بأقلامهم (حول منجزه)

نحن ومشروع الحداثة في الفكر العربي.. ماجد الغرباوي في مشروعه النقدي للتراث مثالاً

سؤال الحداثة التداولي: اينما نولّي وجوهنا، ومن أي موقع نكون، وفي أي مجال من مجالات الحياة، السياسة، الفكر، الاقتصاد، الاجتماع، التعليم، الثقافة، الادب، او الفنون، نصطدم بجدار الحقيقة الخاصة بنا كأمة عربية – اسلامية وحدنا من غير أمم وشعوب العالم الذين عبروا منذ قرون حواجز الاعاقة والتخلف في حياتهم وحسموا امرهم بشأنها وتجاوزوها الى غير رجعة ولا تشكّل اليوم عندهم اشكالية يتوقفون عندها في كيفية الخلاص منها كما هو حالنا اليوم ومنذ بدايات القرن التاسع عشر.

تلك الحقيقة الصادمة لنا التي نحمل أعباءها منذ قرن ونصف على أقل تقدير، هي أين الوطن العربي من الحداثة والعصر؟ ماذا نعتمد وماذا نترك؟ وكيف ومن أين نبدأ؟ تساؤل مهما حاولنا الهروب من مواجهته والتحايل على عدم دفعنا استحقاقاته بمزيد من التخلف والكوارث والمراوحة في الزمان والمكان، نجده يلازمنا ملازمة الظل في حياتنا بمجملها.

ماذا نحتاج للنهوض بواقعنا المتخلف عن ركب الحضارة الانسانية بمديات شاسعة؟

نفس التساؤل العقيم في عجز الاجابة المثمرة له، والذي ما فتئنا نتحايل في الهروب من مواجهته والاجابة عنه منذ ما يزيد على قرن كامل ونصف من محاولات رجال النهضة عندنا في اللف والدوران حول الاشكالية (الاصالة والمعاصرة) بما يضخمّها بمجلدات من الفكر التنظيري الذي يدور في فلك الاشكالية دونما الولوج الى جوهر المشكلة وتسمية الامور بمسمياتها الحقيقية التي نحاول باستمرار الاختباء خلفها وترحيلها اشكالية مستعصية عبر الاجيال.

الجواب المباشر الذي لم يعد بحاجة الى تهيئة ذهنية او مراجعة عقلية بعد أن أصبح مرتكز المعاناة التي نحياها، هواننا نحتاج مشروع نهضوي تحديثي متكامل ينقلنا من واقعنا العربي المثقل بالتخلف المستدام بعوامل الاعاقة، الى دخول عتبة عصر التقدم والحضارة من حولنا. جواب لم نلمس له تاثيرا واقعيا ملموسا في حياتنا رغم الكم الكبير من الكتب والتنظيرات والمنتديات الثقافية والفكرية التي حاولت معالجة الموضوع ولم تكن المهمة سهلة أبدا.

ثمة رأي يذهب الى عدم اضاعة الجهد في التنظيرالفكري الذي لم يستطع ان ينقلنا الى عتبة التمدن الحضاري، الذي ملأنا به عقول اجيالنا، بالمماحكات الفكرية والفلسفية والتفسيرات الاجترارية المعادة، التي تعيد نفسها باختلاف لغوي تعبيري فقط، راح ضحيتها العديد من المفكرين العرب الذين تمّت تصفيتهم في محاولة وأد افكارهم معهم، فلماذا لا نترك تطورات العصر من حولنا واستهلاكنا السلعي للحضارة العالمية، وانتشار وسائل الاتصالات التحديثية والتقنية العلمية المتطورة تأخذ دورها البطيء لكنه الحتمي آخر المطاف في نقلنا الى المدنية المعاصرة شاء بعضنا ام أبى معظمنا.

