بأقلامهم (حول منجزه)

علجية عيش: محطات بارزة في فكر التجديد عند ماجد الغرباوي

سؤال يتبادر إلى الذهن ونحن نقف مع قامة فكرية في الساحة العربية، مثل ماجد الغرباوي. أين نصنف الفكر الغرباوي؟ هل نصنفه ضمن قائمة المفكرين المشهورين سواء كانوا عرب أم أجانب. وهل وصل ماجد الغرباوي بفكره الشمولي أو الكوني الى العالمية القائمة على الأسس العقلية؟، وهل سيلقى فكره قَبُولا لدى الآخر (الفكر الغربي) في حالة ما إن ترجمت أعماله الى لغات أجنبية، فماجد الغرباوي من خلال بحوثه عرف بانفتاحه على العالم، من خلال دعوته الى التجديد وإخراج الأمة العربية والإسلامية من مستوى الانحطاط الذي بلغته في مرحلة ما.

استطاع ماجد الغرباوي بفكره أن يشغل مساحة واسعة لنشر أفكاره. والمتتبع لكتاباته يقف على أن الغرباوي، مُنَظِّرًا وناقدًا ومجددًا، حيث تدور ابحاثه حول الخطاب الديني وتحرير العقل البشري من بنيته الاسطورية، مسلطا الضوء على كثير من المشكلات التي حظيت بنقاشات واسعة لدى النخبة المثقفة متخذا في ذلك مسارا جديدا في عالم الفكر والاستبصار. كما تناول قضايا تتعلق بمرجعيات الفكر الديني، حاول من خلالها إبراز سبب إخفاق الوعي الديني ولماذا انتصر الآخر علينا، كما تناول قضايا المرأة من وجهة نظر فلسفية تحررية، وما يمكن تقديمه من حلول مخاطبا في ذلك النخبة المثقفة من أجل فهم متجدد للدين، كشرط أساسي لأيّ بناء حضاري، ويمكن القول أن ماجد الغرباوي قد أشبع طرحا مستفيضا في كتبه وأبحاثه متتبعا الواقع الراهن وهو يرد على سؤال النهضة.

في هذه الورقة المتواضعة نقف على "النظرية الغرباوية" وما قدمته من أفكار ورؤى حول الإنسان في تقدمه تارة وتأخره تارة أخرى وفق ما تقتضيه الظروف، فكتاباته تأتي لتدعم جميع توجهاته في المجالات السياسية والفكرية، لامس من خلالها الوضع العربي وما يعانيه من مشاكل تعيق ازدهار الحركة الفكرية والسياسية والثقافية. فجل كتابات الغرباوي تدعو إلى تنوير العقل البشري وتحريره من القيود والتبعية السياسية والإقتصادية وحتى الفكرية عن طريق الحوار مع الآخر وممارسة النقد بأسلوب عقلاني حضاري، من أجل تقارب الأفكار بين الرأي والرأي المخالف/ المختلف، وبالأخص الصراع الدائر حاليا من جهة بين الحركات الإسلامية التي تبنت العنف كحل سياسي. ومن جهة أخرى حول مسألة الطائفية. ففي كل إصدار له نجده يغوص في إشكالية الأنا والآخر، الثابت والمتغير، المقدس والمدنس، يراجع فيها المفاهيم والأفكار حتى لا يُعَرِّضَ الوعي للإخفاق، خاصة حين ينفعل الوعي بالعالم الخارجي فيحوله ويُكَيِّفُهُ ويُغَيِّرُهُ، جعله ينتقل من مرحلة إلى مرحلة أبعد منها، إلى أن وصل إلى المرحلة الراهنة التي لم يستطع تعدّيها أو تجاوزها، لأن الأنظمة تغيرت وقوانين النظام الإجتماعي لم تعد ثابتة، في ظل نزاعات حزبية وسياسية معينة ومواقع إيديولوجية أثرت بالطبع على مضامينها وجديّة تمثيلها لموقف من المواقف، خاصة وأن المحدثين الأوائل كانوا فئات متفاوتة المشارب والثقافة والقدرة على الاستيعاب، فكان الغرباوي شديد الحذر إزاء النصوص.

