بأقلامهم (حول منجزه)

الطيب النقر: في الاحتفاء بمفكر بلاد الرافدين ماجد الغرباوي

هناك حقيقة واضحة معروفة، ليس إلى الاغفال عنها من سبيل، أن مؤلفاتكم المترفة، التي نتبادل فيها الرأي، وندير فيها الحديث، لا نستطيع أن ننكر منها شيئا، أو تضطرنا حتى للطواف حول مضامينها عدة مرات، لكي نستقصي مراميها، وأهدافها، فهي واضحة جلية، أقامها صاحبها على الخير المحض، وأقصاها عن الدنس المريب، لأجل ذلك طافت من بلد إلى بلد، ومن بيئة إلى بيئة، دون أن تعيقها عوائق، أو تتكلف عناء عظيما، لتحقق الغاية المنشودة منها، مضت مؤلفاتكم الجامعة لشتيت الفوائد، عالمنا الثبت "ماجد"، تطوف أقطار الأرض، لتدفع عن بابل، و مراكش، مصر، والسودان، الشر المستطير، ونحن إذ نظهر لها هذا الحب، ونخبرها أنها قد ملأت القلب فتونا،  لا لشيء إلا لأنها حاربت الجهل، وفضحت الزيف، وعالجت العلة، ولم تتورط في معرة الاستلاب لا عن عمد ولا عن غفلة، نظهر هذا الرضا، وهذا الإذعان لكتب أستاذنا "الغرباوي"، لأن صاحبها قد خاض في خطوب لست في حاجة إلى تفصيلها في هذا المقال، ولكني في حاجة لأن أعلم كيف احتمل هذه الخطوب؟ وكيف صبرها عليها؟ وكيف لم توهي صريمته مظاهر  الضعف والفتور، تلك الأسقام التي تعبث بنا نحن أصحاب الطموح الساذج؟.  لقد سارت كتب  "الغرباوي" في كل صقع وواد، لأنها  في الحق، تصور الوقائع للناس التي تألفها عقولهم، وتطمئن إليها أذواقهم، كما يقول عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين.

لقد احتفظت حقاً مؤلفات المفكر "الغرباوي" بطهرها ونقائها، ولم تتورط في خطايا انفصام الوعي، أو محاربة الثوابت، أو تقديس الرمز، أو اهتبال الأفكار، تلك الأفكار التي تدعونا للأخذ بهذه الحرية المسرفة، والتحرر من قيود التراث في غير ابطاء، وواهماً من ظنّ أن الأستاذ "الغرباوي"، ساخطاً على التراث، ناقماً عليه، فهو يعي أن التراث ضرورة لا مرد لها، ولا منصرف عنها، فالتراث الذي تظله الفضيلة وتسيطر عليه، يذهب أستاذنا "ماجد" ما شاء من المذاهب في مناصرته ومعاضدته والهتاف له، ولكنه يتردد، ويحتاط، ويتحفظ، على ذلك الضرب من التراث، الذي يثير في دواخلنا الشك، ويدعونا إلى شيء قليل من الريبة، هذا التراث الذي يحمل عقولنا على أن تظل جامدة هامدة، تسعى أسفار "الغرباوي" إلى دحضه، لأنه اشتمل على الخمول والجمود، وبث في مجتمعاتنا العداوة والبغضاء، ومنعنا عن البحث والاستقصاء، وتراثنا الغث الضعيف هذا، موجود دائماً، ومتصل بعقول الناس، الذي يحرصون على تمجيده، ويكرهون تقييده، إن النتيجة  التي انتهينا إليها بفضل هذا التراث، هو انحراف أمتنا عن حقيقة الدين الصافي، الذي يؤمن بسلطان العلم وتفوقه، ديننا الذي يزداد قوة وانتشاراً غداة كل يوم، أضرّ به هذا التراث الذي يدعو إلى العنف المنكر، والتسلط الذي لا يطاق.

و"الغرباوي" يسعى في الكثير من مؤلفاته لتحرير العقل من آساره، وأن يحملنا على أن نسعى لأن نقدم للإنسانية مزاجاً معتدلاً من الرقي والتطور، فالإنسانية تظهر ضيقها، وسخطها، واشفاقها منا، لأننا ننأى بأنفسنا دائما عن الجهد والجد والعناء، ولأننا لا نتكلف التفكير، ولا ننظر إليه إلا على أساس أنه تاريخ ليس غير، فالحقيقة المرة القاسية، أننا أمسينا لا نسعى لاستلهام أي لوناً من ألوان الفكر التي كانت سائدة في مجتمعاتنا القديمة، والتي تأثرت بها الثقافات الأجنبية، وأظهرت لها هذا الود، وهذا التقدير، وقادهم هذا الود، وهذا التقدير لمناهج فكرنا، لأن ينعموا في نهاية  المطاف، بهذه الحياة الوادعة المطمئنة، ونشقى نحن بجهلنا وحياتنا الضئيلة التي كلها بؤس، وكلها شقاء، لقد استفاد الغرب الذي يسومنا الذل والهوان الآن، من التفاتات ذهننا، وبلغ من هذا كل ما يريد، ثم استأثر بالأمر كله، بعد أن بذل كل جهد، واحتمل كل عناء، حتى يقدم للناس، كل الناس، نهضتة المترفة، وتطوره الرائع.

