بأقلامهم (حول منجزه)

طاهر أبو آلاء: ماجد الغرباوي.. المفكر العصامي

استطاع الاخ العزيز والصديق الوفي ماجد الغرباوي أن يوجد لنفسه موطيء قدم في ساحة الثقافة والفكر العراقية والعربية. ومن خلال قراءتي لبعض ما أنجز في سياق مشروعه التنويري، ومتابعة ما كتب عنه وعن منجزه في الساحة العربية الثقافية والفكرية أستطيع القول أنه من أولائك القلائل الذين مزقوا الشرنقة التي عجز الكثيرون من التخلص من خيوطها التي كبلت العقول من الانطلاق في آفاق التفكير الحر بعيدا عن القول «إنا وجدنا آباءنا على ....».

لا أعتقد أن أحدا منصفا يجادل في أن هذا الرجل المغترب عن أهله ووطنه كان عصامياً بكل ما للكلمة من معنى ودلالة، ولعل الالتفات إلى البيئة المتواضعة التي نشأ فيها وانطلق منها، والظروف غير المستقرة التي عاشها معاناةً في كل مراحلها وتقلباتها تؤكد بكل وضوح ما ندعيه لهذا المثقف المثابر من إصرار وعزم على بلوغ ما يصبو إليه من إيصال ما يعتقده من آراء ومتبنيات، بغض النظر عن كوننا نتفق معه في بعض ما يطرح أو لا نتفق.

لا أريد في هذه الكلمة القصيرة أن أقوّم مشروع الغرباوي، ولا أن أشير إلى نقاط قوته وضعفه بحسب رأيي المتواضع جداً، لأنني وجدت عددا لا بأس به من ذوي الاختصاص والرأي قد فعلوا ذلك، والسعيد من اكتفى بغيره كما يقال، ولذلك سوف أقتصر على إيجاز ما يتعلق بالأخ والزميل ماجد الغرباوي في الأيام التي كنا فيها زميلين في مدرسة علمية واحدة، وفي صف دراسي واحد يوم عصفت بنا أيام الهجرة والغربة لتلقي بنا في طرق ومواقع ليس لنا في اختيارها أو اختيار بعض تفاصيلها وجزئياتها إلا هامش ضيق من الحرية.

وبعيداً عن المقدمات وجدت نفسي ذات يوم في مدرسة دينية في مدينة تعد من المدن العلمية المعروفة باعتبارها حاضنة لأحدى الحوزات العلمية الدينية، وذلك في السنوات الأولى من عقد ثمانينات القرن الماضي، ومن الطبيعي في وسط علمي كهذا يكون المرء فيه أشد انتباهاً لما حوله فيما يتعلق بمحيطه العلمي والدراسي، على صعيد المواد الدراسية، والأساتذة المعتمدين، وكذلك الطلبة وزملاء الدراسة من عدة نواح وزوايا.

وقد لفت نظري ـ وبشدة ـ أحد الطلبة الذين تجمعوا في هذه المدرسة المتواضعة من محافظات عراقية عديدية، ولكنهم أمة واحدة من حيث الإيمان والأهداف والمتبنيات على الرغم من تباين وجهات نظرهم في ما اختار كل واحد منهم من أساليب العمل لأداء ما يراه واجبا مناطا به في تلك الحقبة الزمنية المليئة بالأزمات، وعنفوان الشباب المتفجر.

وبلا مجاملة ولا مواربة أستطيع القول أن صاحبنا آتاه الله بسطة في الجسم والعلم، كان «أبو صادق» الذي لا نعرف عنه إلا كنيته ـ في تلك الحقبة التي كانت فيها الأسماء الصريحة من أشد المحرمات ـ شابا جميلاً يتميز عن الجميع تقريباً بقامته وبياض وجهه المشرب بالحمرة وشعره المائل إلى الشقرة، ولا أتذكر الآن إن كان لقب الغرباوي شائعاً يوم ذاك أم كان الاقتصار على الكنية وحسب.