وقد شهد فكره الكثير من الباحثين الأكاديميين الذين أشادوا بمشروعه الفكري الذي أثرى الساحة الفكرية والثقافية العربية، ورغم أن أسلوبه يتميز أحيانا بالتعقيد، لأنه يبتعد أحيانا عن الخطاب المباشر أي المصارحة، إلا أن أفكاره تتفق في مجملها مع الكثير من المفكرين التنويريين. فقد حرص الغرباوي على تقديم أفكاره ورؤاه وفق معطيات منطقية لامس فيها روح الواقع بنظرة علمية متفتحة، ما يعني قدرته على "المناظرة" والتحدي من أجل كشف الحقيقة ورفع اللبس عن القضايا المعقدة، في سبيل الارتقاء بمشروعه الفكري، كما نرى ذلك في كتابه الذي ناقش فيه "إشكاليات التجديد"[1]، وكتاب "التسامح ومنابع اللاتسامح"[2]، خاطب فيها الإنسان، هذا الإنسان الذي تطور في تمثله حركة العالم، بحيث ينظر إليه نظرة تاريخية، باعتبار أن التاريخ مادة متحولة متحركة، وفي كل حركة تاريخية يتحرك معها الإنسان، يظهر ذلك في عمله الجماعي، يتكون وينمو، فيضفي على نفسه صفة الواعي المدرك لمسؤوليته في العالم المعاصر، وقد يتأخر لظروف اجتماعية تؤثر عليه ومحيطه والبيئة التي يعيش فيها، فتجده يمشي بخطى مترددة كما أنه يتأهب لخوض معركة مريبة الخاتمة، فمن خلال ما وقفنا عليه من إصدارات آلينا أن نقرأ الغرباوي وما تحويه نظرياته من أطروحات، وأن نتأمل نصوصه في سياق الموقف الإجتماعي والسياسي السائد في الوقت الراهن.

التجديد عند الغرباوي هل هو ضرورة حضارية؟

فكتاب "إشكالية التجديد" كان عبارة عن أسئلة طرحها ماجد الغرباوي، هي أسئلة فرضتها حالة التخلّف والانحطاط الذي بلغته البشرية، فكانت موضع اهتمام الدارسين والمفكرين رفدت أقلامهم الوعي بكل جديد، من أجل نهضة حضارية تعيد للمسلمين مجدهم الضائع وأبقتهم في دوامة السؤال والبحث كمنتج فكري عن سبل كفيلة بإنجاز نهضة تمثل هويتهم، وتجسّد قيمهم ومبادئهم، لدرجة أن الكتاب طبع ثلاث مرات، الأولى في سنة 2000 ضمن سلسلة كتاب قضايا إسلامية معاصرة، والثانية سنة 2001 ضمن نفس السلسلة في بيروت، والطبعة الثالثة، صدرت عام 2017م، مع مقدمة بعنوان: التجديد والفعل الحضاري في ضوء التحول الثقافي والفكري. إذ يرى ماجد الغرباوي أن التبعية إحدى مظاهر التخلف، لأننا نعتمد على الغرب في كل ما نحتاجه، حتى ثرواتنا التي يحتاجها الغرب يصعب علينا فرض شروطنا عليه إلا بصعوبة، ومكمن الخطر أن الشعوب لا تعي مخاطر التبعية[3]. ويمكننا هنا أن نقارن بين فكر الغرباوي ومالك بن نبي في مسالة التبعية فهما يتقاسمان الفكرة لكن لكل منها طريقته الخاصة، بحيث سماها مالك بن نبي بـ: "القابلية للاستعمار"، وهو يطرح سؤال النهضة ليجد علاجا للمشكلات الحضارية وسلوكات المجتمع التي ادت إلى اتساع الهوة بين الإنسان وواقعه الذي تحكمه ظروف تاريخية، وجد نسه عاجزا عن التوفيق بين حاضرة وماضيه الحضاري.

فنحن نقرأ بحوث الغرباوي خاصة ما تعلق بالتراث والحداثة، وكأننا نقف على متطلبات حوار الحضارات وضمان استمراريته (اي الحوار) وفعاليته، الأمر طبعا وكما يقول مفكرون يقتضي الإيمان بالحوار، والتقيد بتقنياته وأساليبه والإتفاق على مرجعيته المتمثلة في العقل أو المنطق، كنهج أساسي في العلاقة مع الآخر، أي توجيهه الوجهة الصحيحة في حسم الخلافات والنزاعات، وهذا يطرح تساؤلا هو كيف يمكن التوفيق بين خطاب العقل وخطاب العاطفة (العاطفة الدينية) وكيف يمكن ربط العقل بالمفاهيم المتناسقة (الوعي، الفكر، الثقافة والتراث) وإن كان بالإمكان الوصول إلى قناعة ترضي الطرفين وتخدم الجميع، خاصة في مجال إعمال العقل في النص الديني وإعطائه صبغة "القداسة"، كونه ينظم كل مناحي الحياة،