يوجد امثلة امامنا في تجارب مثل ماليزيا واندنوسيا وتركيا، وامارات الخليج فهذه التجارب التحديثية لم تقم تجاربها على نقد التراث، بل قامت على استهلاك الحضارة المعاصرة في تقنيتها الحديثة، ولم تفقد تلك المجتمعات هويتها ولا ذاتيتها في التراث.اذ لا زالت الكوفية او اليشماغ والعقال مع الدشداشة سارية المفعول في دول الخليج التي حققت لها طفرة حداثية في الاستهلاك الحضاري ولم تفقد هويتها الذاتية العربية التي لا ننام الليل من كثرة التحذير من فقدانها او تضييعها.

ورغم كل المجهودات الفكرية التنظيرية على مختلف مشاربها الا انها كانت تدور حول الاشكالية الحداثية، ولم تتمكن من الاسهام المطلوب في نقل المجتمعات العربية من وهدة التخلف والتردي المستمر وحصد الكوارث المتناسلة في الحياة، انه من المنطقي أن جميع الافكار التي كانت تروم احداث تغييرات حداثوية في مجتمعاتنا العربية كانت معطلّة ان تأخذ مدياتها المرجوّة لاكثر من سبب ليس سوء الحكام العرب فقط، ولا التخلف والفقر المجتمعي، وانما ان تلك الافكار كانت نخبوية في تداولها ومراميها التأثيرية والأقناعية، فالمفكر الحداثي عندنا كان ولا يزال، بحاجة الى صرف جهود مضنية لمحاولة الوصول الى أقناع مفكر آخر يناوؤه بالفكر من منطلقات رجعية الى تبديل قناعاته، ولا يسعى الى تبديل قناعة مجتمع متخلف بحاجة الى التنوير.وبعضهم يعتمد مناهج اوربية غريبة تماما في مخاطبته العقل العربي، لتبقى اشكالية التراث من حصة المفكرين القاطنين عواصم العالم لا من حصة الشعوب العربية صاحبة المصلحة الحقيقية في مشروعها التحديثي النهضوي.

المجتمعات العربية لم تعد بحاجة الى من يزقّها بالتنظيرات والشعارات الفارغة التفاؤلية النهضوية، وهو جالس في باريس او لندن او السويد، مكتفيا بمواعظه الانشائية بعيدا عن حقيقة معاناة شعبه بالاف الاميال.هذا لا ينطبق على المفكرالمغترب فقط بل على السياسيين والحكام واصحاب الشهادات العلمية والكفاءات المغتربة، (على سبيل الاستشهاد فقط ان عوائل جميع الساسة العراقيين الحاليين، لا يعيشون بالعراق، من عائلة رئيس الجمهورية، وعوائل نواب الرئيس، وعائلة رئيس الوزراء، والوزراء واعضاء مجلس النواب؟؟؟؟) فكيف تتوقع من هذه الشلّة الفاسدة التفكير بالفقير ومعاناة الانسان العراقي ليس لنقله حضاريا بل للايفاء بابسط مستلزمات حياته وعائلته؟؟؟. وهل يجدي مع امثال هؤلاء نقد التراث لتصحيح افكارهم وقناعاتهم في النهضة والتحديث او هل يعرف غالبيتهم الف باء الثقافة او تحديث المجتمعات؟

نماذج معالجات التحديث بالتنظيرات والمناهج

من المفارقة التي لا يرغب الاعتراف بها الجميع، ان الغالبية الساحقة وليس الكل من الذين كتبوا في الحداثة لشعوبهم لم يكونوا يحملون هموم شعوبهم بقدر اهتمامهم توفير راحة ورفاهية لوجودهم في اقامة دائمية خارج البلدان العربية والتمتع بالهالة التبجيلية لهم، واستثني منهم عديدين قلائل لم تغرهم لا الهدايا ولا اغراءات العيش في عواصم العالم، وحتى رفضهم للتكريم الذي كان يحاول شراء ذممهم واقلامهم.