وأنا على يقين أن العقود الأربعة التي تصرمت لتكون فاصلاً بين ذلك التاريخ ويومنا هذا أنستني الكثير من التفاصيل والانطباعات التي كانت حاضرة يوم كنت ألتقي «أبا صادق» في أروقة المدرسة ومحيطها، وبين جدران صفوفها، ولكن ما أستطيع أن أجزم به الآن يتمثل في امرين أعتبرهما من أهم ما استقر في ذاكرتي فيما يخص الأخ العزيز ماجد الغرباوي.

الأول أنه كان من الطلبة المتفوقين في جميع مراحل الدراسة، وفي كافة مواد المنهج ومقرراته، ولعلي غير مبالغ إذا قلت أنني كنت أعده ممن أخشاه في حلبة التنافس العلمي حينما تعلن نتائج الامتحانات الفصلية والنهاية، لما يتمتع به من ذكاء، وجدية ومثابرة، ولست بحاجة إلى أن أستحضر ما يدل على ذلك، فمؤلفات الغرباوي وآراؤه دليل واضح وجلي على استيعابه وقوة إدراكه وإحاطته العلمية والثقافية.

الأمر الآخر الذي يعد من مميزات هذا الرجل وبشكل واضح كل الوضوح في ذاكرتي هو ما كان عليه من جدية وثقة بالنفس واعتزاز بآرائه ومتبنياته منذ أيام شبابه، وقد تجلى ذلك بأنصع صوره فيما كان يدور في أوساط الطلبة والمحيط خارج هذا الإطار من نقاشات ومداولات تتسع لأكثر من جانب على الصعيد العلمي والاجتماعي وحتى السياسي في تلك الحقبة الملتهبة بسني الحرب وأيام الأزمات.

لا شك أن البرهة الزمنية التي لا تتجاوز العامين أو الثلاثة التي زاملت فيها أخي ماجد الغرباوي لا تكفي لمعرفة جميع جوانب حياته المليئة بالعطاء والانجازات والمواقف، ولكن ما لا يرقى إليه الشك هو أن الرجل بنى مجده بيديه، ولم يتكئ إلا على إصراره وعزمه وجده وحزمه، وشعورية بالمسؤولية الملقاة على عاتق أصحاب الوعي والعلم والثقافة في وضع العلامات المضيئة لعلها تكشف جانباً من طريق الحياة الذي تسيطر العتمة على أكثر زواياه ومنعطفاته.

وإذا أردنا أن نختار سمة مناسبة لنعت هذا الرجل الجدير بالتقدير والاحترام لا نتجاوز مفهوم «العصامية» التي قيل فيها:

نفسُ عصامٍ سودت عصاما

وعلمته الكرَّ والإقداما

وصيرته فارساً هماما

عذرا أبا صادق فليس هذا القليل يفي بحقك، ولكنك كريم تقبل العذر، ولا يسعني في الختام إلا أن أفتخر بك رفيق درب وأخا صادقا ووفياً، ومثقفا رائداً نفض ركام المحنة والغربة والتشرد، وتجاوز الصعاب والآلام ليشيد مجداً وإن كان بعيداً عن مسقط رأسه ومرابع صباه، فهو ليس كما قال الشاعر:

وشيدت مجدي بين أهلي فلم أقل

إلا ليت قومي يعلمون صنيعي

كنا نتمنى أن يكون الغرباوي بلحمه ودمه بين أهله يكلمهم وجها لوجه، ويستمعون إليه بكل حواسهم ومشاعرهم، ولكن حسبك أبا صادق أنك من أؤلئك الرجال الذين قال فيهم القائل:

وكن رجلاً إن أتوا بعده

يقولون مرَّ وهذا الأثر

***

طاهر أبو آلاء – كاتب وباحث

 ......................................... 

* مشاركة (45) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10