وحضارة الغرب التي منها الملتوي، ومنها المستقيم، يحدثنا عنها الفيلسوف والمفكر" الغرباوي" حديثاً علمياً عميقا، تلك الحضارة التي لها حظ من أدب، ونصيب من خيال، خضعت لعقل "الغرباوي" الهادئ الرزين، والهدوء قد يكون من أهم  خصال "الغرباوي" وأوضحها، فهو يدنو من القضايا التي تؤرقه، وتشغل تفكيره في الكثير من الرزانة، ثم يلتمس مظاهر القوة والحياة فيها، ثم يتعمق في البحث عن الأشياء التي تبقي وتيرتها باقية متجددة، والموازين التي يتكئ عليها الأستاذ الغرباوي" في دراساته الضافية، ليس العقل وحده، بل نجد الحس والشعور، والاغراق في القياس والمقارنة، والاسراف في الشك في بعض الأحيان، والسمة البارزة في مؤلفات الغرباوي" كثرة الأسئلة" التي يطرحها بين ثنايا كتبه، "فالغرباوي" يستمع منك، ويتحدث إليك، في حوار طابعه الجد، كل الجد، حوار لا تكلف فيه ولا صنعة، كما لا يفسده الاطناب والتطويل، أو الامعان في التفصيل، وأنا هنا أريد أن أقدم أنموذجا لتلك الأسئلة التي يطرحها "الغرباوي" في عنف والحاح، ثم يتكفل بالرد عليها في هدوء وتؤدة، يقول الأستاذ" الغرباوي" في أحد مقالاته الرصينة، نجده يطرح فيها أسئلة عديدة، ثم يسلط عليها بوارقاً من الضياء، وهي أسئلة  بل شك تخدم غايته من طرحها، وهي مفيدة بأدق المعاني التي تحملها تلك الكلمة وأوسعها،  يقول الأستاذ الغرباوي:"

أسس القرآن الكريم منهجا، حالت رمزيته العالية دون ادراك أبعاده، وظل المسلم يعيد قراءة آياته، وهو لا يفقه من معانيه شيئا .

فتحدث القرآن عن حوار دار بين ابليس وبين البارئ - تعالى -، ليؤكد لنا ثمة اسئلة مشروعة، من اي جهة صدرت، يجب الاجابة عليها (ولو كان الرب جلّ وعلا). كما نقل لنا القرآن الكريم، حواراً دار بين الخالق وملائكته، وهم كائنات صالحة، دأبها الطاعة، لكن هواجس خلق الانسان استبدت بها، فكانت هناك اسئلة طرحها القرآن الكريم ورد عليها، دون اي قمع او اضطهاد او تهديد، كل ما في الأمر، أجّل الاجابة بالنسبة لسؤال الملائكة، لأن طبيعة الجواب تحتاج الى تجربة عملية . ثم طرح القرآن الكريم أخطر الشبهات التي تهدد رسالته، وهي التوحيد، دون اي اكتراث، ونقل لنا اسئلة المشككين، والكافرين والملحدين، والناكرين، وناقشها علنا. قال هكذا كانت اشكالاتهم، وهذه اجوبتنا . فهل هناك أخطر من مسألة وجود الله بالنسبة للأديان جميعا؟ وما قيمة ما عداها لو اهتز الايمان بوجود الله - سبحانه - أو توحيده؟ فلماذا لا يستفز الأنبياء من اسئلة المنكرين، والجاحدين؟ وكيف وضعهم القرآن وجهاً لوجه امام تلك التساؤلات؟ . لماذا لم يعترض النبي ويقول له يارب، لقد اخطأت التوقيت، انها ستضعف دعوتي، وأنا في بدايتها؟ لماذا تقبلها وأعلنها على الملأ بكل ثقة ومسؤولية، ورد عليها، وفند حججها . اذن المنهج القرآني يقوم على شرعية السؤال، وحق الرد، ومنهجه قائم على طرح الاسئلة بشكل شفاف علني، كي يتحمل المسلم مسؤوليته امام اي عمل يقوم به، ويكون مسؤولا تجاه اي رأي يطرحه، لاستحالة قمع الاسئلة، ولا بد من متنفس تطفو من خلاله بحثاً عن اجوبة مقنعة . ولولا السؤال لما تطورت الحضارة"1. انتهى.

هذا أنموذج من بعض النماذج التي ينثرها لنا عقل "الغروباي" في كتبه، ومثل هذه النماذج كما أسلفت، شائعة في أسفاره وكتبه شيوعاً شديدا، ومثل هذه العروض تقبل الأخذ والرد كما نعلم، هذا ارهاصاً يدل أن "الغرباوي" لا يجد مضاً ولا غضاضة، في المناقشة، وفي نقد ما أيقن بصحته، وتلك مظاهر تدل على صفاء الطبع، وكمال الثقة،  وحسن الاستعداد، خصال قلّ أن نجدها في ذهنيتنا العربية المعاصرة.

حفظ الله صاحب الوعي المتميز أستاذنا "ماجد الغرباوي"، حامل لواء الفكر الناهض، ومدّ في أجله، وأترف عليه من مننه، وعوارفه، وفضائله.

***

د. الطيب النقر - كاتب وباحث سوداني

....................

1  - من مقال بقلم: ماجد الغرباوي، بعنوان: المثقف وتحديات السؤال

 ........................

* مشاركة (31) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10