بأقلامهم (حول منجزه)

ابراهيم جلال القصاب: قراءة في كتاب "إشكاليات التجديد" لماجد الغرباوي

لطالما كانت الفجوة بين التراث الديني والتقدّم الحضاري موضع جدل ونقاش مستمر في أوساط المثقفين على اختلاف أطيافهم. ففي كتابه "إشكاليات التجديد"، قدّم المفكر ماجد الغرباوي مقاربة وطرحاً حاول فيه معالجة هذا الموضوع، وكيف ينبغي علينا (كأمّة إسلاميّة) التعامل مع الواقع المعاش المتغيّر بشكل مستمر وبسرعة صاروخية، وبين هويّتنا الأصيلة ومكوّناتنا الثقافية ومفاهيمنا المُستلّة من قراءتنا لديننا والتي كثيراً ما تصطدم مع المدّ الحضاري العارم. يطرح الكتاب[1] آلية التوافق الوحيدة (من وجهة نظره) التي ستدفع بالأمّة تجاه مواكبة التطوّر الحضاري دون أن تهجر وتقطع مكوّناتها الأصيلة الفريدة. هذه الآلية هي "التجديد"، الشيء الذي يصفه الكاتب بأنّه "ضرورة حضارية" كونها حركة إنسانية مستمرّة تدفع باتجاه التطوّر وباتجاه طرح ما هو أفضل. يقول الكاتب :"فالتجديد ضرورة منبثقة عن حركة الأشياء، من أجل مواكبة حاجات الإنسان، والاستجابة لتطلعاته. إلا أن الدعوة له دعوة استفزازية، تثير حفيظة رجال الدين، وربما اشمئزازهم، لأنها تنطوي على اتهام مؤسساتهم، وانتقاد فكرهم، ودعوة صريحة لتمحيص التراث ومراجعة الثوابت، بل جميع المقولات العقائدية"[2].

يستعرض الكاتب حال الأمة وكيف تبلورت فيها ثلاث اتجاهات رئيسية إزاء الصدمة الحضارية التي أعقبت الانفتاح على الغرب المتطوّر علميّاً وتقنيّاً، بين "رجعية" ترفض كلّ ما يأتي من الخارج ولو كان علماً نافعاً، وبين "نبذية" ترى بأنّ هجران الأصل والقطيعة مع الماضي ومكوّناتنا الثقافية (كالدين) هو الحلّ، وبين "توافقية" ترى أنّه من الواجب الاستفادة من التجارب الإنسانية النافعة من كلّ الثقافات، وفي المقابل يجب أيضاً ممارسة النقد المستمر إزاء التراث كحركة دافعة لتصحيح الأخطاء بشكلٍ متواصل. العائق الأكبر، أمام هذه الحركة، هم رجال الدين الذين يرون في مثل هذا الحراك اتهاماً مباشراً لهم ولسلطتهم.

محاور الكتاب

يعالج الكاتب في "إشكاليات التجديد" ثلاثة محاور رئيسية. في المحور الأول، يتناول فيه وبشكل مفصّل الوضع الراهن، مقدّماً تحليلاً شاملاً إزاء الحال كما هو. ويؤكّد الكاتب، ضرورة الارتقاء بالوعي في الإنسان، وكيف تمّ تزييفه في الدول التي قامت (بعد الخلفاء الراشدين) لتحقيق مصالح وأجندات تخدم الغرض المخطّط له. ولن يتطوّر الوعي في المجتمع دون وجود مرجعيات تجدّد فهمها للنصّ الديني باستمرار بما يتناسب مع القرآن والسُنّة الصحيحة. يقول الكاتب: "الأمة بحاجة أولا إلى وعي رسالي، تتجاوز به أزمتها، حتى تستطيع تحدي الممنوع، ولا يتحقق لها ذلك، إلا بإعادة تشكيل وعيها داخل فضاء معرفي، يستظل بمرجعيات تجدد بإستمرار فهمها للنص الديني، في ظل المستجدات الحياتية المتأثرة بالظروف الزمانية والمكانية."[3] كما نبّه أنّه من الضروري ألا نسلك مسلك قوم عيسى حينما اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، وأن نميّز بشكل واضح بين الإلهي والبشري والمقدّس وغير المقدّس.