ويشير ماجد الغرباوي إلى ما تعانيه الشعوب من استبداد سياسي صعب عليها تقرير مصيرها بنفسها، سواء التي تعيش تحت نير الإستعمار، أو التي تمارس حكوماتها التسيير الاستبدادي الدكتاتوري، من خلال مصادرة الرأي وقمع المعارضة وتلجأ إلى تكميم الأفواه عن طريق الاعتقالات، فتجده دوما يبحث عن المخرج من أجل وحدة الأمة التي تعتبر جزءًا من الدين، وهي قضية الإسلام ولا يمكن أن تنفك أو تنفصل عنه.، ويربط ماجد الغرباوي الاستبداد الديني في العالم العربي والإسلامي بانتشار الفكر التكفيري، الذي قادته حركات إسلامية متطرفة وهذا بسبب القراءات الخاطئة للقرآن وتأويلاته والفتاوي التي أباحت قتل الآخر، وهتك عرضه وحرمته، ومما زاد في تفاقم الحالة تعدد الخطابات، بين الدينية، الطائفية والقومية، هذه الخطابات أزهقت الحق بدلا من أن تزهق الباطل، فماجد الغرباوي في هذه المسائل يحاول إحقاق الحق، وهو في هذه الحالة يسير على نهج بعض المفكرين، من بينهم واصل بن عطاء الذي يعتبر أول من قال أن الحق يُعْرَفُ من وجوهٍ أربعة: "كتاب ناطق وخبر مجتمع عليه وحجّة عقل (القياس) وإجماع"[4].

ولذا يرى ماجد الغرباوي أن التجديد ضرورة حضارية، منبثقة عن حركة الأشياء[5]. الملاحظ أن الغرباوي يربط التجديد بالحداثة التي باتت ضرورة حضارية، رغم الهجوم الكاسح ضد المجددين، وصل إلى حد القذف والاتهام والطعن في الأعراض، والتجديد في نظر الغرباوي لا يعني إلغاء الآخر أو إبعاده ووضع آخر في مكانه، وإنما يعني به تحديث أدوات التفكير عبر مناهج ونظريات حديثة، خاصة في المسائل الدينية من أجل فهم الدين ومقاصده وغاياته ..الخ[6]، في ضوء تكون وعي الإنسان، وهذا يحتاج إلى مراجعة الثوابت والفكر والثقافة، رفع الجمود على النص وتقليد السلف، والانتقال من أسلوب التلقي الأعمى إلى البحث فلا يجب ان ننساق وراء حمايات لا نعرف عنها شيئا، أو نشارك من حيث لا نشعر بطقوس وممارسات تمتص طاقتنا ولا تساهم في إثراء النهضة.

و قد تحدث ماجد الغرباوي عن دور الثقافة في تحديد اتجاه الوعي، وقارن بين الثقافة المنغلقة والثقافة النقدية الجادة (المنفتحة)، الأولى كما يقول هو تفضي إلى واقع سلبي يغيب الوعي، وينتقد ماجد الغرباوي ممارسات تزييف الوعي، ويؤكد نحن بحاجة إلى وعي رسالي[7] في إطار مبني على منهج صحيح بعيدا عن الخطابات التحريضية من أي جهة صدرت ما دامت المسألة قابلة للبحث والدراسة، من وجهة نظر غرباوية فإن تخلف المسلمين سببه انقسامهم أمام النهوض الحضاري، الأول منبهر بالغرب، حيث تبنى ثقافة التغريب، وصل به الأمر إلى حد التبعية، الثاني أصولي متعصب للتراث ولا يرى غيره رافضا معطيات الحضارة الحديثة، والثالث عاد لمراجعة التراث يستنطقه دون التغلغل في أعماق الوسط الإجتماعي مهملا الجانب المعرفي[8]. ولذا ترى النظرية الغرباوية أن الوعي يشكل نقطة انطلاق في مهام التجديد، والوعي عند الغرباوي يعني إدراك الواقع وتشخيص أخطائه[9]، وإعادة النظر في إشكالية الحوار مع الآخر المختلف وفق مبدأ قرآني، دون أن ينسى دور المثقف في تكوين بنية المجتمع فكريا وفي تجديد هويته الثقافية، حيث يدعو الى منهجة الثقافة والمعرفة، وترك عملية الدفع الإجتماعي تأخذ مجراها، في إطار ديناميكية التناسق أو التضامن طالما في المجتمع البشري فئات مختلفة.

