بأقلامهم (حول منجزه)

حاتم حميد محسن: المقدس ورهان الأخلاق.. قراءة في كتاب جديد

يبحث هذا الكتاب(1) العلاقة بين الدين والأخلاق في اطار الدين بشكل عام وفي الاسلام بشكل خاص، حيث برزت فكرة الكتاب بعد إثارة سؤال حول اسباب فشل الدين في تهذيب وضبط سلوك المسلمين، خاصة في ظل الانهيار الحالي في القيم الاخلاقية والدينية، وشيوع انماط سلوكية غير سوية من العنف والقمع والارهاب والتسلط واتساع مظاهر الفساد وهدر الثروات وإلغاء الآخر.

يتألف الكتاب من تسعة فصول:

الفصل الاول: العقل الأخلاقي

الفصل الثاني: الضمير والأخلاق

الفصل الثالث: معالم التجربة الدينية

الفصل الرابع: أنسنة المقدس

الفصل الخامس: قداسة النص الديني

الفصل السادس: رهانات الدين

الفصل السابع: معيار الحكم الاخلاقي

الفصل الثامن: صدقية القيم القرآنية

الفصل التاسع: السلوك المقدس

سنحاول التطرق الى المسألة الاخلاقية في الاطار العام وليس في نطاقها الاسلامي، لأن الشق الاكبر من البحث (الاخلاق الاسلامية) والذي ألمّ به الكاتب بفعل تخصصه، حفل بالكثير من الآيات القرآنية والنصوص الفقهية التي تحتاج الى دراية وفهم في الفقه وعلم الاصول. لذا سنحاول التركيز على المسائل ذات الطابع الفكري والفلسفي ونتجنب تلك الموضوعات ذات الصبغة الفقهية.

في الفصل الاول من الكتاب يطرح المؤلف سؤال الاخلاق، حيث هناك إشكالية قديمة في علاقة الدين بالاخلاق طرحها معظم الفلاسفة وهي: هل ان الاخلاق مستقلة عن الدين ام تابعة له؟ وقد تناول علم الكلام هذه الإشكالية تحت عنوان: هل الحسن والقبح عقليان ام شرعيان؟ ناقشها المعتزلة والاشاعرة في أحاديثهم حيث اعتبر المعتزلة ان العقل يحكم بمعزل عن المجتمع وعاداته بحسن العدل وقبح الظلم سواء صرح بذلك ام لم يصرح. أحكام العقل هنا هي أحكام معيارية تستمد شرعيتها من العقل العملي الذي يرتكز على مبادئ انسانية كونية يُحتكم اليها عند الاختلاف.

أما في نظرية الأوامر الآلهية يكون الصواب الأخلاقي هو الذي أمر به الله وان الخطأ الاخلاقي هو الذي نهى عنه . فمثلا في سفر الخروج 20:16 ان الله أمرنا ان نكون صادقين. هنا السبب في ان نكون صادقين هو ببساطة لأن الله اراد ذلك. بعيدا عن الامر الالهي، يكون قول الحقيقة لا هو جيد ولا هو سيء، أوامر الله هي التي تجعل الصدق صوابا. لكن هذا سيجعل اوامر الله تبدو عشوائية، بنفس السهولة هو بامكانه ان يأمرنا بالكذب وعندئذ سيكون الكذب هو الصواب وليس الصدق (قد يقول البعض ان الله لا يمكن ان يأمرنا بالكذب، لكن لماذا لا؟ اذا هو أجاز الكذب فهو سوف لن يأمرنا ان نفعل الخطأ لأن اوامره ستجعل الفعل صحيحا). هذه النظرية تحل مباشرة المشكلة القديمة المتعلقة بموضوعية الاخلاق. بالطبع الملحدون لن يقبلوا بهذه النظرية لأنهم لا يؤمنون بوجود الله، لكن هناك صعوبات في قبولها حتى عند المؤمنين بالله. المشكلة الرئيسية أول ما لاحظها افلاطون الفيلسوف اليوناني الذي عاش قبل المسيح بـ 400 سنة. كتابات افلاطون كانت على شكل حوار بين سقراط وأحد محاوريه. في حوار (ايوثيفرو) هناك نقاش يتعلق بالصواب وهل ان الله هو من يأمر به. سقراط يشك في هذا ويسأل: هل السلوك الصحيح هو بسبب ان الله يأمر به، ام ان الله يأمر به لأنه صحيح؟هذا السؤال كان من الأسئلة الشهيرة في تاريخ الفلسفة. اذا كان الله يأمرنا للقيام بما هو صحيح. عندئذ نحن أمام خيارين: اما ان نتبع الخيارالاول وهو ان الفعل صحيح لأن الله يأمرنا به، او نتبع الخيارالثاني ان الله يأمرنا بذلك الفعل لأنه صحيح.