ولكنّ الارتقاء بالوعي ليست مسؤولية محصورة بالمرجعيّات الدينية المثاليّة المتصوّرة في الكتاب (المجدّدة لفهمها الديني باستمرار)، بل يشمل دائرة المثقفين وصنّاع الثقافة ومحركاتها (كالإعلام). فالثقافة هي المحدّدة للاتجاه العام لوعي الأمّة. ولذلك من الضروري أن يكون المُجدّد مثقفاً، وأن يمتلك العناصر الثلاث التي فصّلها الكاتب في الفصل الأول؛ المعرفة بالتراث وحيازة مكنة البحث والتفكير، والوعي بالواقع وإدراكه بشكل دقيق، والتشاعر معه لئلا يعيش المُثقف منفصلاً عن واقعه وواقع أمّته، واتخاذ الموقف الواضح الجريء والشجاع لخلق النموذج التضحوي الوقّاد لجذوة صحوة الأمة.

في أثناء تحليل الكاتب للوضع الراهن، استعرض بشكلٍ وافٍ مسار العقيدة الإسلامية منذ نشوئها وحتى الآن، وكيف كانت في نشأتها أنموذجاً عقائدياً فكرياً وهّاجاً، قضى على الوثنيّة وانسجم بشكل سلس مع الفطرة الإنسانية، وصار قلباً حيّاً نابضاً في أوساط الحياة الاجتماعية للناس آنذاك. يقول الكاتب: "تمتاز العقيدة الإسلامية بقدرتها على تجديد عقل الإنسان وانتزاعه من عالمه (الوثني، الطقوسي، القلق) إلى أفق رحب تتفاعل فيه العقيدة مع الحياة، ليفرز ذلك التفاعل مجتمعاً يتمثل القيم الإسلامية ويعيشها ممارسة يومية"[4]. بعد ذلك تطوّر البناء الفكري المحيط بالعقيدة حتى تشكّل ما يُسمى بعلم الكلام نتيجة المُطارحات العقدية بين الأطراف المختلفة (سواء المختلفة في الدين أو في المذهب نفسه). فمن وجهة نظر الكاتب، بالرغم من المساهمات الفكرية لعلم الكلام إلا أنّه كان أساساً في "موت الإيمان الحقيقي" حسب تعبيره وإبعاد العقيدة عن الممارسة الحياتية. كما قاد إلى تعطيل المنهج القرآني الواقعي والداعي دوماً إلى العمل الصالح بدل الجدل العقائدي. والمفارقة بعد هذا كلّه، هو أنّ علم الكلام، الناشئ من أجل استبقاء "العقيدة الصحيحة" ونبذ الأوهام الفكرية، انتهى إلى نشر أفكار مدمّرة كالجبر والإرجاء وتبرير أفعال السلطان، ومن ثمّ إطفاء فاعلية العقيدة في الحياة، وتأصيل الفِرَقية (مذهبية وغيرها) وتعميق خلافاتها وهجران الحوار مع الآخر إلى إقصائه، وبالتالي سقط الإنسان كإنسان وأصبح مجرّد أداة أو رقمٍ ممّثلٍ لهذه الفئة أو تلك.

في ضوء هذا، يرى الكاتب أنّ الأمة في حاجة إلى إنشاء وتطوير "علم كلام جديد" تتمّ فيه مجاوزة أخطاء علم الكلام السابق. وهذا لا يتأتى إلا بـ: إعادة النظر في القضايا الجدليّة ومعالجتها، واعتماد المنهج القرآني الموافق للعقل والفطرة، ونبذ الجدل والتكفير والإقصاء وانتهاج منهج الحوار العقلاني، والاعتناء بالإنسان كإنسان له كامل الكرامة والحقوق، وإعادة زرع العقيدة الحيّة في الناس المحرّكة لوجدانهم والفاعلة في حياتهم، وتقديم أجوبة مستمرّة للتحدّيات المتجدّدة النابعة من التغيّرات المتسارعة في العصر الحالي، وترك الجمود على أفهام السلف وتشجيع الاجتهاد في الأمور الفكرية والعقدية. فالكاتب يسعى، من خلال هذا الطرح ومن خلال علم الكلام الجديد، أن يعاكس التأثير السلبي الذي أحدثه علم الكلام القديم، والسير إلى مآل أفضل حالاً يرعى الإنسان ويوحّد الأمة ويعمل باتجاه التطوّر والرُقي.

