بأقلامهم (حول منجزه)

جمعة عبد الله: رؤية انسانية لقيم التسامح في المجتمع

هذه المقالة الثانية التي تستعرض كتاب: (التسامح ومنابع اللاتسامح - فرص التعايش بين الاديان والثقافات) للكاتب والباحث ماجد الغرباوي، الذي يهتم في بحوثه بالطرح العلمي والموضوعي في تناول موضوعات حساسة وملتهبة، والتي تشغل بال الكثير من المعنيين بشؤون الثقافة والفكر الاسلامي وفق رؤية معاصرة، وفي مواجهة التطورات الحديثة في العالم الاسلامي في صيغها وقيمها التسامحية وفق ما جاء في (القرآ ن الكريم والسيرة النبوية) بنظرة خالية من التحيز او التحريف او تطويع النصوص الدينية لاغراض بعيدة عن اصول الاسلام بما يخص قيم التسامح، اضافة الى هذه الميزة التي تميز الباحث النزيه عن غيره، في تشويه الحقائق او تأويلها لاغراض سياسية بعيدة عن النص الديني، فان الكاتب يمتلك ثروة لغوية عميقة دون سرد او اسهاب زائد عن الحاجة، لذا فان كل جملة لها صدى في المعنى والسياق العام ببراعة كاتب يجبرك على الغوص في ثنايا الكتاب دون ملل او شعور بالوقت، وهذه خصلة لايملكها إلا من له باع طويل وخبرة واسعة في صنع فن الكتابة، والتحري بعمق في موروثاتنا الثقافية والفكرية الاسلامية . حقا ان قيم التسامح هي بالضد من الكراهية والحقد والارهاب الاعمى والعنف بكل اشكاله في المجتمع الاسلامي، الذي يزخر بمكوناته وطوائفه الدينية والعرقية والقومية والقبلية والاجتماعية والسياسية، لذا فان قيم التسامح يجب ان تبدأ من اصغر وحدة في المجتمع وهي الاسرة او البيت الى رجل الدين ورجل السياسة ثم الى اعلى هرم في الدولة والسلطة والى المفكر الثقافي الى رجل الفكر والاجتماع، حتى تكون الحصيلة العامة بوادر مشجعة وصدى مؤثر لهذه المفاهيم، حتى تتقلص حدود الخطاب التكفري المتشدد، او النظرة المتعالية على الاديان الاخرى، التي توصف الاخرين بالكفرة او المرتدين او انهم معادين لرسالة الاسلام مثلما ما يتبجح به اعلام الجماعات المتطرفة والمتشددة والسلفية التي تبيح القتل باسم الاسلام .

 ان ركائز التسامح تشمل اربعة اقسام وهي:

1- حقوق المواطنة: ومفهوم المواطنة هو (الاعتراف بالاخر وبحقوقه او لا اقل قبوله وقبول التعايش معه سلميا وفق حقوق مشتركة لجميع المواطني). وما يتطلبه بالمساواة بالحقوق والواجبات، والتساوي في الانتماء الى الوطن الواحد . اي بغض النظر عن انتماءاتهم القومية والدينية، وحق غير المسلمين بالتمتع بهذه المزايا، كما جاء في القرآن الكريم والسيرة النبوية التي تؤكد بشكل لايقبل التأؤيل بتمتع بكافة حقوقهم كباقي الاكثرية الاسلامية، في اطار الوطن الواحد الذي يقر بالتعايش وعدم التجاوز على خصوصية الاديان الاخرى، بالاعتراف بحقوقهم والاعتراف بوجودهم ودورهم في المجتمع. 

2- سيادة القانون: ان قيم التسامح في المجتمع لا تلغي سيادة القانون وسلطته، اذا كان هذا القانون يؤدي منفعة عامة، واذا كان مستندا على الحكومات المنتخبة من الشعب ويعتمد على ارادة الشعب، بالضد من القانون الذي يحمل في طياته فقاعات عنصرية او شوفينية او طائفية او دينية متعصبة، ويجب ان تكون كل اطياف المجتمع ان يسودها الاحترام الى قوانين الدولة النابعة من (ارادة الشعب، وقد تمت الموافقة عليها في الانظمة الديموقراطية) وان تكون المرجعيات خاضعة لهذه الارادة.

3- اعادة تشكيل قيم التفاضل: تتحكم في عقلية الفرد جملة من المفردات في سلوكه وتفكيره من الدين والاخلاق والاعراف والتقاليد القبلية ومجموعة من سمات القيم الاخرى، لكن تبقى مسألة جوهرية وهامة في هذه القيم يجب ان تستند على مقولة (لا اكراه في الدين) واحترام الاخر، وما سيرة حياة الرسول الكريم، تعطي امثلة رائعة من التقوى والفضيلة وسمو الاخلاق والجهاد والعلم الذي تنتفع منه البشرية ويستحق التقدير والاحترام، (ويصلح بجدارة لان يتحول الى قيمة تفاضلية) لها صدى واسع.

4- اطلاق الحريات العامة: لاشك ان الحريات العامة تؤدي دورها الفعال في المجتمع وتساعد على ترسيخ القيم بين ابناء الوطن الواحد، وهي بالضد من انعدام الحريات، حيث يكون الشعب تحت رحمة مطرقة الاضطهاد والكبت والحرمان، التي تؤدي بروز الخوف والقلق والخشية من العواقب، وكذلك تبرز مظاهر التكتم على الحقيقة وشيوع ظاهرة النفاق والتملق . وتسيد العنف في الحياة العامة التي تسلب حق الاخرين في اختيار طريقة اسلوب الحياة، ومثل الانظمة الدكتاتورية التي تخنق بوادر الحياة الحية .وتجربة العراق غنية في هذا المجال من اضطهاد وقهر وسلب الارادة، لذا فان الحرية تكون (سلاح ماض لتحطيم قيم الكراهية والاحقاد، واداة ناجحة لترسيخ قيم التسامح).

يستعرض الكتاب نماذج عديدة في اطار المجتمع ذات الغاليبة الاسلامية .. والصفة المميزة للكاتب يتضح بالجهد الفكري والبحث العميق في ثنايا القرآن الكريم، واستخلاص منه (60) آية من آياته الكريمة التي تدعو الى قيم التسامح والعفو والمغفرة والرحمة، وهي تتجاوز بالكثير من الآيات التي تدعو الى العنف او السيف، ولكن يجب عدم تعميمها بل مناقشة ظروفها وزمانها والحاجة التي دعت اليها في ذلك الزمان والوقت، وان لا تكون ذريعة لبعض المتشددين والمتطرفين في الدين من استخدامها في الظرف الراهن، اي في غير زمانها لتبرير نهجهم الارهابي في القتل وارتكاب الجرائم باسم الاسلام

***

جمعة عبدالله