لو أخذنا الخيارالاول، فان اوامر الله، من الزاوية الاخلاقية، ستكون عشوائية، وان الاعتقاد بخيرية الله سيصبح بلا معنى. اما لو اخذنا بالخيارالثاني عندئذ سوف نعترف بوجود معيار للصح والخطأ مستقل عن رغبة الله، وبالنتيجة سوف نتخلى عن التصور الديني للصح والخطأ.

لذلك، نحن يجب اما ان نعتبر اوامر الله عشوائية ونتخلى عن الاعتقاد بخيرية الله، او نعترف بان هناك معيار للصح والخطأ مستقل عن رغبة الله، ونتخلى عن التصور الثيولوجي للصحيح والخطأ.

من وجهة النظر الدينية، من غير المقبول اعتبار اوامر الله عشوائية او التخلي عن الاعتقاد بخيرية الله.

لذلك، حتى من وجهة النظر الدينية، لابد من قبول معيار للصح والخطأ مستقل عن رغبة الله وهو ما ينسجم مع فكرة الحُسن والقبح العقليين للمعتزلة .

في الحقيقة، ان كبار الثيولوجيين مثل القس توما الاكويني (1225-1274) رفض نظرية الأوامر الالهية لهذه الاسباب، وبدلا من ذلك ربط الأخلاق بنظرية اخرى مختلفة وهي نظرية القانون الطبيعي.

يرى مؤلف الكتاب ان اولئك الذين يؤمنون بالحسن والقبح العقليين لا يمكنهم ارتكاب او القبول بسلوكيات خاطئة، بينما اولئك الذين اعتمدوا الشرع برّروا وقبلوا بتلك السلوكيات حين لجأوا الى تأويل النصوص وارتهنوا فهم النص لقبليات وثقافة الفقيه او المجتهد. فكان هذا احد اسباب مظاهر الفساد في صفوف المسلمين، حينما برّرت فتوى الفقيه استباحة المال العام او التعدي على الاخرين دينيا او طائفيا. الفريق الاول يعاني من تأنيب الضمير بينما لا يشعر الثاني بذلك طالما هو مبرر دينيا. وهذا حسب الكاتب يدعو الى المراجعة والنقد لمعرفة حقائق الامور، ومدى صدقية ان الدين مصدر الاخلاق، فيصل الى نتيجة ان "ان الحسن والقبح عقليان لا شرعيان وان المقدس لا يحول دون الرجوع للعقل لمعرفة حقيقة السلوك البشري مهما كان مصدره"2.

ومما تقدم يصل الكاتب الى استنتاج وهو "ان العقل يتصف بالحسن والقبح في ذاته بغض النظر عن الامر والنهي الإلهين. وبما ان الاخلاق تصدر عن حكم عقلي كوني فهي اخلاق كونية ومشترك انساني، فتكون حيادية، صادقة يصعب استغلالها او توظيفها الاّ بتزوير الوعي والالتفاف على قيم الفضيلة. فالعقل كما يراه مرجعية نهائية للحكم الاخلاقي، عقل يلغي الفواصل بين بني البشر دون انحياز عنصري او ديني او طائفي"3.