لو عدنا الى مراجعة مسحية نقدية سريعة ومركّزة الى بدايات النهضة المطلوبة وغير المتحققة منذ القرن التاسع عشر الميلادي، لوجدنا اجابات التساؤل والبحث في نشدان نهضة تحديثية عربية اسلامية، لاتخرج عن هذه التيارات التي نستعرضها:

1. المشروع السلفي الديني والفكري الذي يعتمد التمسّك بالنص الاسلامي الفقهي والاجتهادات التشريعية الدينية في مختلف مشاربها، لتحقيق وبعث تراث الماضي الذي يحكم فيه الاموات الاحياء على حد تعبير اكثر من فيلسوف ليس آخرهم ماركس، ، أي حسب تعبير الجابري، (السلفية التراثية التي تبقينا كائنات تراثية وليس كائنات تمتلك تراثها).مشروع يجد النهضة في العودة الى ماقبل الف واربعمائة سنة كي نفهم كيف نعيش حياة العصر.وتمكين الماضي اكثر من مصادرة الحاضر والمستقبل باسم امجادنا التراثية الوهمية والخرافية الكاذبة، (الاسلام هو الحل).

ان اهم ميزات هذه السلفية التراثية كما يلخصها لنا المفكر محمد عابد الجابري:

- ان القراءة السلفية للتراث والماضي تنطلق من منظور(ديني للتاريخ يجعل التاريخ ممتدا في الحاضر منبسطا في الوجدان)1 بمعنى انتقال الوجدان الجمعي عبر الاجيال في (ان الذات تتحدد بالايمان والعقيدة، التي تجعل من العامل الروحي، هو المحرك للتاريخ، اما بقية العوامل الاخرى فهي ثانوية او تابعة)2.

- ان القراءة السلفية لمجمل تراثنا العربي – الاسلامي، هي قراءة لا تاريخية، وبالتالي فهي لا يمكن ان تنتج سوى نوع واحد من الفهم التراثي3، يقصد الجابري ان يعيد التراث نفسه تاريخيا بعصمة غير منقودة متعالية يتضّخم بالاكاذيب والخرافات المضافة له عبر العصور، وكماضي رجعي فاعل في ترسيمه الحاضر على وفق قناعات تراكمية، وهذه القراءة لا يمكنها احتواء التراث ولا التاثير به، لان هذه القناعات الجمعية التراثية التضليلية اصبحت على مر الاجيال والعصور في تراكمها المخطوء، تراث زائف يكرر نفسه وينتحل تمثيله التراث الحقيقي، بنفس الرؤى والمنطلقات الجامدة في الحفاظ على القديم التاريخي قبل اهمية الحفاظ على الانسان بالحياة المعاصرة. وقد تعمّقت هذه السكونية مع انبثاق ايديولوجيا الدين السياسي، التي اعادت الحياة الرجعية المتخلفة للتراث بكل مخزونه من الاعاقة والتقاطع مع العصر والحياة.ولا نقد او تجديد او مراجعة يفرضها العلم او الحداثة المدنية في ابسط اشتمالاتها.

2. المشروع العلماني – التغريبي الاستشراقي الليبرالي في نشدان تحقيقه نهضة عربية متقدمة ومعاصرة، ومرتكزه الاساس مناقضة المرتكز الايماني الروحي السلفي الديني تحديدا والاحتدام به، وهذا المشروع يقوم على انفصامية العلاقة الممتدة عبر العصور مع التراث الذي يتوجب نقده بعيون العصر ومحاكمته بضوئها واكثر من ذلك فهي تذهب الى قراءة التراث بعيون اوربية استشراقية، تعبر كل ما يعرف بالخصوصيات الهوياتية، وتعتمد النموذج الحضاري الاوربي مرجعية تحاكم بها الحاضر والماضي والمستقبل في تفكير وسلوك اوربي مستورد، مع احتفاظنا باللغة العربية الجامعة فقط. وهذا التيار يصفه الجابري:

(اجد المحاور الرئيسة في اشكالية الفكر العربي الحديث والمعاصر، وبالحوار مع المحور الليبرالي في التفكير ونظام العلاقات فيه هو بين الماضي والحاضر، ولكن لا حاضرنا نحن، بل حاضر الغرب الاوربي الذي يفرض نفسه كذات حضارية تستوعب العصر كله بل والانسانية جمعاء).4 ويطلق الجابري على هذا النموذج من القراءة التراثية مصطلح (السلفية الاستشراقية) أيضا في مقارنتها وتعالقها المنهجي بالتضاد مع منهج السلفية التراثية الزائفة.

