. ومن الواضح هنا ان الحدث مستخفي، يدور بذهن سعاد ويبرز مؤكدا ذاته. وان الوقائع المتخيلة يمكن ان تكون محورا للفعل ..

كثيرا ما تهمل القراءات النقدية المنطق الداخلي للقص، وتنشغل بجماليات بناء النص عن حيثيات حركته وولادته.. ولان أي إبداع لا يمكن أن ينفصل، عن منطقه الحيوي الداخلي .. فالمنطق الحيوي لحافات قلقة كان خارج عن القصد في تجربته، وفي فجيعته في تحقيق حلمه، باعتبار ان العمل الخاضع للقراءة النقدية يحمل مقاييسه النقدية بين طياته، وهو عمل ينظر إليه من الداخل. الكاتب هنا أيضا ينظر اليه من الداخل ويحاول ان يحلل عناصره .. يجرب أن يعيد ترتيب تلك المفككات. فالعمل السردي بالمحصلة هو معمار وتركيب هندسي لغوي، وهذا هو التحدي الأكثر صدمة في العمل الكتابي القصصي، حيث عليه أن يرصد البقعة القاتمة في ذات كل منا ...

في حافات قلقة نلاحظ حضور الواقعية النصية بكثافة (لكنه صارم، لا يجامل .. أعرفه جيدا، هذا ما أخشاه، حقا سيسحق غروري اذا تجاهلني.) هنا الزمن الخطي، الميتي التيولوجي يقتضي الإضاءة على الانا المسرودة بجدية، فهي تفتح التصدير / النص وهي ايضا الخواتيم التي تنغلق عليها نهاية النص من انا موغلة (ثم أفاقت فجأة، وماذا لو انكشفت اللعبة؟؟

نظرت الى نقطة بعيدة، تطوي الافق في عينيها، وابتسمت:

وماذا عن جوقة المطبلين؟ .. هكذا اجابت بثقة عالية.)

في تأكيد على ضرورة أن يقرأ العمل أي عمل إبداعي بعناية، وبكثير من الإكبار دون إقحام زائف، قد لا تتوفر السردية على الواقعية الهادئة بل تتدفق كما لو كانت شكلا من أشكال التداعي، أو تيار الوعي في الروايات النفسية..

(وكلما انتهى أحدهم من مهمته جلست تضحك، تتباهى، تعلوها ابتسامة صفراء، وهي تردد:

سترى .. سترى.)

تتميز حافات قلقة بالإضافة لعناصر السرد بوجود الحدث - (عادت الى بيتها منكسرة، مذهولة .. تحاصرها نظرات الشامتين، وتطاردها كلمات المستهزئين،) الذي يعني قليلا او كثيرا، القيام بمجموعة أفعال متتالية او مجموعة أحداث ووقائع تكون شبكة النص الأساسية، وتقوم بها مجموعة شخوص او فرد ذات سياقات محددة (وقالت: ما علينا الا ان نصّدق اوهامنا، ونجد من يدافع عنها، حينئذٍ ستكون هي الحقيقة في أعين الناس .. أليس أصدق الحقائق أكذبها؟؟). في مقتبل التعاطي لا بد من الإلمام والربط بين أواصرها، والتي يهضمها النص ببساطة لصالح التغيب، وذلك مدعاة إلى طرح سؤال التسمية حافات قلقة فان ما يلفت الانتباه انه تماما واقعية نصية ... في الوصف الواقعية النصية تحتاج الى وظيفة أو ذريعة هي بمثابة المنشط لدخولها النص – (.. لكن هل بمقدورنا ان نصنع انسانا كما نريد؟؟ ). هنا الحافات والقلق إشارة مضاعفة تضعك من أول النص بأجواء الترقب .. انه الطيف الباحث عن حريته او مأوى لروحه وجسده، وهو الوتر المشدود بين صراع الأضداد ليقيم التوازن راصدا مأساته الوجودية ومؤسسا ذاتا فاعلة عن طريق الوعي المكثف للمخيلة، أي الحلم او طابع الحلم الذي تفيق منه فيفاجئك تحول الكون من حولك (ولما حان وقت التحدي، ارادت ان تحمله، لكن ...

صعقها خواء حلمها.)

في حالة توهج بين الانا والعالم يتبدى ما يدعى أزمة النص .. (أمرتهم ان يصطفوا واحدا تلو الاخر، ثم طلبت منهم ان ينفخوا في قناة التمثال ويصفّقون له، فصدر منه صفير، راحت تتحكم به عبر الثقوب الأربعة. فاضفت على اصواتهم موسيقى باهتة..).

