بأقلامهم (حول منجزه)

منهج النص في سؤال الحقيقة.. قراءة في فكر ماجد الغرباوي (2)

الجابري كما قلت صاحب مشروع عربي نهضوي افنى عمره في الاشتغال عليه، وقال كلمته للتاريخ بضمير نقي وقلب نظيف، ولم يكن ناقدا ادبيا او ثقافيا مثل طرابيشي الذي لم يتحمّل اية مسؤولية فكرية نهضوية في معاداته الجابري كمفكر موسوعي وليس مشروع الجابري فقط، ولا بد لي مضطرا ان اعرض بعض السمات الفكرية لمشروع الجابري التي سبق وان ذكرتها في مقال نشرته لي المثقف بعنوان (نحن وسؤال الحداثة في الفكر العربي المعاصر، الغرباوي نموذجا) اعرضه هنا في تلخيص شديد بالتالي ارجو ان لا يكون مخّلا :

 مرتكزات مشروع الجابري الثلاث هي:

1- المراجعة النقدية الصارمة للمشروع العربي الذي بدأه جمال عبد الناصر بداية عقد الخمسينات من القرن20، وانتهى سياسيا في ثورات ماسمي بالربيع العربي 2011م الذي بعد التخلص من الدكتاتورية تم تسليم الحكم في البلدان العربية المحررة من الاستبداد الفردي الى منظمات الارهاب الاسلامي على طبق من ذهب، لتقوم بكل وحشية في تجميد الفكر الديني اكثر واذاقة الشعوب العربية من الظلم ما لم تره عين ولا سمعت به اذن التي تنفذت فيها قوى الظلام والتكفيرالارهابي ولا تزال في بعض الاقطار العربية تامل في اقامة دولة خرافة تقوم على جماحم الابرياء وسبي النساء، وترمل النساء وتشرد العوائل والايتام والكثير بما لايسعه المقال.

الجابري في العودة الى مراجعة ونقد تجارب ايديولوجيا المشروع العربي القومي الفاشل الذي بدأه عبد الناصر وقامت عليه القيامة ولم تقعد في التآمر الامريكي – الصهيوني عليه ومعهم غالبية الحكام العرب، لم يكن يتطلع الجابري الى نشر الغسيل المؤلم في التاريخ العربي ولم يتشفّ بتذكير العالم بنكسة المشروع العربي النهضوي في العام 1967، كما فعل معظم مفكري و ادباء ومثقفي وشعراء الشام سوريا ولبنان بلا استثناء، ان يلعب الجابري لعبتهم ويبني لشخصه امجادا زائفة كغيره، في التلاعب بمشاعر الناس وعواطفهم القومية في محاولة تعميق نقمة لاتجدي او تمجيد حقبة تاريخية مدانة في حكامها وسياسييها وليس في مبادئها واهدافها، وكان الجابري يرى اكثر مما لا يعدّون انه لا مشروع نهضوي حقيقي غير افتعالي ولا استهلاكي لا يقوم على نهضة الامة العربية الاسلامية في مجمل خصوصياتها ومميزاتها، الا بالتسليم بحقيقة تاريخ العرب المسلمين، انه كما كان فيه مكامن ضعف وعيوب كبيرة ومتعددة، كان هناك ولا يزال ايضا فيه تاريخيا وتراثيا مكامن قوّة ومخزون حضاري يصلح اعتماده في تحقيق نهضة عربية معاصرة.وان المشروع العربي الاستبدادي اذا ما انتهى كتجارب حكم فاشلة فهو لم ينته كطموح عربي شامل في وجوب تحقيق نهضة عربية رشيدة حتى ولو بعد اجيال من تاريخ نضوب النفط العربي وانتهاء التمايز والتفاوت المالي بين اقطار عربية متخمة واخرى تتضور جوعا، ولا بد ان يعود العرب الى تحقيق نهضة تقدمية تجمعهم بحكم التاريخ اكثر من فرض تنفيذ رغبة او عدم رغبة الحكام العرب في مستقبلهم المنظور او غير المنظور، فلا يشهد تاريخ شعوب العالم موت تطلعات امة تريد العيش بكرامة ان دفنت احلامها، بدفن بعض قادتها ممن لم يحسنوا قيادة امتهم واضاعوا عليها فرص اقامة نهضة حداثية خاصة بهم .