ان القول بالحسن والقبح الشرعيين يُفقد الفعل صفته الأخلاقية ويكون مرتهنا لحكم الشريعة التي هي ليست فقط القرآن وانما سنة النبي وسنة الصحابة والائمة الاثنى عشر وفتاوي الفقهاء وهنا تعطلت فريضة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، حين كرس فقهاء السلاطين أنفسهم لتبرير سلوكيات الظالمين وبهذا لم يعد هناك معنى لمحاسبتهم وفق أي مبدأ اخلاقي.

رهان الدين:

 يؤكد الكاتب ان استقلال الاخلاق عن الدين بمعنى التشريع، لا يمنع وجود دور أخلاقي للدين. الفعل الاخلاقي حسب رأيه، هو فعل سلوكي يواجه باستمرار تحديات تختبر صموده، وقد يخفق الضمير تجاهها فيأتي دور الايمان ليعزز دوره الرقابي ويحول دون تراخيه ونكوصه. ان مجال عمل الدين هو ديمومة يقظة الضمير الذي يخضع له الفعل الاخلاقي، والضمير هو مشترك انساني يستهدي به الفعل الاخلاقي في إخلاصه ونقائه الانساني4.

ويضيف الكاتب بانه ليس من دعاة إقصاء الدين. للدين دور مؤثر جدا حينما نحسن توظيفه، خاصة في المجتمعات التي تحتضن الاديان، المسكونة بالغيب. علينا استثمار المشاعر الدينية وإعادة تشكيل الوعي الديني بما يخدم القيم الاخلاقية والانسانية باعتباره احد وسائل ضبط سلوك الافراد والمجتمعات. هذه المشاعر عميقة ومتجذرة وملازمة لوجود الانسان5.

علاقة المقدس بالاخلاق

هناك سؤال يبرز الى السطح وهو هل تتأثر الاخلاق بوجود المقدس او عدمه؟ يشير الباحث الى ان العقل لا يخضع في قيمه وأحكامه للمقدس. الاخلاق تحتفظ باستقلاليتها. فكما ان العقل يحكم بحسن العدل وقبح الظلم بعيدا عن الشريعة، كذلك تكون أحكامه بعيدة عن المقدس، وبذلك يصح استقلال الاخلاق عن الشريعة والمقدس معا.

وكلمة مقدس sacred تشير الى التبجيل او الرهبة، وهي تأتي من الكلمة اللاتينية sacer. الشخص او المكان قد يُشار اليه بالمقدس باعتباره متفرد بشكل استثنائي لما له من قوة اسطورية. في كتابه (المقدس والمدنس) يشير مؤرخ الأديان الروماني ميرتشا اليادة Mircea Eliade(1907-1986) الى ان المقدس دائما يجسد نفسه كحقيقة مختلفة عن الحقائق العادية. نحن نصبح واعين بالمقدس عندما يُظهر نفسه كشيء مختلف عن المدنس. الافتراض هو ان هناك إله او قوة روحية عليا تجسد نفسها للناظر الذي يشعر بالتميّز نتيجة لذلك. وبهذا فان المقدس يجسد نفسه فقط في سياق ايمان الناظر او جماعته، وبعبارة اخرى ان الناظر هو من يخلق المقدس ويستثمره في الأشياء التي حوله.