تحديات العنف والتطرف عند الغرباوي

وتشكل ثقافة العنف عند الغرباوي تحديات خطيرا لوجود الانسان منذ القدم، ولا يزال العنف من أخطر التحديات وأكثرها تعقيدا، وبات من الصعب العثور على طريقة تهدي إلى تشخيص الحلول الناجحة لتسوية الازمات، التي تفاقمت في العقود الاخيرة من القرن المنصرم وهذا القرن حتى تحول العنف الى سلسلة أعمال إرهابية وموجة تفجيرات وعمليات انتحارية طالت مناطق واسعة من العالم، اتهمت الرسالة السماوية بالدموية، حتى بات العنف علامة فارقة تتصف بها الحركات الإسلامية جميعا[10]. ما يلاحظ أن ما جاء في هذا الكتاب قد اشتمل على تقرير، تحدث فيه ماجد الغرباوي عن التكثيف الاعلامي المضاد لوسائل الاتصال الحديثة، بطريقة متهورة أحيانا، ليست أقل خطر من الأعمال الإرهابية ذاتها التي يرتكبها البعض باسم الدين، بل بات المسلم في نظر هذه الشعوب حيوانا مفترسا لا يستحق الحياة، بعد تجرد الإرهابيين من قيمهم الإنسانية وارتكابهم أعمالا مخزية ضد البشرية، أو ضد التطور الحضاري، فصار العنف يشكل تحديا كبيرا للمشروع الإسلامي الحضاري.

فماجد الغرباوي يطرح مسألة العنف من وجهة نظر فلسفية، هل هو حقيقة أم هو استعداد قابل للتطور والتفاقم؟ وهل هو حاجة غريزية؟ أو فعل إرادي يمكن السيطرة عليه؟ أم أمرا عارضا على الإنسان يمكن التخلي عنه؟، يقول الغرباوي أنه صعب الإجابة على هذه الأسئلة[11]، لأن هناك اختلاف في الرؤى والتصورات بين الفلاسفة والإنتروبولوجيين، خاصة إذا كانت السلطة تسعى لتأسيس دولة تنضبط داخلها الأمور كلها، ونجد هنا أن الغرباوي قد استعان بحوار الإنتروبولوجي المغربي عبد الله حمودي[12]، إذ يؤكد في الصفحة الموالية للكتاب أن مشكل العنف مشكل شائك وحضوره قائم، بمعنى أنه لن يكون مآله الزوال ومن ثمّ القضاء عليه مستحيل، في البداية انطلق الغرباوي من تاريخ نشأة العنف عندما تحدث عن حادثة ابني آدم (قابيل وهابيل)[13] التي عكست طبيعة العلاقات التي مر بها الإنسان خلال مراحل حياته، وهذا يعني كما يقول هو أن تاريخ البشرية بدأ بالعنف في أول خطواته، مقدما في ذلك صورة واضحة لفكرة "الجهاد"،إن كانت تعني قتل الأبرياء الذين يختلفون معهم دينيا أو مذهبيا أو تعني تفجير الساحات العامة والمباني والمؤسسات ومحطات النقل؟ وهل من الجهاد قتل الذين يمارسون شعائرهم الدينية بأسلوب انساني مسالم؟ وهل من الاخلاق قتل النساء والاطفال وذبح الاسير، من الوريد الى الوريد؟ انها أعمال وحشية لا انسانية فكيف يرتضيها دين الاخلاق والقيم الانسانية[14].

يقول الغرباوي أنه حان الوقت لمقاربة الاسئلة الممنوعة واستنطاقها والتنقيب عنها في أعماق التراث بحثا عن مكوناته وآليات تكوّنه، إذ ما زال التراث يتحمل القسط الاكبر من مسؤولية التخلف الحضاري للمسلمين، يكون ذلك عن طريق فتح حوار مع الذات عن الخلفية التي ينطلق منها الأصولي والمتطرف في ارتكابه ممارسات إرهابية وإقدامه على عمليات انتحارية ضد الناس الأبرياء، فالتمادي في ممارسة "الإرهاب" المسلح دون مناقشات علمية للبنى العقدية القائمة عليها، سيجعل من الأخيرة مرجعية يرتكز إليها كل من يبغي محاربة الآخر ممن يختلف معهم دينيا أو فكريا أو عقديا، لدرجة أنه ظهر الخلط في تحديد المفاهيم، فلا يوجد تعريف متفق عليه بخصوص مفهوم الإرهاب، ففيما يعتبره البعض عنفا واطرفا يراه البعض على أنه إقدام وشجاعة من أجل استرجاع حق مغتصب[15]. في كل هذا وذاك يقارن الغرباوي بين ما تمارسه الجاليات العربية والاسلامية التي تعايشت مع الآخر ونشأت بينهما علاقة مفعمة بالتسامح والاعتراف بالتعدد الثقافي والديني في الوقت الذي مارست فيه بعض شرائح المجتمع، كل أشكال العنف المسلح حتى صار العنف سلوكا يوميا عندها، بل تحول إلى ثقافة وفكر وعقل ومنهج في التفكير؟ ويرجع الغرباوي السبب إلى تسلط الأنظمة على شعوبها وتدميرها القيم الانسانية، واستنبات قيم جديدة اعتمدت العنف واستباحت المحرمات الانسانية والدينية.