1- دعوة الجابري في مشروعه النهضوي العودة الى التراث العربي تحدوه غاية وهدف انصافه لا زيادة تجريحه واماتته لما يحتويه من ذخائرحيّة فيه لم تمت بعد ولن تموت لان هذه المميزات تمثل الوجود المادي للامة قبل الوجود المعنوي الحضاري لها، وقال الجابري في احد عباراته الشهيرة ما معناه :علينا ان نكون اصحاب تراث نملكه و نقوده نحن ونعدّل به ونضيف له، وان لا نكون كائنات تراثية يسحبها الدين وراءه تابعين في تمجيده والسير خلفه كعبيد . اراد الجابري تأكيد ان الامة العربية تمتلك ارثا حضاريا واسعا جدا، ولا يمكن ان تفقد ثقتها بنفسها، وليس الاسلام عماد ذلك التراث الغني وحده، بل تصل جذوره الى حضارة وادي الرافدين في العراق، وفي مصر الفرعونية وحضارة سبأ في اليمن ودلمون في البحرين. ونحن مع كل هذا وكما يذهب له الغرباوي لاننقد الدين بما هو مجرد تكوين اصيل في تشكيل الوجود العربي، لكننا نركز اهتمامنا بنقد وتخليص الاسلام مما الحق به بعض المنحرفين من عنف وهمجية وتدمير هي ليست من صنع فكر النص الديني المقدس، وانما هي من تراكمات الانحرافات الموروثة المتجذرة في العقلية والسلوك الفكري الديني المنحرف، ومثلها في الاجتهادات المتزمتة التي عفا عليها الزمن وحان وقت تنظيف الجسم الاسلامي منها.

2- دعا الجابري في مشروعه النهضوي الاستفادة من مناهج الحداثة الفلسفية الغربية المعاصرة، و كيف استطاعت اوربا الخروج من ظلمات القرون الوسطى، لكن دونما اهمال الحذر ان لنا خصوصيات كأمة عربية اسلامية، ربما يجهلها الغربيون او يتجاهلون عنها، وفي خير تحذير طبقه الجابري على نفسه قبل غيره هو رفضه البنيوية ان تكون منهجا فلسفيا ومعرفيا مسعفا وملائما لنا في مراجعة ونقد تراثنا، وبقي امينا حريصا في كل مؤلفته على الاصالة العربية الاسلامية كجوهر لا يندثر ولا يموت في ضمير ووجدان العرب يتوحب عليهم وحدهم ايجاد حلول مشاكلهم الكبيرة التي تعيق وجودهم العصري الحضاري.

جورج طرابيشي ونقد النقد

ارى ان مصطلح نقد النقد في كل مجالات الادب والمعارف هو وسيلة ارتزاق ثقافي لمن لايمتلك شيئا جديدا يغني اصل النص المنقود برؤى تضيف له تخليقا ابداعيا يثريه. فنقد النقد ليس تفنيدا سلبيا لمقولات نصّية بحيث لا يجشم الناقد نفسه اكثر من تسجيل هوامش سطحية في تخطئة بعض فقرات النص الاصل وسحب سلبيتها التلفيقية على الكل.واجد في نقد النقد المتطّفل المتسوّل على من كتب وقال الكثير مثل المفكر الجابري، وهذا مدخل ينطبق على جورج طرابيشي الذي لا يمتلك شيئا غير النقد الادبي، وسوى اعادة قراءة الجابري ومؤلفاته من مصطلح نقد النقد في بناء امجاد فكرية زائفة لم يفلح النقد الادبي تحقيقها له.، وهو غائب في محل اقامته بباريس متناسيا هموم سوريا ولبنان ولا نقول هموم الوطن العربي الذي ربما كان تمذهبه الديني المسيحي يجعله خارج الانتماء الوطني العروبي بعكس الملايين من المسيحيين الشاميين وغيرهم من الذين وجدوا وطنيتهم العربية الحقيقية في تعايشهم مع جميع اديان وطوائف الوطن العربي معتبرين انفسهم اصحاب وطن لهم ماعليه وله ماعليهم سواء مع المسلمين او الدروز او غيرهم.