وهذا لن يحدث (من وجهة نظر الكاتب) من دون تفعيل حقيقي لآلية الحوار مع الآخر المختلف. في بداية بزوغ شمس الإسلام، يرى الكاتب أنّ الحوار مع الآخر لم يكن مشكلة، بل كانوا سبّاقين للتعاطي مع الاتجاهات المختلفة. يقول الكاتب: "ولم يتخل المسلمون عن شروط الحوار مع الآخر، رغم تماديه وإصراره على التمسك بموروثه الثقافي المثقل بحمولته الفكرية اللادينية، واللاحضارية في أحيان كثيرة"[5]. واستطاع المسلمون، نتيجة انسجام عقيدتهم مع العقل والفطرة، أن يحسموا معظم المعارك الكلامية والفكرية في حواراتهم مع المختلفين آنذاك. ولكن هذا الانفتاح الفكري تقهقر مع الزمن عند نشوء الفِرَق الكلامية المتناحرة والمُكفّرة لبعضها البعض، حتى خنقت البيئة الفكرية الحاضنة للحوار مع الآخر. ونحن في حاجة ماسّة للعودة لشيء من ذلك الانفتاح لبدء حركة التدافع الفكري المنتجة والفعّالة. يرى الكاتب أنّ الانغلاق الفكري المعاش اليوم يتناقض بشكلٍ صريحٍ مع منهج القرآن الداعي باستمرار للحوار وبناء الجسور مع الآخر من خلال "كلمة سواء" و"التعاون على البر والتقوى".

والحوار المطلوب هنا ليس مقتصراً على أوساط الأمة فقط، بل يتعدّاه للحوار مع الآخر المختلف حضارياً، ومثاله الصارخ في واقعنا الحالي هو الغرب المتفوّق تقنياً وحضارياً. فقد أصبح الغرب، بحكم هيمنته الحضارية والعلميّة والتكنولوجية، مركز العالم، وبذلك غدت الحاجة ملحّة لتطوير الحوار معه عبر فهم منطلقاته وأدوات التواصل معه (كاللغة والبنية الثقافية والمرتكزات الفكرية وغيرها). يُبيّن الكاتب هنا أنّ المشكلة الحالية متواجدة في الطرفين، فالغرب أيضاً متراجع أخلاقياً تجاه الآخر، وكثيراً ما يتصرّف حيال الآخر بالطريقة التي نظر لها هنتنغتون في "صراع الحضارات"، وفوكوياما في "نهاية التاريخ"، كحضارة مهيمنة على الآخر ولكن منغلقة على ذاتها في التعاطي معه. فهناك ضرورة ملحّة لتطوير الحوار والتعاطي مع الآخر الحضاري من جميع الأطراف.