يؤكد الغرباوي في كل فصول كتابه على الفجوة التاريخية التي يحملها العقل التراثي بنيويا، هذا العقل يشوّه الحقائق، ويتبنّى ما يوافق عقائده بعيدا عن الدليل العقلي والفلسفي رغم ان الواجب يقتضي الركون للدليل وقدرته على تحدي الإشكالات ودراسة جميع الأدلة والبراهين والقرائن المتاحة والاجابة على جميع الاسئلة والاستفهامات وتحليل الواقع بجميع عناصره، ومن هنا جاءت الأجوبة في هذه السلسلة الحوارية من متاهات الحقيقة تقارع قلاع الكهنوت وتحطم أسيجة تراثية تستغرق الذاكرة وتطرح اسئلة استفزازية جريئة بحثا عن أسباب التخلف وشروط النهضة ودور الدين والانسان في الحياة، فتوغلت عميقا في بنية الوعي واستدعت المهمش والمستبعد من النصوص والروايات.

هذا ما يؤكده ويتفق عليه ايضا المفكر المغربي محمد عابد الجابري في قوله: "ان علّة عجز التراث العربي الاسلامي عن القيام بدوره كآلية دافعة للنهوض والتجديد ترجع الى بنائه وبنيته، من بين شروط النهضة هو تمرّد العقل الحرعلى تلك التفسيرات والتأويلات السلفية للآيات القرانية، هناك ايضا مشكلة قراءة المتون واستيعابها ومعنى النص ودلالته ومقاصده التي أنتجها العقل الديني التقليدي. ان العقل العربي قد تكوّن أساسا من خلال التعامل مع النص، ونحن لا نطعن في هذا لأنه معطى تاريخي لا معنى للطعن فيه ولكن المشكلة هي في الطريق الذي سلكه الأقدمون في فهم النصوص القائم على ما أسموه "الاستنباط". لقد تعاملوا مع الالفاظ كمنجم للمعاني وأخذوا يطلبون منها ما يريدون، أي ما يستجيب لآراء ونظريات جاهزة هي آراء المذهب سياسيا كان او فلسفيا. هنا تُنتزع اللفظة من سياقها لتتضمن معنى جاهزا. "مع سلطة السلف يفقد العقل سلطته كفعالية قائمة على ربط المسببات بأسبابها، هذا العقل لا يعرف اللزوم المنطقي ولا يصدر عن مبدأ السببية. وهكذا فان الفقيه الذي تشكّل عقله داخل الثقافة العربية يخضع في تفكيره لسلطة اللفظ والسلف والقياس وسلطة التجويز".

سبق ان صدرت للغرباوي عدة كتب ركزت على تجديد الفكر الديني ومن أهم اعماله: إشكاليات التجديد، التسامح ومنابع اللاتسامح، قراءة نقدية في تجليات الوعي، الحركات الاسلامية، استفهامات حول جدوى المشروع السياسي الديني، تحديات العنف. ومتاهات الحقيقة بتسعة كتب.

تجدر الاشارة الى ان الباحث الغرباوي أحد الشخصيات الفكرية البارزة في المحيط الثقافي الحالي سعى جاهدا للتوفيق بين المنهجية الغربية والتراث الاسلامي في التصدي للقضايا الفكرية، وهو ما كشف له عن الكثير من الافكار المهملة في الفكر الاسلامي وفي علاقة الاسلام بالآخر. مشروع الغرباوي التنويري لا يقل أهمية عن المشاريع التي برزت في الساحة العربية او الاسلامية، يسعى دائما الى تحرير العقل وإخراجه من بنيته الاسطورية وإعادة فهم الدين وفق دور الانسان المحوري في الحياة والتخلص من سطوة التراث وأغلال العقل التقليدي.

***

حاتم حميد محسن

............................

الهوامش

(1) كتاب (المقدس ورهان الاخلاق) للباحث والمفكر التنويري ماجد الغرباوي، صدر عن مؤسسة المثقف في سيدني، ودار أمل الجديدة في دمشق عام 2022 في 385 صفحة، وهو الكتاب الثامن في سلسلة "متاهات الحقيقة".

(2) المصدر نفسه، ص 15.

(3) المصدر نفسه، ص 23.

(4) المصدر نفسه، 48.

(5) المصدر نفسه، 58.