جدلية العنف والتسامح في المشروع الإصلاحي لماجد الغرباوي

هل الغرباوي رجل إصلاح؟ ومن ثم يمكن ضمه إلى قائمة الإصلاحيين مثل الكواكبي ومحمد عبده وجمال الدين الأفغاني، هذه الأسئلة تقودنا إلى تحديد مفهوم الإصلاح عند الغرباوي، فهو يرى أن الإصلاح واقع مادي جوهري وله قيمة فوق تجريدية وهو مرتبط بالتجديد[16]. حتى الذين تابعوا كتاباته أجمعوا على أن ماجد الغرباوي لم يذكر الإصلاح إلا وأردفه بالتجديد وفي جميع حواراته، لم يكن يفصل التجديد عن الإصلاح والعكس، كما أن جل رجال الإصلاح في المشرق العربي والمغرب العربي ركزوا في دعوتهم على مصطلحات تشمل التجديد والإصلاح والتسامح والتعايش، اكتسبوا من خلالها درجة من التقديس أبعدت عنهم كل الشبهات والتهم، وهذا الكتاب يعتبر متمما أو مدعما لما سبقه، ولذا اهتم الغرباوي من بين كل الإصلاحيين بالأفغاني[17]. إذ يرى الأفغاني في إصلاحه أنه إصلاحي نهضوي وكان مجددا رغم أن العاطفة الإسلامية تغلبت على انبهاره بالحداثة، يقول الغرباوي ان إسلاميات الأفغاني كانت موضع تشكيك من السلفيين[18].

أما مسألة النهضة، فالغرباوي يعرضها كأطروحة ثابتة تشمل مفهومين: الأولى إحياء وبعث الدين بلا انحرافات، والثانية ربط السياسة والأفكار بالعقائد، مقدما في ذلك شيخ الإصلاح محمد حسن النائيني منظر الحركة الدستورية "نموذجا"، لاسيما والشيخ النائيني وبغض النظر عن مذهبه، فهو يشترك مع رواد الإصلاح بنفس الاستراتيجية، وقد واجه نقاشات وجدالات وتساؤلات ومعارك فكرية متعارضة، ويبدو أن الغرباوي من بين المتأثرين بفكر محمد حسن النائيني بحكم نظرته الخاصة للإنسان وكيف يمكن أن يعيش، أكونه دقيق النظر في المسائل المعقدة والمستعصية حلها لاسيما في الجانب العقدي دون أن يهمل الجانب الذي يعتبر الأساس في دعوته كتهذيب الأخلاق والمعاملات من أجل تحقيق الفضيلة[19]. فهو مثلا يرفض الجهاد ضد الحاكم المسلم في المقابل يقبل بالأعمال الحربية ضد الإستعمار، المسالة هنا هي مسالة موازنة بين الدعوة والدولة والإسلام هو الفكرة السائدة في هذه الموازنة، ما دفع المفكرين للتساؤل عن من يملك الاستقلالية المطلقة الدين أم الدولة؟ وربما ماجد الغرباوي واحدا منهم، بدعوته إلى استخدام العقل في القضايا المصيرية والتعقل في كل المسائل التي تتعلق بالإنسان كجوهر.

موقف ماجد الغرباوي من المدارس النسوية

لا ينفك ماجد الغرباوي أن يقحم المرأة في أطروحاته، ففي كتابه "إشكالية التجديد" اعتبر المرأة مقياسا لتطور المجتمع، وقمعها يعتبر أحد علامات تخلفه، حيث تعيش المرأة مسلوبة الإرادة والاختيار، بينما تعيش المرأة في الغرب إنسانا كاملا في الحقوق والواجبات[20].