ويواصل الكاتب في تبيان أنّ البيئة الحاضنة للحوار بين المكونات المختلفة للأمّة ستخلق الجو المناسب لتشكيل ما يسمى اليوم بـ"المجتمع المدني"، فيتناول خواص ومميزات المجتمع المدني، بأنّه يتمتّع بشخصية مستقلة، ويزخر بالمؤسّسات المختلفة المحافظة على حقوق أفراده، ويسمح لأفراده بمساحة واسعة من الحريّة خصوصاً الفكرية والعقدية بما يعطيهم مرونة في الحراك الفكري الاجتماعي وبالتالي تكون انتماءات الجميع طوعية، ويؤسّس لنظرة وفلسفة للكون والحياة تسع الجميع، ويضع حقوق الإنسان كإطار شامل لجميع أفراده. يرى الكاتب أنّه من الجيد "تبيئة" هذا المفهوم، وأنّه مماثل لحدٍ كبير لمجتمع الرسول الذي أسّسه في المدينة (مع فروقات الزمن والتطور الإنساني والتقني)، وبالتالي لا بأس من استعارته وتبنيه. ولكن من الجدير بالذكر أنّ الكاتب يرى أنّه يجب "تبيئة" هذا المفهوم و"أسلمته" أيضاً، ذاكراً هنا كلمة السيد محمد خاتمي الذي ذكر مفهوم "المجتمع المدني الإسلامي" المختلف عن نظيره الغربي، حيث أنّه يجب "استبعاد أسس الغرب الفلسفية ونظرته الخاطئة للكون والحياة"[6] على حد تعبيره. ثم يذكر خواص المجتمع المدني كما ذكرها السيد خاتمي، في خلوه من الاستبداد بكل أشكاله، وتكريس كرامة الإنسان فيه، وتأصيل حق تقرير المصير ومحاسبة المسؤولين، وأنّ الحكومة خادمة للشعب. كلّ هذا ناشئ ونابع من مدينة النبي، كما يرى السيد خاتمي.

كما يطرح الكاتب رؤيته في التعاطي مع تفسير النصّ القرآني، حيث يرى وضوح رهان القرآن على عقل الإنسان، وبالتالي فالعقل يستطيع التعاطي مع النصّ القرآني بغية تفسيره، ولكن بقيود ضابطة (حسب وجهة نظر الكاتب). فالكاتب يوافق رؤية الشهيد محمد باقر الصدر، القائل بأنّ التفسير يجب أن يكون "حواراً متجدّداً مع القرآن والواقع" لحمايته من الجمود وتكلّسات فهم السالفين. كما يطرح الكاتب مقاربة أوّلية لكيفيّة التعامل مع المرويّات إزاء تفسير النصّ القرآني، مفصّلاً ومبيّناً طرق التعاطي المختلفة بناء على نوعيّة الروايات. فمن وجهة نظر الكاتب، يرى أنّ التعامل مع روايات الأحكام ليس ذاته مع روايات مصاديق الآيات، وأنّ بعض الروايات مرفوضة لمخالفتها القرآن والعقل، والبعض أتى ليخاطب الناس على قدر عقولها وبالإمكان تجاوزها لما هو أكثر تطوّراً ومناسبة للعصر الحالي. بالإمكان القول أنّ الكاتب، ولو لم يصرّح بهذا الشيء علناً في الكتاب، أنّه ضدّ تقييد القرآن بقيود المرويات، وأنّه مع محاولة فهم القرآن بالتماشي مع الروايات الصحيحة (دون التفصيل الدقيق في النقاش في دائرة الصحة أين تقع). والكاتب يعاتب كيف تحوّلت كتب التفسير إلى خطوط حمراء تقمع كلّ محاولة للخروج بفهم جديد، وهذه أيضاً إشارة لمظهر آخر للشيء العضال الذي أعاق فكر الأمة، ألا وهو الخلط بين الرسالة الأصيلة (الإلهية) والنتاج البشري (كالتفسير وآراء الرجال مثلاً).

التعددية

يختم الكاتب استقراءه لوضع الأمّة الراهن عبر معالجته لمفهومين معاصرين تداولُهما شائع في أوساط النقاشات الاجتماعية والسياسية، وهما مسألتا "التعدّدية الدينية" و"الولاء". فمن وجهة نظر الكاتب، فكرة التعدّدية الدينية الناشئة من عصر النهضة والمضادّة للمنظومة الكنسيّة ثبتت شياع الحقّ عند الجميع وكلّ الأديان، وهذا شيء لا يناسب بُنية الإسلام لأنّ هذه الفكرة تفرّغ الدين من محتواه الحياتي. هذه الفكرة تختزل الدين لتجربة روحيّة باطنية بعيدة عن الشعائر وأحكام الشريعة[7]، وهذا -في نظر الكاتب- يزيح الإسلام من فاعليته الحياتية. ولكن بالرغم من هذا فالكاتب لا يرى انحصار الحقيقة عند جهة أو دين واحد، وفي ذات الوقت لا يرى الجميع على حقّ، ولكن يرى بأنّ كلّ الناس لديها منهاجها التعبّدي أو العقائدي به تعرف الحقّ، وأن كل جماعة، أو فرد، تحكمه ظروف فريدة تجعله يتبع منهاجاً معيناً. وكأنّ الكاتب هنا "يعذر" الجميع ويعتبر الكلّ عيال الله، ولكن من دون الاعتراف أنّ الجميع على حقّ على نسق فكرة التعدّدية الدينية.