على كل حال ماقام به طرابيشي في التطفل الكتابي على مؤلفات الجابري يدخل في باب الاعتياش السلبي على مؤلفات وكتابات الجابري تعليقا وتجريحا في استعراضه قوة ليس في وقتها ولا في مكنها ولا حتى في ادنى اهدافها الوطنية، وليس لديه اي اضافة فكرية تحسب له في باب النقد على النقد، اوالتجديد وتقديم الافضل في نقده مؤلفات الجابري في نقد النقد. وفي مثال كتاب طرابيشي (نقد نقد العقل العربي) جال وصال طرابيشي في استعراضه عضلات النقد الاعتياشي التسوّلي في محاولته تهديم المشروع النهضوي العربي الذي وضعه الجابري في مؤلف واحد من سلسلة مؤلفاته تجاوزت خمسين مؤلفا هو (نقد العقل العربي) تناولت جميعها محورا مركزيا غاية في الحيوية هو مراجعة مسؤولة وثقافة بحثية موسوعية يعود الفضل لمن ابتكرها وقدمها في مجلدات في التاليف هو الجابري وليس كتّاب هوامش نقد النقد.

 ان الذي يضع على النقد نقدا اولى به ان يعطي البدائل التي تفتح امام القاريء افاقا او رؤى اهملها المؤلف صاحب النص المنقود وليس صاحب النص الهامشي لناقد نقد الاصل النصّي، ولا يهدينا غير معاول الهدم لكل بنيان مهما كان كبيرا او حتى متواضعا يضعه المفكرون العرب للخروج من حجرهم الحضاري الغربي الاستشراقي عليهم، و في محاولة الافادة من اخطائهم وبناء مرتكزات نهضوية لهم.

ادعو كل مثقف عربي اطلع على خرابات معاول الهدم الطرابيشية في مؤلفاته النقدية وكتابته هوامش استهدافه مشروع الجابري العربي النهضوي، وتسخير كل امكانات داعميه من دار نشر الساقي الى الداعمين خلف الستار في تجييشهم كل الامكانات المتاحة لديهم في النيل من الجابري كمفكر ولمشروعه العربي النهضوي، كمشروع تحديث عقلاني متزن بطروحاته التي أجمل الجابري في بحوثه ومؤلفاته ومقالاته وندواته كل مناحي التردي في الحياة العربية، مع اعطاء بدائل حلول للمشاكل التي يطرحها.الجابري في مجموع انجازاته الفكرية الموسوعية والفلسفية كان صاحب رسالة تاريخية اراد توصيلها بكل مسؤولية ونظافة ضمير لكل عربي على الارض العربية، الجابري لم يكن مثل غيره يتفلسف على لا شيء في محاولة استعراض سعة فكره والمامه بالتاريخ العربي ودقائق الفلسفة العربية الاسلامية.

من يقرأ مؤلفات طرابيشي في ممارسته التهديمية نقد النقد في استهدافه تقويض وتشويه ما اراد الجابري اقامته وتشييده، يجد ان مرجعية منهج الهجوم على منجز الجابري يغتذي من خلفية استشراقية تبناها والى اليوم من المفكرين العرب غير المسلمين العديدين، في دأبهم الذي لا يكل ولا يمل من تأجيجهم عقدة النقص التي تلازمهم انهم اقليات دينية مهمّشة، مظلومة وينبري من بينهم المتشّفين في انتكاسات العرب التي سببها نعرة اسيادهم المستعمرين من الفرنسيين والانكليز واخيرا الامريكان واسرائيل، الذين يجعلوهم يضعون قدما على الارض العربية، واخرى في بلاد المهجر الوطن الام وخدمة مراميه واهدافه الخبيثة المريبة بكل راحة ضمير وانتساب يقوم على دعارة الفكر والجسد.