السلفية الاستشراقية (تقوم من الناحية المنهجية على معارضتها الثقافات، وقراءتها التراث العربي بتراث مغاير خاص بها ومن هذا المنهج الفيلولجي الذي يجتهد برد كل شيء الى اصله، وعندما يكون المقروء هو التراث العربي الاسلامي، فأن مهمة القراءة تنحصر حينئذ في رده – التراث العربي الاسلامي – الى اصوله اليهودية والمسيحية والفارسية واليونانية والهندية). 5

3.المنهج او القراءة الماركسية للتراث التي تعتمد الجدل كمنهج في البحث والتحليل، وان التراث العربي الاسلامي، كبنية تاريخية، يعتملها الصراع بين مصالح الطبقات المتناحرة، كما يجب محاكمة التراث بمعايير العلم المنهجية في تناولها جميع قضايا التراث، وبقي المنهج الماركسي في قراءته التراث متمسّكا بكلاسيكية ثنائية المادية بالضد من المثالية، وجدل الصراع الطبقي في بروز المراحل التاريخية، وهذا المنهج هو ايضا يقود الى سلفية ماركسية في محاولتها تطويع الواقع لمقولات التنظيرالجاهزة، وابرز ممثلي هذا التيار من المفكرين هم، حسين مروة، والطيب تيزيني، ومحمود امين العالم، ومحمد عيتاني وغيرهم عديدون.

4. المنهج التوفيقي الذي يحاول اعتماد (وسطية) تخدم نقد التراث بما يحتمله كي لا يضيع، وربطه بالمشروع النهضوي القومي (ايديولوجيا)، وهذا المنهج دأبت التنظير له غالبية القوى والاحزاب التي حكمت اقطار الوطن العربي بعد ثورات التحرر الوطني من الاستعمار، والتي رفعت شعارالوحدة و الاشتراكية العربية ايضا، ويعتبر المفكر محمد عابد الجابري بطروحاته النقدية الفكرية والفلسفية للتراث هو قمّة ما توصله هذا التيار فكريا - فلسفيا على يديه، بعد نهايته كانظمة حكم في ما عرف بثورات الربيع العربي 2011، انظمة مارست الاستبداد والاخطاء المصيرية القاتلة تحت شعارات الوحدة والاشتراكية التي كانت ابتذالا فكريا عاطفيا فاسدا لا يمتلك رصيدا من الواقع العملي التطبيقي غير الشعارات الفارغة التي الحقت الكوارث بالوطن العربي.

ورغم تبني مشروع الجابري النهضوي القومي، من قبل مؤسسة دراسات الوحدة العربية في بيروت، وهي مؤسسة غير حكومية مستقلة تتبنى ايديولوجيا القومية والوحدة العربية، الا ان هذا المشروع لاقى معارضة شديدة وصلت حد الشخصنة مع الجابري من قبل طيب تيزيني، كما لاقى نقدا لسنوات طويلة من لدن المفكر جورج طرابيشي في مسلسل تأليفي استهدف مشروع الجابري النقدي النهضوي بسلسلة من مؤلفات الرد على الجابري في جميع اطروحاته الفلسفية في مشروعه النهضوي العربي.

ماجد الغرباوي في مشروعه النقدي للتراث

مشروع المفكر ماجد الغرباوي الذي يعمل عليه بمثابرة هو مشروع ناشيء يحمل الكثير من افكار التجديد غير المسبوقة، ويمكننا وضعه بين مشروعي الجابري واراكون باختلاف منهجي عنهما.في نشدانه تاسيس مشروع نهضوي يتمركز حول نقد التراث الديني الذي يعتبر مجاوزة الانتهاء من حلّه كفيلا بوضع مسار النهضة على الطريق الصحيح في انطلاقته التحديثية.