الولاء

أما بخصوص الولاء، فقد استعرض الكاتب كيفيّة تغلّب الرسول (ص) على هذه المسألة بحكمة وحنكة بالغة؛ بأن وحّد بطون وأفخاذ القبائل المُتفرّقة تحت لواء واحد وهو الولاء لله عز وجل. أمّا بعد ذلك فالمسألة تفرّقت وعادت للولاءات التحزبيّة والقبليّة وغيرها، وأصبح الولاء للأفراد مفضّلاً على الكفاءة والنزاهة حتى في المؤسّسات الدينية نفسها. وهذا الأمر معاكس للنهج القرآني، وينتج بيئة من الولاءات المتناحرة على شكل إقطاعات تعيش تحت كنف دولة واحدة ولكن ما من أحد يدين لها بالولاء، بل كلٌّ له ولاؤه. فالبعض ولاؤه مذهبي، والآخر قومي، وغيره عشائري، والخ من هذه التحزّبات الطاغيّة على اللواء الأكبر. يشير الكاتب إلى أهمية معالجة هذه المعضلة والعودة إلى ولاء واحد يتوحّد فيه الجميع وتزول فيه الجدر الفاصلة بين الناس.

مشاريع التجديد

ينتقل بعد ذلك الكاتب إلى استعراض نماذج من التاريخ الحديث التي كانت منارة تجديدية (من وجهة نظر الكاتب) أحيت الفكر الديني بعد ركوده. فاستعرض سيرة ونهج جمال الدين الأفغاني، والإمام محمد باقر الصدر، والإمام الخميني. وبيّن أهم مرتكزات حركة ونهضة كلّ شخصية من هذه الشخصيات العملاقة في تاريخ الفكر الإسلامي الحديث. فالأفغاني مثلاً عمل على محاربة الاستعمار، ومناهضة الاستبداد بأنواعه. كما ركّز بشكل واضح على توعية الناس، وتنقية الفكر الإسلامي من الشوائب المخلّة به، وأطلق مشروع الجامعة الإسلامية المعروف.

أمّا الإمام محمد باقر الصدر فقد أحدث موجة فكريّة عارمة في مجالات المنطق والفقه والفلسفة والتفسير وحتى الاقتصاد. فقد اشتغل بنقد التراث دون قيود التزمتّات الدينيّة والخطوط الحمراء، وعمل على دراسة نظريّات الآخرين من خارج الدائرة الإسلامية، وعمد إلى تقديم رؤى إسلامية جديدة في مختلف الميادين. وكذلك ركّز على الارتقاء بمستوى الوعي عند الناس، وكذلك نظّر لأطروحة "المرجعية الصالحة أو الرشيدة"[8].

في المقابل، عمل الإمام الخميني على مشروع إصلاحي-إحيائي، يتصدّى فيه الفقيه لقيادة الأمة سياسياً بالإضافة إلى مرجعيته الدينية. فكان مشروعه مرتكزاً على عدّة أبعاد، منها مناهضة الاستبداد، وتأكيد دور العلماء الحقيقيين وتحجيم فقهاء السلطان، وقطع التبعيّة للدول الاستعمارية، وإقامة الدولة الإسلامية وتأكيد دور الأمة.

ونرى هنا نمطاً متكرّراً في أوساط هؤلاء المجدّدين، وهو نزعتهم لمقاومة الاستبداد بشتّى صوره.