وقد كانت هناك قراءات حول رؤية الغرباوي لقضية المرأة، منها القراءة التي أجراها الدكتور محمود محمد علي في كتاب: "الفلسفة النسوية في مشروع ماجد الغرباوي التنويري"[21]، فالمدارس النسوية بتعدد أفكارها وإيديولوجياتها تسعى لإعطاء وجها جديدا للمرأة في إطار التغيير السياسي والاجتماعي والثقافي، وتحديد العلاقات بين الجنسين، وصولا إلى المساواة المطلقة كهدف استراتيجي، وقد انقسمت المدارس النسوية في خطاباتها بين خطاب معتدل وسطي وخطاب متشدد متطرف وتولد عن هذين الخطابين العداء والصراع بين الجنسين.

لقد مرت المدرسة النسوية بعدة مراحل وموجات من أجل تمكين المرأة في المجالات المختلفة: السياسية والاجتماعية والاقتصادية، معتمدة في ذلك على عدد من المفاهيم الرئيسية خلال مراحلها المختلفة من أجل تفسير الواقع السياسي، فنجد من هذه المفاهيم كلمة "الجندر" (Gender) الذي ظهر مع كتابات سيمون دو بوفوار، وهو يعني النوع الإجتماعي الذي يمكن القول أنه أصبح المفهوم المركزي للحركة النسوية كلها، وقد واجهت المدرسة النسوية بكافة مراحلها موجة انتقادية وهجومات واتهامات كذلك، بحجة أن هذه المدرسة تأسست لضرب الأسرة وتدميرها كمؤسسة أولى في التنشئة الإجتماعية، خاصة ما تعلق بـ: "الجندر" نظرا لكون هذا المفهوم يخرج عن الإطار المجتمعي والثقافي، كما يتعارض بشكل صريح مع الأطر الدينية التي تتبناها المجتمعات العربية والإسلامية.

في معرض رده على سؤال الدكتور محمود محمد علي حول الأطر الثلاثة للنسوية: (النظرة النسوية الإصلاحية، النظرة النسوية المقاومة والنظرة النسوية المتمردة) حيث تسعى الأولى إلى تحسين ظروف المرأة والارتقاء بأوضاعها الإجتماعية، والثانية تركز على العنف والقهر الجنسي الموجه ضد المرأة، يقول الأستاذ ماجد الغرباوي: (إن قضايا المرأة متشعبة ومركبة، وتسويتها تقتضي تفكيك أنساقها، والبحث عن جذر القهر والاضطهاد)[22]، ويرى أن هدف النظرية الإصلاحية إصلاح أحوال المرأة المعيشية والإقتصادية فيكون الإستغلال وجهتها (وهذا النوع من التشخيص لا يمس جذر المشكلة، ويعالج قضايا فوقية، رغم الأهمية الاقتصادية)[23]، دون التعمق في القضايا الجوهرية العميقة التي تواجهها، وهنا يتساءل الغرباوي إن كانت المشاكل الإقتصادية بديل عن الوعي ودوره في تعزيز القيم الإنسانية. الملاحظة التي سجلها ماجد الغرباوي ان مشكلة المرأة هي ثقافية عامة يشترك فيها الفرد والمجتمع، فلا هي مشكلة أنثوية ولا هي ذكورية، فماجد الغرباوي تناول بالنقد والمراجعة المدارس النسوية، وبيّن موقفه منها، كالمدرسة النسوية الاصلاحية، الاشتراكية، الماركسية، الراديكالية والراديكالية المتطرفة، كما قارب مسألة النسوية العربية أو كما سمّاها العرْبُ إسلامية، وبيّن خصائص البيئة والثقافة، وضرورة أخذهما بعين الاعتبار حين عالج قضايا المرأة، وهناك تفصيلات كثيرة يمكن مراجعتها ضمن صفحات الكتاب.

ويوضح الغرباوي كيف كان ينظر الرجل للمرأة في القرون التي خلت، بحيث كان ينظر إليها نظرة مقدسة بل يضعها في مرتبة الآلهة، بخلاف اليوم أسقطت منها صفة القدسية وأصبح ينظر إليها نظرة دونية، ويرجع الغرباوي هذه الأحكام إلى الفارق البيولوجي أو الجنسي للمرأة والرجل، أما موقفه من "الجندر" عندما تحدث عن أساسيات الجغرافية النسوية وقال أن دراسة الجندر ومظهر الأرض أو كما يسمى بـ: "اللاندسكيب" وتقصي أثر النوع والخلفية الثقافية والإجتماعية للإنسان في تشكيل هذا المفهوم، إلا أنه يوضح أكثر، أن مهمة الجندر نقد وتحليل النظرية التي تعتقد أن الفوارق الإجتماعية بينهما تم تزويرها لتعزيز السلطة الأبوية، وخلق قناعة لدى المرأة بأن مهمتها محصورة بالأمومة والمنزل[24].