مشروع الجابري الذي مررنا التعريف عنه قبل قليل، هو مشروع نقدي يتمحور فكريا على قراءة التراث ايديولوجيا من غير ابتذال، ينشد تحقيق ماعجزت عنه ايديولوجيا الاحزاب القومية وانظمة الحكم التي كانت ترعاه، في التثقيف على ايجاد وسطية توفيقية ناقلة لا تتنكر للتراث ولا تستهين بنقده ايضا، واعتبارها التراث ذاكرة تاريخية وهوية مميزة للامة، لا يمكن مجاوزته او الاستغناء عنه، كان المشروع هو ايديولوجيا البرجوازية الصغيرة في نشدانها تحقيق وحدة الامة واشتراكيتها، الذي انتهى مع سقوط انظمة الحكم الاستبدادية التي كانت ترعاه وتحتضنه، بعد احداث الربيع العربي الذي اطاح بتلك الانظمة الفاسدة. واعقبه بروز ما سمي حينها الصحوة العربية الاسلامية بكل تطرفها وهمجيتها وسفكها الدماء (صفحات القاعدة وداعش) وغيرهما من الحركات الدينية الارهابية المتطرفة. خلاصة ومرتكز مشروع الجابري هو نقد (العقل العربي)، معرفيا وفلسفيا وحضاريا.

اما مشروع محمد اراكون فمرتكزه الاساس يقوم على نقد (العقل الديني) الاسلامي، ومن هنا فهو لا يلتقي مع مشروع الجابري في النقد الايديولوجي العروبي القومي، وينطلق اراكون في نقده من منطلقات استشراقية صرف، ويدعو اعتماد نفس الآلية التي حققت اوربا نهضتها بها، في اعتماد اول مراحلها في حركة الاصلاح الديني التي ستكون مبتدأ ونهاية كل نهضة عربية منشودة.

نعتقد ان اراكون أصاب تشخيص الانطلاقة النهضوية بكل دقة ولكنه أخطأ المنهج، اذ كانت وسائل تحققها لم تكن موفقة في اعتماد المنهج الاوربي الاستشراقي النهضوي، وحتى في محاولته الاستفادة من المناهج الحديثة في المعرفة والفلسفة كما في البنيوية والتفكيكية وبعض اطروحات ما بعد الحداثة الاوربية والفرنسية منها على وجه الدقة.

اين موقع مشروع الغرباوي من هذين المفكرين؟

الغرباوي لم يعتمد المنهجية القوموية التراثية (الجابري)، كما لم يعتمد المنهجية الاستشراقية (اراكون)، بل طرح مشروعه في نقد العقل الديني الذي هو مرتكز ومفتاح الحل في اشكالية التراث مع المعاصرة كما سبق وطرحه اراكون، لكن الغرباوي تحاشى المنهج الاستشراقي الذي اعتمده اراكون، واعتمد نقد نص التراث الديني الزائف تحديدا، بوسائل فهم ومراجعة التراث بادوات الاصالة والانتماء الحقيقي للتراث غير المشوّه والمنحرف الذي يتوجب الحفاظ عليه كمرتكز نهضوي لا غنى عنه بعد ازالة الانحرافات والاعاقات التضليلية التي طرأت عليه، فكانت ابرز معالم تلك الرؤية النقدية كالتالي:

- التراث فهم بشري يمكن تفكيكه وتحليل مقولاته، غير ان الضرورات المرجعية للمذاهب المتصارعة نأت به عن النقد والمراجعة والتشكيك، عندما وضعت حوله اسيجة رسخته في وجدان الناس رغم غرائبية ومصادرة واسطورية قدراتها المعرفية، فكرست الايدولوجيا منطق الاستعلاء والوصاية، بعد ان جردت التراث من تاريخيته وبشريته، وابقت على تعاليه وقدسيته، رغم انه ليس مصدرا للمعرفة القائمة على الدليل والبرهان دائما.6