أما التحدي الأخر في حافات قلقة فهو ينتمي إلى بنية النص ذاته، من حيث تقشف الشخصيات المسرودة،، السارد هنا فرد وطيفه – سعاد - في شدة ودقة تفصيلاتها وبالاستناد الى الفهم الفردي وتأويل الشخصية الأساسية للنص أباحت للقارئ حرية استيلاد الأفكار وتنوع الصيغ أي ابتكار - أجمل - الموضوع بالأساس لم تضف جديدا فهو يندرج، ضمن عاديات السرد الكلاسيكي محادثة عبر الذات، لكن الرؤية ضمن الشخصية هي من يتجدد ليخلق أشكالا جديدة مختلفة وهذا برأيي مهم، لأنه تأكيد على مفهوم الكشف وقيمته. وثانيا كلما توغلت الشخصية بكشف دواخلها أمامنا عبر السارد البطل الذي هو استمرار في التأكيد على أهمية الجدل

(وماذا عن جوقة المطبلين؟ .. هكذا اجابت بثقة عالية)

يتفق القول السابق مع استخدام الخطاب السردي بمستوى تداول لغوي هو السياق الزمني الذي تنمو فيه الحكاية، والذي ينتمي بالطبع الى فضاء تاريخي محدد وهو هنا تعاقبي، تداخلي أحيانا ومتوازي ببعض مناطقه ودائري او متقطع يربط الأفعال والشخصيات بسلسلة من الأفعال الواقعية بمضمون السرد، أي ساحة الحكاية والحيز المكاني وتداخل سياقاته السردية محكومة أبدا بتاريخ وقوع الفعل هنا. وهواي الكاتب غير مدرك انها الحالة التي تصلح لهذا السياق ..

الطابع العام لكتابات الأستاذ الغرباوي على الرغم من أنها تحتوي على حيوية لا تخلو من كلاسيكية سردية لا يعيب النص بل هو نمط كتابي يتسم بمولدات كثيرة .. هذا طبيعي .. ومن التعسف أن نعتبره شكا بقيمة النص، بل هو يندرج ربما أكثر تحت بند الأدب التمثيلي الواقعي حتى الفهم والتشخيص.

وتأكيدا لثنائية الخير والشر، فلا بطولة مطلقة بل لحظة تجعل من الكائن بطلا، ولا شر مطلق بل جملة أسباب تخلق كائنا مشوها وشريرا - من حاجات الروح لا من حاجات المحيط، لكنها انعكاس له بالتأكيد مهما كانت أشكال حضورها أحلاما، رؤى، مسارات تأمل، او مساحات من الوصف السردي، بشكل ما يوائم بين مرور الفكرة وفكرة الكتابة عنها.

ولكن بطبيعة الحال يجب ان يقع كل ذلك في جوهر العمل ... لا على هامشه. بل ينصهر، في صميم نسيجه ولا يأتي من خارجه بالمعنى الخالص لو جاز التركيب اللغوي لصالح إنضاج الكائن الإبداعي المفترض.

هنا تتجلى حقيقة الكشف الذي يميط اللثام عن حقائق الوجود كخطوة في طريق طويل يحتاج إلى الشجاعة ويحتاج إلى قوة التحدي. عمل يقرأ بتأني وبشفافية مع الذكاء بالأسلوب .. يعري السراب الذي يتعب الساعين خلفه من حيث المقدرة على التعبير عن النفس.

في حافات قلقة مقولة النص تتلخص بان الانتقام ليس حقا من حقوق البشر، وهو طبق لا يفضل تناوله لا ساخنا ولا باردا بل لا يجب بالأصل أن يدخل في مفردات البشر، انما ينبغي استئصاله من قيمة البيئة الإنسانية، وجعله بلا ذاكرة مجتمعية او مكانية.. فلا كائن كامل، ولا خير مطلق، ولا شر منجز، بل هناك ظروف تؤهل لفعل الشر او فعل الخير والمحيط المجتمع بكل مكوناته هو المسؤول أولا وأخيرا عن جميع أفراده.

حافات قلقة نص ينفذ الى داخل القضية الإنسانية والنفس البشرية بكل مناقضاتها ليصور وجها من وجوهها المختلفة، قد يلغي احد الأوجه وجه أخر لكنهم في النهاية يمثلون الحياة كما هي وأحيانا كما يجب لها ان تكون نافذة بسعة الحلم.

 *** 

سمر محفوض - شاعرة وناقدة سورية