ان ابسط مقارنة بين الرجلين الجابري وطرابيشي، وان كنت اراها مجحفة بحق الجابري تظهر مدى قوة وايمان وصبر الجابري في عدم الرد على جورج طرابيشي في ممارسته نقد النقد الاستفزازي له شخصيا كمفكر، نقد تجريحي تهكمي غير منصف بحق مفكر لم يستجد الاقامة السياحية لافي فرنسا ولا في اي بلد عرضت عليه استقباله بتكريم، ورفض كل الجوائز المالية من البلدان العربية وغير العربية وعاش الرجل الفيلسوف ومات ودفن في بلده المغرب العربي، ليكون بذلك من قلة من المفكرين العرب الذين تطابقت حياتهم مع افكارهم في ضمائرهم وفي سلوكهم المشرّف الممتليء عزة نفس وكرامة، ليس كما فعل جورج هو وامثاله من عرب الكدية والتسوّل في مسح اكتاف من يذكرهم عند ولي نعمة يكرمهم بزاد المهانة، وسلخ معظمهم اكثر من ربع قرن من اعمارهم مغتربين بعيدين يسمعون اخبار وكوارث بلدانهم كغيرهم من الاجانب. وينظّرون من اجل انقاذهم من مرابع الحضارة الاوربية.

بين اركون والغرباوي

كنت اشرت في مقالة لي على صحيفة المثقف، ان المفكرين محمد اركون وماجد الغراوي يلتقيان في معالجتهما اشكالية الفكر الديني الاسلامي وتعالقه المعيق المعرقل لحداثة عربية منشودة، وان الاصلاح الديني يعتبر المرتكز والمحور الاساس، في اقامة نهضة عربية اسلامية مستدامة ارادها الغرباوي كما سلفه الجابري عربية اليد واللسان.

لا شك ان الاصلاح الديني كان الشغل الشاغل لرواد مفكري عصر النهضة العربية منذ القرن التاسع عشر، في التزامن مع الانبعاث العروبي القومي للتخلص من هيمنة الاستعمار الكولونيالي الغاشم وقبله الهيمنة العثمانية التركية على حكم الوطن العربي والنزاع بينهما للسيطرة على ثرواته.من هؤلاء المفكرين الاصلاحيين نذكر : (الافغاني، الطهطاوي، محمد عبدة، علي عبد الرازق، رشيد رضا وغيرهم من مفكري مصر لوحدها) يشاركهم مفكري المغرب والمشرق العربيين بما لايمكن حصر اعدادهم من القدماء والمحدثين المعاصرين.

اركون كمفكر معاصر وضع اصبعه على الجرح القديم الجديد في وجوب اعطاء الاصلاح الديني الاولوية في وضع نقطة ارتكاز انطلاقة نهضة عربية حضارية واسلامية في الوطن العربي. واشتغل بخلاف الجابري على اهمية (نقد العقل الاسلامي) وليس العربي، في تحقيق انبعاث نهضوي. وبحكم الاقامة الدائمية لاركون في باريس على العكس من الجابري طرح اركون مبتدأه في الاصلاح الديني كما فعلت اوربا في سلسلة ومراحل بناء نهضتها بداية القرن الثامن عشر لتحصد اولى ثمار نهضتها في القرن التاسع عشر بفصل وصاية الكنيسة الكاثوليكية عن التدخل في الحكم والعلم وشؤون الحياة المجتمعية للناس. بمعنى ادق ان اركون اراد تطبيق التفكير الاستشراقي الاوربي وتحديدا الايطالي في ارهاصات النزعة الانسانية التي انطلقت منها في القرن الرابع عشر قبل انتقالها الى فرنسا ومن ثم دول اوربا قاطبة. وكذلك منهج الاستشراق الفرنسي ايضا كمنهج دلالي تاريخي متدرج مرت به انطلاقة الحضارة الاوربية في الثورة الفرنسية 1789م. في محاولة اركون معالجة اشكالية الفكر التراثي الديني عندنا وتقاطعه في كل شيء تقريبا مع معطيات العصر والحضارة العالمية.