- وبالتالي لا معنى للحديث عن نهضة حضارية، وثمة من يكتفي بالتراث مصدرا مطلقا للمعرفة، ارتكازا لهيمنته السحرية التي تتجلى في ديمومة حضوره وقدرته على توجيه وعي الناس بعيدا عن العقل.... بل لا معنى للعقل مع وجود نص ينتمي لعقل اسطوري كامل مصون، فالنص فوق العقل وفقا للوعي التراثي.7

- اقتحام اسوار العقل التراثي ومرجعياته وتفكيك خطابه، وتحليل مقولاته ضرورة للحد من توسع سلطة التراث على حساب العقل والمعرفة الحقيقية، فالتراث بما فيه الديني بكل نصوصه ورواياته وفتاواه لا تشكل مصدرا معرفيا حقيقيا لانها نصوص تاريخية وفهم بشري.8

- نحن بصدد نهضة حضارية، والدين يشكل مقوما ذاتيا لثقافتنا ويفرض علينا النص الديني الاوسع من الآية والرواية بما يشمل فتاوى الفقهاء وتفاسير القران... ومطلق التراث هو نتاج ظرفه الزماني والمكاني ومحكوم لمختلف المؤثرات الدينية والسياسية والطائفية، فكيف يمكن معالجة واقع لا يعرف عنه شيئا.9

- المسلم يخشى عقله وحريته، ويتشبث بعقول تاريخية ليتحلل من مسؤوليته، ويقبل منطق الوصايا والتبرير دون النقد والمراجعة، بهذا الشكل فقط تستقر النفوس المهزومة التي ادمنت العبودية الفكرية والعقيدية والاجتماعية والسياسية، انها محنة العقل التراثي ورثاثة العقل.10

جديد المفكر الغرباوي انه يدخل عبر نسيج المداراة التي اعتادت الدوران حول اشكالية التراث والمعاصرة في تقليب صفحات كثيرة جدا من تاريخ المتراكم التراثي كما فعل العديدون في تسويد عشرات المؤلفات التي عالجت نفس المواضيع التاريخية بنفس التحليلات تقريبا، اي ان غالبية المفكرين الذين نقدوا التراث في العديد من المؤلفات التي لم تخرج عن دائرة النخبوية الفكرية في التناول البعيد جدا عن ضرورات تحديث حياة الناس مثلا في التعليم العلمي الحديث او في مجال الاقتصاد والاجتماع وغيرها، اذ لا زالت الجامعات تسودها السلفية الفكرية اساتذة وطلبة، ولا زالت دروس الدين في التعليم الابتدائي تفرض وتجري مباراة (التجويد) وتمنع دروس الموسيقى والرياضة، بموازاة اصدارات الكتب والمؤلفات في نقد ومراجعة التراث لما يزيد عن اكثر من قرن ونصف.

وعندما كان معظم المفكرين يتحاشون تسمية الاشياء بمسمياتها الحقيقية، ويدعون للكشف عن المسكوت عنه، او المحظور التفكير فيه، وغير المسموح مقاربته النقدية، نجد الغرباوي يضع عيّنات من تلك النماذج المحظورة على طاولة النقاش والمراجعة النقدية، بعيدا عن استقطابات الايدولوجيا والمذهبية الطائفية، وتيارات ومدارس الاستشراق الحديثة.

الحداثة والذات العربية

نستنتج مما مر بنا استعراضه، ان تحقيق مشروع الحداثة مرتهن بمركزية الذات العربية الانسانية ووجوب تعاليها النقدي على النص التراثي الديني والفكري، بمعنى تاكيد اولوية الحرية الفردية السابقة على فكرة التناول النقدي للتراث، وتاكيد اولوية واهمية الانسان العربي كغاية ووسيلة التحديث المنشود.

ان الذات العربية نجدها اليوم حالها حال ما قبل الف واربعمائة سنة خلت، عاطلة عن ممارسة الحس النقدي، مسلوبة الحرية في التفكير الحر المستقل، فاضاعت تعاليها المطلوب على الموروث الذي هو في غالبيته من صنع بشر سبقوا زمنيا، ولا دور للخالق فيه من حيث هو نصوص تشرح وتفسّر وتعتاش وفق مصالحها على الدين، وهذا كفيل في تغييب الشخصية العربية الناقدة لموروثها، وبمرور الوقت تجد هذه الذات نفسها، يخلقها الموروث الخاطيء ويعيد صياغة وتعليب افكارها كلما تقدم الزمن بها، فتصبح كائن تراثي حسب تعبير الجابري وليس ذاتا تمتلك تراثا لها حق التصرف به.

