بأقلامهم (حول منجزه)

عبد الإله الياسري: مع ماجد الغرباوي

أُحيّي الباحث المفكّر (ماجد الغرباوي) مباركاً له بلوغه السبعين من العمر، ومعتذراً لإبطائي عليه بتلبية دعوته الكريمة، لظروف خاصة حالت بيني وبين الإجابة إلى سؤاله في وقته. ومهما يكن فإني أشهد أنه مفكّر نقديّ عقلانيّ إصلاحيّ ذو موقف ثقافيّ حر ومستقل وشجاع. يذكّرني تاريخياً بمواقف أصيلة قديمة لمفكّرين نقديين مثل الجاحظ والتوحيدي وابن خلدون، ولفلاسفة عقلانيين مثل الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد. ويذكرني كذلك بمواقف معاصرة حديثة لباحثين ومفكّرين إصلاحيين مثل محمد عبده ورشيد رضا وهادي العلوي وغيرهم من الباحثين والمفكرين الإصلاحيين في عصرنـا الحاضـر. ولئن تشـابه معهـم في منحى النقـد العقلي والإصـلاح المعرفيّ؛ فإنَّ له رؤيته الخاصة التي تميـّزه ثقافيّـاً عن أولئـك وهؤلاء كليهما. وأشهد أنّه مثقف تنويـريّ في بيئة عربيّة ــ إسـلاميّة قد اشـتد ظلامها على المثقفين النقديين والعقلانيين بدءاً من القرن الخامس للهجرة(الحادي عشر للميلاد) حتى يومنا هذا؛ بعد أن بلغت مصابيحها النقدية العقلية أقصى شعاعها، في القرن الرابع للهجرة (العاشر للميلاد)، من حيث طرح القضايا الإشكاليّة التي كان يتداولها المثقفون النقديون والعقلانيون تداولاً صريحاً بحثاً عن الحقيقة دون أي شعور بحرج أو خشية من ردود أفعال المؤسسة الدينية التي تخصّص نموذجها الفقهي التقليدي، بعد القرن الرابع للهجرة، بقمع حرية البحث النقدي العقلي، وبقصر المعرفة على التفسير اللغوي للنصوص الدينية دون أي نزعة نقدية عقلية لتحليلها، ودون أي نظر إلى الواقع العربيّ -الإسـلاميّ، لحل مشـاكـل الإنســان فيــه؛ على الرغم من أنّ الدين هو للإنسان وليس الإنسان هو للدين. ومهما يكن من شيء، فقد ساد ذلك النموذج الفقهي التقليدي منذ ذاك العهد حتى اليوم، وانتصر جموده على النقد العقلي الخلاق، وأدخلنا في خندق مسـدود مقابـل الإنفتاح الثقافي الأوربي الذي شرع بالرقي والإزدهار الحضاريّ منذ القرن السادس عشر للميلاد. ولا تفسيرعندي لاستمرارنا في هذا الخندق المغلق إلا لوجود سلطات رسمية وغير رسمية قد ضيّقته وأحكمت إغلاقه. وأخطرهنَّ السلطة الدينية التقليدية والسلطة السياسية الإستبدادية. وفي مثل هذه الحال تصبح مهمة المثقف النقديّ الفاعل هي أن يعرّي حقيقة هاتين السلطتين القمعيتين، وأن يواجههما نقديّاً بكل شجاعة ودون أيّ تردد لتحرير الدين من الأولى، وتحرير الإنسان من الثانية. ولتكن ما تكون عقبى تلك المواجهة النقدية في سبيل كشف الحقيقة وتغيير الواقع.

ولقد كان الباحث المفكر (ماجد الغرباوي) مثقفاً نقديّاً فاعلاً، بإزاء تعرية تينك السلطتين المذكورتين. وتتجلّي فاعليته الثقافية في هذا الشأن، من خلال دراســاتـه للتـراث العربيّ ــ الإسـلامي، ومنشـوراته و محاضراته، ولاسيّما تأسيسه لـ "مؤسسة المثقف العربيّ" في مدينة سدني في إستراليا، وإصدار "صحيفة المثقف" المهمة المفيدة، والحرّة تماماً من المذهبية المهيمنة على معظم الصحف العربية. تلك ألمذهبية المقيتة التي لاترى وجوداً للمثقف الآخر المختلف إلا إذا كان امتداداً لإجاباتها الجاهزة؛ ولا حقّاً له بالكلام إلا إذا كان يتكلّم ضمن إطارها مؤكّداً الإئتلاف لا الإختلاف والتماثل لا التباين. أي أن يسير باتجاهها أو لايسير إطلاقاً. إنه الإرهاب بعينه، ولكن بصبغة ثقافية قد تكون ذات لون دينيّ أوقوميّ أو لون آخر. إنّ صحيفة المثقف باختلافها النوعي قد تخطّت تلك المفاهيم الثقافية السائدة التي تؤكد العجز لا الإبداع، وتعلّم الإتباع لا الإستقلال، وأتاحت للمثقف حرية ثقافية كاملة لكي يبحث ويعبر ويتساءل ويتجاوز حرّاً دون أيّ قيد إيديولوجيّ، . وهذه الحرية الثقافية المنوّه بها في "صحيفة المثقف" قد تمّت بفضل صاحبها (ماجد الغرباوي) الذي سيبقى نظره وممارسته منارين ثقافيّين خالدين رغم الفناء.

 ***

عبدالإله الياسري

في ١٧/شباط/٢٠٢٤م

أتاوا ــ كندا.

..........................

* مشاركة (11) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10