الاستبداد وتداعياته

في الفصل الأخير من الكتاب، ركّز الكاتب على منظومة الاستبداد بوصفها أكثر ما كبّل الإنسان وأكثر ما حجب المجتمعات عن تطوّرها وترقّيها، مستشهداً بآراء النائيني والكواكبي حيال هذه المنظومة القامعة للإنسان وحراكه الفكري والثقافي. كما يبيّن الكاتب من أين وكيف بدأ الاستبداد، بعد العصر الأول وتحديداً بعد الخلفاء الراشدين. ثم يبيّن بوضوح المنهج المناسب لمحاربة الاستبداد، ألا وهو فضح الممارسات الاستبداديّة بكل أنواعها (سياسية كانت أم دينية أم غيرها)، وتبنّي الشورى والديمقراطية وضمّ جميع أطياف المجتمع، والانضواء تحت سياسة القانون وإرساء العدل للجميع. يقول الكاتب: "لا شك أن الشورى والديموقراطية هما طرفا النقيض للاستبداد، فإذا انتعشتا في بلد جفت منابع الاستبداد وأثمرت حياة حرة كريمة، وإذا ذوتا استفحل الاستبداد، وعاش الشعب ظلمة الكبت والحرمان"[9]. ثم يعرّج الكاتب بشكل مختصر على نموذج ولاية الفقيه والشورى كمنظومة قد تكون صالحة في ظلّ صلاحيات محدودة للفقيه (المرشد الأعلى)، لا صلاحيات استبداديّة تسمح له بتجاوز مبادئ العدل والشورى وحكم القانون.

الكتاب يتناول موضوعاً لا زالت الأمّة في أمسّ الحاجة إليه، ألا وهو نبذ الجمود الفكري والانطلاق نحو التجديد الفكري الثقافي على مختلف الأصعدة، فقدّم نظرة دقيقة فاحصة في تشخيص الوضع الراهن، ولم ينزلق كعادة بعض المثقفين إلى الاصطفاف في إحدى الضفتين؛ إما الدفاع بشراسة عن التراث بكل ما فيه أو مهاجمته والاستنقاص منه والتنكّر له، بل نحا المنحى العقلاني الذي يوازن بين الأصالة والمعاصرة. فلا كلّ التراث سيء، ولا كلّه جيد، ويحتاج لعملية تنقية ونقد وتجديد باستمرار لئلا نتكلّس ونجمد، فالتجديد سنّة الحياة كما يقول الكاتب. ولا بأس لديه في التعاطي مع المنتجات الثقافية والعلمية من الحضارات الأخرى بوصفها -على حدّ تعبيره- "نتاجا إنسانيا" يمكن الأخذ به أو ردّه على حسب فائدته. هذه النظرة المتوازنة توحي بكمّ من الانفتاح والاعتزاز في آنٍ واحد، وتسلك باتجاهٍ قلّما تكثر أنصاره لكثرة المنزلقين لإحدى الضفتين المذكورتين.

وعمد الكتاب بشكل جميل إلى تثبيت أسسٍ رصينة بالإمكان البناء عليها، كإرساء ثقافة الحوار ومناهضة الاستبداد بأنواعه. وكانت له ملاحظة ذكية جداً على "علم الكلام" القديم الذي طالما تغنّى به المفكرون الإسلاميون كعلامة تفوّق فلسفي على الآخر، بينما لاحظ الكتاب كيف درج علم الكلام هذا في نهاية المطاف إلى إطفاء جذوة الإيمان الفاعلة وتأصيل الِفرَقية بأشكالها وزرع العقائد المغلوطة والمدمّرة وتعطيل المنهج القرآني الأصيل وغرس ثقافة الإقصاء، وبالتالي سقط الإنسان كلّه. وعالج مشكلة مُعقّدة أخرى (ولو بشكل مختصر) ألا وهي مشكلة الولاءات المتفرّقة الغير متوحّدة. وثبّت دور المثقّف في التجديد، ورسم له نموذجاً نأمل أن نراه في الواقع، وهو أن يجمع المثقّف بين المعرفة العميقة، والوعي المشتبك بالواقع، والموقف الشجاع والاستعداد للتضحية.