النص الديني الموروث متعال على الذات بقدسية زائفة يخلقها لنفسه ويخلعها عليه، وهو تعالي زائف لا يمت بصلة باصالة وفهم قيم الدين الحق.وتعود الاشكالية تتوالد من حيث انتهت وباستمرار في تغييب دور النقد والمراجعة بما يبطل في حال تحقق ممارسته سلسلة التساؤلات التي تفرضها ويتطلبها تقدم الحياة. ويكون غياب النقد الذاتي والقراءة المنفتحة وعطالته متشكّلا من القناعات في المتراكم المخطوء الجمعي الذي يجري في تشكيل الحياة سريان القانون المقدس، المترسّخ في العواطف والوجدانات والخرافات وحشو الاكاذيب.

ومن نتائج هذه الحالة اصبح عندنا نقد الذات للتراث تابو ومحرّم ليس بسلطة الحكم وايديولوجيته السياسية المتنفذة وحسب، ولا بسلطة التخلف والتضليل والتجهيل المبرمج، وانما من التلفيق المتراكم الذي جعل من الاكاذيب والخرافات باسم الدفاع عن التراث وحفظه، يقينيات مجتمعية لا يمكن تجاوزها وعبورها بسهولة، وارضية ترسيخ دائمي لكل ما يستحدث من الاضافات اليقينية الكاذبة على مر الايام.في تعطيل دور العقل في النقد الذاتي للتراث الزائف في المتراكم المتداول عبر العصور، والذي تشكلت الذات بموجبه، كملهم للتفكير المقيّد، في التوجهات والعواطف والاخلاق والسلوك المنحرف.

يمكننا القول ان المنقود الواجب اصبح اليوم ليس التراث بمقوماته الاساسية الاصيلة، وما يحمله من قيم معنوية تاريخية هوياتية تشكل مرجعية ثقافية حضارية لا غنى لنا عنها، بل انتقل النقد الى تفنيد وازاحة المتراكم الخرافي والتلفيقي الذي اصاب التراث باسم الحفاظ على التراث، اليقينيات التي اكتسبت صفة المقدس الطاريء في اللاعقلانية واللاتاريخية التي غيّبت كل القيم الاصيلة في التراث.

قناعات النص الديني المزيّف تستمد مشروعية سريانها الاجتماعي المضلل المتخلف بتعاليها باسم المقدس الديني في تحريم النقد في كل صوره واشكاله، فكيف يتسنى لنا دخول العصر والحداثة من غير تغيير واسقاط احد طرفي المعادلة الاشكالية التي تتقاذف مجتمعاتنا العربية عبر العصور، اشكالية غياب المنهج النقدي باسم تابو التحريم والتكفير من جهة، وحضور القناعات الخاطئة القاتلة اجتماعيا، القائمة على تسليم ايماني وجداني في غياب حياة الارض من اجل جنة السماء من جهة اخرى، وتبقى الاشكالية قائمة تتغذى الخرافة والتجهيل الايدولوجي المبرمج الذي لا يرى ولا يفهم الحياة بغير عيون الماضي وسلوكيات الانقياد له بكل رجعيته.

علي محمد اليوسف - الموصل

....................

الهوامش

1.محمد عابد الجابري، نحن والتراث ص9

2. نفس المصدر ص10 -13

3.نفس المصدر السابق ص11

4.نفس المصدر ص14

5. نفس المصدر السابق ص 15

6.ماجد الغرباوي، النص وميثولوجيا التراث، الحلقة 65 حوار مفتوح

http://www.almothaqaf.com/c/c1d-2/925927

7.المصدر نفسه السابق

8. المصدر نفسه

9. المصدر نفسه

10. المصدر نفسه