ودعا الغرباوي إلى إعادة تشكيل الوعي من خلال تفكيك الأنساق الثقافية والمهيمن الفكري، وتشكيله على أسس إنسانية[25]، حيث ينظر للمرأة نظرة إنسانية عادلة، وذلك عندما تحدث عن الوظيفة البيولوجية للمرأة، إذ يرى أن هذه الوظيفة كانت وراء تصنيفها، فهي بالنسبة للرجل جسد، مرتهنة لقوته وإرادته جنسيا. يقول: (لا يخفى أن الوظيفة البيولوجية للمرأة كانت وراء تصنيفها. فهي بالنسبة للرجل جسد وطبيعة بيولوجية مغايرة)[26].

من هذا المنطلق يبدو أن المفكر التنويري ماجد الغرباوي يؤيد الثورة النسوية المتوازنة ودورها في بناء الوعي في رده على الراديكالية المتطرفة التي تبيح الإجهاض وإقامة العلاقات الجنسية الغير شرعية، وحق المرأة في ممارسة السحاق، وما شابه ذلك وهو بذلك يتحيز إلى ثورة فكرية ثقافية يكون التنافس الفكري فيها مسموحا ومشروعا، أي دون هيمنة فكرية أو تعصب فكري وبعيدا عن ثقافة "الندّية"، وكان الأستاذ ماجد الغرباوي قد ناقش مثل هذه القضايا في كتابه: " المرأة والقرآن" وأعطاها أبعادها الفكرية والإجتماعية والدينية، لاسيما قضية حجاب المرأة، وعاد به إلى زمن الرسالة المحمدية، حيث ربطه بالحياء والاحتشام، ونقف هنا مع موقف الغرباوي عندما قال: "هناك من ترتدي الحجاب عن قناعة باعتباره شعيرة دينية، وهناك حجاب تفرضه العادات والتقاليد، وثمّة حجاب يخفي تمردا أنثويا"[27]، وممّا تقدم، يطالب الغرباوي بإعادة قراءة حكم الحجاب في الشريعة ودعوات خلعه وحالات التمرد عليه من باب نظرية العبودية.

قراءات للفكر الغرباوي

ما وقفنا عليه من أعمال الغرباوي يعتبر شيئا قليلا، لأن نصوصه تحتاج إلى قراءات وتحليل، كانت هناك قراءات أجرها كثير من المفكرين، فقد حظي فكر ماجد الغرباوي باهتمام كثير من الباحثين الأكاديميين والمختصين في الفلسفة ومنهم الدكتور محمود محمد علي، الذي قدّم لمشروع الغرباوي قراءات فلسفية متعددة، عرض فيها أفكاره وموقفه من القضايا المطروحة لاسيما التي تلقى جدلا بين الباحثين والمفكرين. خصوصا في كتاب الفلسفة النسوية.

كذلك نقف مع القراءة التي أجراها الدكتور قادة جليد أستاذ الفلسفة بجامعة وهران غرب الجزائر، حيث اعتبر الغرباوي ظاهرة فكرية وثقافية في العالم العربي الإسلامي لأنه مثقف نقدي يبحث في المعنى وعن فهم جديد للقضايا الفكرية التراثية والإنسانية، ومثقف عضوي لأنه منخرط في عملية التغيير الإجتماعي وهذا ما يجعله مختلفا عن المفكرين الآخرين، خاصة في مسألة التراث، فالغرباوي يعتقد أن الفهم الذي نعنيه اليوم بالتراث غير مطابق لحقيقة التراث وبالتالي هذا الفهم الخاطئ وتقديسه هو عائق أمام التطور، فهو يرى أن الغرباوي شخصية علمية عصامية، ملتزم بما يؤمن به وملتزم بقضايا المجتمع وطموحه إلى التغيير دفعه لذلك، والالتزام عند المثقف العربي هو أن يكون مثقفا عضويا بلغة غرامشي، بمعنى يكون منخرطا في القضايا العامة التي تواجه المجتمع كتحديات، وهذا ما يقوم به ماجد الغرباوي، خاصة من مؤسسته " المثقف" من أجل التنوير والتغيير، ومن هنا جاء التفلسف أو التفكير بالمطرقة، فقليل جدا من المفكرين والكتاب يقول قادة جليد من يكون مستعدا لدفع الثمن، ولكن أغلبهم يطرحون الأسئلة الفاخرة، أما المثقف الحقيقي والصادق يطرح اسئلة الناقوس والغرباوي من الذين يطرحون أسئلة الناقوس أي أسئلة الخطر ويجيب عليها وأسئلة الناقوس لها ثمن[28].