في هذا التمّفصل طرح الغرباوي مشروعه في نقده الفكر الديني واصلاحه كمحور ارتكاز في تحقيق انطلاقة تحديثية لكنه باختلاف ان المنهج الاستشراقي لا يقود الى اصلاح فكري ديني عربي مشبّع باشكاليات تدفن معها منهج الاستشراق والهدف الفلسفي منه في مقبرة المحاذير العدائية الاجتماعية والفكرية المتجذرة عند العرب نتيجة مممارسات الاستعمار القديم بحقوق شعوبهم الانسانية المشروعة. ومن جهة اخرى ان شعار علمنة الحياة العربية برمتها سياسيا واقتصاديا وثقافيا واجتماعيا، ليست من السهولة مقارنتها مع علمانية الغرب التي حققتها فرنسا منذ عام 1905م. لذا وجد الغرباوي نفسه وكذلك مؤهلاته الفكرية الدينية التخصصية بحثيا واكاديميا اقرب الى اتباع منهج يقوم على (اهل مكة ادرى بشعابها) في نبذه المنهج الاستشراقي في تنفيذ نقده الفكري، وفي تحاشيه اللقاء غير المجدي مع مشروع الجابري القومي العربي الذي تمليه على الغرباوي مشروع الاسلامية الحضارية من خلال اصلاح الفكر الديني اولا وقبل كل شيء. بعيدا عن كل من نزعتي القومنة العروبية ونزعة التمذهب الديني السياسي.

 من الحقائق التي ارساها اركون بوضوح ان بداية النهضة العربية تنطلق من انجاز مهمة الاصلاح الديني، كانت موفقة في تشخيصه الداء ولم يوفق في ايجاد منهجا سليما يحقق به غرضه. هذه فرادة فكرية تحسب لاركون لكنه اعدم هدفه الحضاري النهضوي في تمسّكه بمنهج ومصطلحات الفلسفة الفرنسية في البنيوية والتفكيكية في محاولته الباسها مشكلات الوطن العربية بهدف معالجتها. بل اركون كان مخلصا ومقتنعا ضرورة مرور الامة العربية بنفس المسار التاريخي المتدرج الذي مرت به اوربا وحققت بالتالي نهضتها الحضارية بداية القرن19. وهو ما افاد الغرباوي منه كثيرا في تقاطعه مع اركون في هذه النقطة تحديدا.

 الغرباوي وتفكيك النص

على العكس من متبنيات عديد من المفكرين العرب المعاصرين الذين يتلقفون منتجات الفلسفة الاوربية في معالجة النص العربي عموما فلسفيا، وتحديدا في تكريسهم ما يطلقون عليه اشكالية اصل النص في تكريس البنيوية له كسلطة ومرجعية لا قيمة لها من بعدها لأية مرجعية انسانية او ميتافيزيقية او تاريخية وغيرها، بخلاف ذلك جاءت تفكيكية دريدا مصادرة ان اصل النص الذي عماده (اللغة) لا يمتلك اية مرجعية تجعله مصدرا في محاكمة الافكار الفلسفية والجدوى المعرفية منها.

عمد الغرباوي كي لا تكون منهجيته في تفكيك النص الدينية نتيجته الخروج كما في التفكيكية عن اية حالة ثبات مرجعية يتطلبها البحث في تكريس منطلقات فكرية جديدة واجب اعتمادها. لذا اعلنها صريحة: (اني لست مع التفكيك – يقصد في مفهومه الفلسفي- غير اني اسعى لاقصى ممكنات الغوص في اعماق الظواهر الاجتماعية والدينية لا دراك الحقيقة، وتقديم قراءة موضوعية تناى عن المراكمة فوق ركام الخراب المعرفي ودوامة التخلف) ص10 من كتابه.