وأحد أكبر نقاط القوة في الكتاب هو نزعته للتعاضد مع النهج القرآني بصراحة تامة، فالكاتب يشرّف القرآن بتبيان أنّ القرآن يراهن على العقل، وداعية إلى الحوار مع كلّ الأطراف، ومضاد إلى كلّ أنواع الاستبداد. كما يشدّد على الحاجة إلى تجديد التفسير للنصّ القرآني، وينتقد كيف أصبحت كتب التفسير خطوطا حمراء وآلية قمع للاجتهادات الجديدة، ويفرّق في أكثر من مرة بين الإلهي والبشري. ولكن ربما لم يتم استيفاء هذا الموضوع فهو شائك وطويل وبحاجة إلى تبيان منهج واضح مع أمثلة صريحة في كيفية التعامل مع الآيات الشائكة في القرآن أو التي قد تحسب ضدّ القرآن. فبعض التنظيرات العامة جميلة ولكن الشيطان يكمن في التفاصيل، فما الآلية المناسبة لتطوير عملية التفسير، وهل ستظل حكّراً على بعض العلماء والفقهاء ومحرّمة على المثقفين مثلاً (كما هو الحال الآن)؟ بل حتى علم الكلام وتجديده، فلن يثمر شيئا ما لم يتم تجديد قضايا الكلام نفسها وتجاوز قضايا السابقين التي كانت معاول هدم ومصانع طحن أنتجت التكفير والتفرٌّق في الدين في مسائل عقدية ما أنزل الله بها من سلطان لا تثمر شيئا ولا تمس حاجة الإنسان والمجتمع ولا فلسفته في الحياة الموجّهة لأدواره البنّاءة.

قد يُعذر القارئ إن ظنّ أنّ الكاتب يناقض نفسه حينما تناول الكتاب قضية التعدّدية الدينية في بعض ما قاله آنفاً. فقد قارب ما حدث في عصر النهضة مع العالم الإسلامي وخلص إلى أنّ الإسلام لا يوجد به "إكليروس"[10] ولا تكفير، مع أنّ الشواهد تشير إلى أنّ كثيراً من المرجعيات بفئوياتها الضيّقة هي نوع من الإكليروس وتمارس التكفير لمن خالف ثوابتها أو نظرياتها (وقد ذكر الكاتب قبل ذلك شياع الفكر التكفيري كمظهر للتخلّف الحضاري). تجد في الكتاب عدم ارتياح في التعاطي مع فكرة التعدّدية الدينية بحجّة أنّها مفرّغة للدين من محتواه الحياتي، ولكن يبقى السؤال ماذا عن الأطياف المختلفة (حتى في الدين نفسه) التي لا تتّفق في ثوابت الشريعة مع الآخر وتمارس دينها بأسلوب قد يعتبره الآخر "تجربة روحية باطنية"، فهل يناقض ذلك وحدة الأمة أم يمزّق بين طوائفها؟

الكتاب صدر في سنة 2000 فهذه الآراء هي جزء من مسيرة الكاتب الفكرية ومن المستحيل أنّها لم تتطوّر أو حتى تتغيّر فتلك عادة المثقفين الحقيقيين. في الحقيقة الكتاب سابق لزمانه والقضايا الموجودة فيه ما زالت بذات الأهمية القصوى اليوم في هذه الظروف التي تعيشها الأمة. أنصح الجميع بالاطلاع عليه والاستفادة منه. فنحن بحاجة لمثل هذه النتاجات والتوجهات الدافعة لعجلة التجديد الفكري فقد تأخرنا كثيراً. أما كتبه الآخيرة فقد اشتملت آراء جديدة، بعضها قد تجاوز ما جاء في كتاب اشكاليات التجديد.

***

ابراهيم جلال القصاب - البحرين

....................

[1] الغرباوي، ماجد، إشكاليات التجديد، مؤسسة المثقف، سيدني – أستراليا والعارف للمطبوعات، بيروت – لبنان، 2017

[2] المصدر نفسه ،ص23

[3] المصدر نفسه، ص38

[4] المصدر نفسه، ص58

[5] المصدر نفسه، ص70

[6] المصدر نفسه، ص87

[7] المصدر نفسه، ص127

[8] المصدر نفسه، ص181

[9] المصدر نفسه، ص232

[10] المصدر نفسه، ص126

 .............................

* مشاركة (47) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10