أمّا الدكتور صالح الزروق في مشروع الغرباوي أن هذا الأخير في حديثه عن الإصلاح والإحياء الديني كان أكثر وعيا بالسياسة عند أئمة الشيعة الإصلاحيين ومنهم باقر الصدر وروح الله الخميني وأفرد لهما مساحة خاصة للتدليل على أن الإصلاح هو نهضوي فعلا[29]، له غاية تتلخص في إحياء الدولة الإسلامية، ولذلك لا يختلف الإصلاح عن التجديد في مفهوم الغرباوي حيث يدعو إلى فتح باب الاجتهاد حتى في الثوابت، ومن هنا تنعكس فلسفة الإصلاح عند الغرباوي عن باقي المصلحين أو الإصلاحيين إن صح التعبير، حيث يجعل التسامح في مقدمة أطروحاته، من باب ان التسامح أمر الهي وعقيدة وطنية، إلا أنه يرى ان الحرية شرط أساسي للتسامح فهي ضمان من التخلص من الأبوية، فهو يرى الحرية مطلب ديني وحاجة غريزية، خلاصة القول يلاحظ أن ماجد الغرباوي التنويري يسير على نهج الكثير من التنويريين، إذ يطل على منطقة الفكر على أساس أنها ساحة معرفية مشتركة تقع على خطوط التماس مع الدّين والفلسفة والسياسة لإرواء عطشه الفلسفي[30].

***

قراءة علجية عيش

.............................

[1] - الغرباي، ماجد، إشكاليات التجديد، مؤسسة المثقف، سيدني – استراليا، والعارف للمطبوعات، بيروت – لبنان، 2017م.

[2] - الغرباوي، ماجد، التسامح ومنابع اللاتسامح.. فرص التعايش بين الأديان والثقافات، الحضارية، بغداد – العراق، والعارف للمطبوعات، بيروت – لبنان، 2008.

[3] - اشكاليات التجديد، مصدر سابق، ص 11.

[4] - علي سامي النشار: نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، دار المعارف، الطبعة السابعة، 1977م، ج1، ص395.

[5] - اشكاليات التجديد، مصدر سابق، ص 23.

[6] - المصدر نفسه، ص 24.

[7] - المصدر نفسه، ص 24.

[8] - المصدر نفسه، ص 47.

[9] - المصدر نفسه، ص 54.

[10] - الغرباوي، ماجد، تحديات العنف، الحضارية، بغداد – العراق، والعارف للمطبوعات، بيروت – لبنان، 2009، ص 95.

[11] - المصدر نفسه.

[12] - المصدر نفسه، ص 96.

[13] - المصدر نفسه، ص 32.

[14] - المصدر نفسه، ص 20.

[15] - المصدر نفسه، ص 21.

[16] - الرزوق، د. صالح، جدلية العنف والتسامح.. قراءة في المشروع الإصلاحي لماجد الغرباوي، دار نينوى، دمشق – سوريا، 2016م، ص 42

[17] - المصدر نفسه، ص 46.

[18] - المصدر نفسه، ص 25.

[19] - المصدر نفسه، ص 30.

[20] - اشكاليات التجديد، مصدر سابق، ص 30.

[21] - محمد علي، د. محمود، الفلسفة النسوية في مشروع ماجد الغرباوي التنويري، مؤسسة المثقف، سيدني – استراليا، ودار الوفاء، الاسكندرية – مصر، 2021م.

[22] - المصدر نفسه، ص 157.

[23] - المصدر نفسه.

[24] - المصدر نفسه، ص 142.

[25] - المصدر نفسه، ص 159.

[26] - المصدر نفسه، ص 136.

[27] - المصدر نفسه، ص 217.

[28] المنجز الفكري لماجد الغرباوي ضمن ندوة: الفكر العربي المعاصر والتفلسف بالمطرقة في الجزائر، تقرير علجية عيش، أنظر، صحيفة المثقف 12 كانون2/ يناير 2023.

[29] - جدلية العنف والتسامح، مصدر سابق، ص 37.

[30] - المصدر نفسه.

.....................

* مشاركة (39) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10