بأقلامهم (حول منجزه)

ماجد الغرباوي.. مؤسسة في رجل

.... من خلال تلك الأجواء الحداثوية والغربية الحرة نجد دعوات فكرية نقدية وثورية واصلاحية حرة ومتحررة تصدر من عقول مفكرين ومثقفين وكتاب عرب ومسلمين تنفسوا وعاشوا الحداثة بشكل يومي في الغرب، على مستوى البيت والمجتمع والمؤسسة والحياة والتفكير، وعلى أساس ذلك يحاولون نقل تلك الأجواء والأصداء الحرة الى مجتمعاتنا العربية والاسلامية، من خلال طرح مشاريع فكرية وثقافية تجديدية تحاكي الغرب وطريقته في التفكير والسلوك والنقد والثورة، ومن هذه الشخصيات والاسماء الفكرية المجددة يبرز المفكر والمثقف التنويري ماجد الغرباوي، رئيس مؤسسة المثقف العربي في أستراليا، وهو مفكر اسلامي تجديدي اصلاحي يبرز على الساحة الثقافية العربية والاسلامية اليوم، وذلك من خلال مشاريعه الفكرية الجديدة وطروحاته الفكرية المتنورة وكتاباته النقدية الجريئة، التي تحاول تفكيك التراث ونقده بآليات عقلية وفكرية حداثوية أقتبسها من محيطه وبيئته التي يعيشها في الغرب اليوم، وما كان للغرباوي أن يمارس النقد والتفكيك والتحليل والدعوة للإصلاح والتغيير لولا أجواء الحرية والحداثة والتغيير التي يتنفسها يومياً وهو في أرض الغربة، غربة عن وطنه وأرضه وأهله ومحبيه، ولكنه أستطاع بفكره ونقده وصبره تحويل تلك الغربة الى وطن، وتحويل هذا الوطن الى مؤسسة حرة وحيوية فاعلة يستظل فيها جمع من الكتاب والمثقفين والمفكرين التنويريين الذين يؤمنون بقيمة النقد ونقد النقد، والايمان بالآخر كقيمة الايمان بالانا والذات، وهذا ما أستطاع الغرباوي العمل عليه وتكريسه في مشروعه الفكري التنويري من خلال مؤسسة المثقف العربي الرائدة، التي استطاع من خلالها الغرباوي نشر طروحاته الفكرية من جانب، وتسويق فكره وكتاباته من جانب، وتأثيره على الكتاب والمثقفين من جانب آخر، وهذا ما يحسب له بصورة واضحة جداً، اذ كان بحق مؤسسة في رجل، واستطاع تجسيد تلك المؤسسة والافكار والنشاطات في سلوكه اليومي والثقافي ويشهد على ذلك الكثير، هذا من جانب غربة الوطن والمكان الذي أستطاع كسره وتجاوزه وتشييده لوطن يليق به ويعشقه، أما من حيث غربة الزمان والتاريخ، فأن الغرباوي لم يحاول الهروب من تاريخه وتراثه العربي والاسلامي والتمسك بتاريخ غربي جديد يريد تقليده وتمجيده، ولكن تاريخه ظل يرافقه طوال حياته منذ اللحظة الأولى لتشكيل وعيه وثقافته الى يومه هذا، ولكنه والحق يقال والذي يتضح من خلال سلسلة طروحاته وكتاباته الفكرية أنه نظر لذلك التاريخ والتراث بعين ثانية غير التي كان ينظر بها اليه وهو يعيش في البلاد العربية والاسلامية، فالفرد منا حين يفكر ويكتب يكون أسير المكان والزمان الذي يعيش فيه ولا يستطيع تجاوزه والقفز عليه بجرأة وجدية.

لقد استفاد الغرباوي من الأجواء الفكرية والاجتماعية والثقافية والسياسية التي يعيشها في مجتمعه الغربي وحاول الاستفادة من تلك الأجواء للتفكير بهدوء في نقد المنظومة الفكرية والدينية الاسلامية ومحاولة تهذيب وتشذيب الكثير من الافكار والآراء التي علقت في فهم تراثنا، ونزع القداسة مما لا يستحق التقديس، وكشف الأقنعة والزيف المحيطة بكثير من النصوص والمعتقدات، وتعرية الخطاب الديني والسياسي، وبيان مدى التشابك الحاصل بين الأثنين لعقد الصلة بينهما لتحقيق المزيد من الهيمنة والتسلط، وتحقيق عوائد وأرباح طائلة من تصالح السلطتين معاً، وهذا ما أدى الى وجود دكتاتوريات فكرية وثقافية ودينية لا تقل عن الدكتاتوريات السياسية الحاكمة، بل للأولى قصب السبق في تأييد ودعم دكتاتورية الحكام والاحزاب والسلطات الحاكمة، من خلال تقديم سند ديني وشرعي لاستبداد الحاكم والسلطة السياسية المهيمنة، وقد لعب وعاظ السلاطين دورهم الكبير على مر التاريخ لتحقيق ذلك الهدف المقيت.

لقد عمل الغرباوي في العقود الأخيرة من فكره وحياته على زيادة مستوى النقد والثورة على الخطاب الديني والسياسي المهيمن على الساحة الاسلامية، وذلك من خلال مؤلفاته الكثيرة في هذا المجال، ونذكر منها على سبيل المثال : (اخفاقات الوعي الديني) و (الضد النوعي للاستبداد) و (جدلية السياسة والوعي) و(مدارات عقائدية ساخنة) وفي كتابه الأخير (النص وسؤال الحقيقة، نقد مرجعيات التفكير الديني)، وغيرها من الكتابات، وفي هذه الكتب والحوارات نجد الحضور الكبير للمشروع النقدي للغرباوي، والذي يفكك فيه الكثير من قضايا التاريخ والتراث والدين والسياسة والأيديولوجيا والمعرفة، ويكشف عن مستوى التحريف والتزييف في مستوى الوعي الديني للجماهير، من خلال سلطة الفقهاء وزيف التراث، والمنهج اللاعلمي السائد في سرد الروايات والنصوص وفي معالجة الافكار. وهناك وعي جديد ومتقدم في كتابات الغرباوي الأخيرة تختلف عن وعيه السابق في كتاباته الأولى، وهذا ما يلاحظ على فكره وكتاباته المتأخرة.

*** 

ا. د. رائد جبار كاظم

أستاذ الفلسفة، الجامعة المستنصرية، بغداد

شهادة ضمن دراسة له عن كتاب: النص وسؤال الحقيقة.. نقد مرجعية التفكير الديني، المنشورة في المثقف على الرابط أدناه:

https://www.almothaqaf.com/readings-2/932113