المتابع لكتابات الغرباوي يجد ان فهمه لتفكيك النص الديني لا تقوم عنده على التزام فلسفي سوى دأبه المتواصل وتنقيباته الحفرية في بطون التراث الاسلامي لوصول هدف حقيقة الاشياء والحوادث التاريخية، لا كما حدث ووصلنا تاريخيا مدرسيا تراثنا العربي الاسلامي خاليا غالبيته من كل صدقية يحكمها العقل النقدي التاريخي، وكذلك نقد الفكر الديني الحصيف، ولا من حيث كان يتوجب ان تكون معظم مواريثنا الحضارية في مسارها الصحيح وتجنيبها المجتمعات الاسلامية تبعات الاخطاء المتراكمة المبنية على وقائع زائفة كلفتنا دماءا وكوارث لم تكن لتحدث لو كانت الشخصيات المسؤولة عنها تاريخيا التزمت حقيقة الدين وليس شهوات الحكم والسلطة، وتغليبها امور دنياها على موعود دينها.

الوجه الّآخر الذي ابتغاه الغرباوي في نقده النص الفكري الديني وتفكيكه ليس في الوصول الى فائض قناعات اخرى بديلة تمتلك مصداقية قبولها العقلاني والمنطقي حاضرا بما يلغي اصل النص بالتعبير الفلسفي، وانما كان اهتمام الغرباوي منصبا لاعادة حضور جوهر النص الديني في قدسية بكارته من التحريف، قبل تدنيسه وتشويهه بالاكاذيب والدسائس والحيل التي جعلت من اصل النص مدفونا بالحياة قبل الممات مجردا من كل فاعلية او حضور ديني مجتمعي اخلاقي .اراد الغرباوي اعادة حرمة وقدسية النص الديني المستمدة من وحي النبوة المؤمن بها، الى حضوره الفاعل في الحياة العربية الاسلامية التي تفهم التدين اليوم اسلاميا قائما بالاسم، ومغيّبا غائبا في التجنّي عليه في ممارسة العنف والقتل والذبح والسبي والهمجية التي تغذي الاختلالات العقيدية والدينية والاخلاقية التي تسوس و تسود مجتمع قطيعي لا يفهم من الحياة اكثرمن مفردتي جنة ونار.

الغرباوي لم يقم بتفكيك النص الديني من اجل تحقيق غايات فكرية فلسفية تضاف الى اصل النص، وتكون قراءة جديدة تضيف هوامش عليه لا في رغبة محاولة تفكيك النص من اجل كشف اللامعلن المستور فيه، كما ان اختلاف تفكيك النص عنده، في التزامه حكمية النص الديني عليه دون النص الادبي ولا الايديولجي او الفلسفي لا تماهيه رغبة اعدام النص الاصل كما في فلسفة التفكيك. بل يعمد تفكيك الغرباوي للنص الديني ليس كتابة هوامش نقدية له ولا في محاولة اغتيال اصل النص كما في الفلسفىة في تعطيل مرجعيته الفكرية التداولية، بل في محاولة تثبيت اصالة النص الديني المقدس بيقينيات عقلانية نظيفة، وليس محاولة تفكيك النص فلسفيا بغية تضييعه في تضاعيف الالغاءات المتتالية عليه.

ان مشكلة الغرباوي مع الفلسفة في التفكيك ان النص الادبي او الفلسفي او المعرفي يتقبل القراءات الصعبة اللغوية التجريدية التفكيكية التي تتربص به في تعطيل فاعليته التداولية كمرجعية وثوقية ثابتة. بينما يكون تفكيك النص الديني لا يلتقي مع هذا النهج من الالغاء الفلسفي، لان الناقد هنا تحجّمه قدسية النص الديني موضوع البحث امامه، بانه نص غير وضعي يطاوع الالغاءات المستهدفته.

هنا التفكيك في مفهومه العابر للتفلسف تنحصر كل محولاته ومجهوداته في الوصول الى قراءة جديدة للنص له بعد تخليصه وتشذيبه من جميع المراكمات التي استهدفته بالتغييب ليس اللغوي كما في الفلسفة، بل بتغييب وعطالة دوره في الفهم العقلاني الصحيح غير المّحرف له، في فهم المسيرة التاريخية الدينية في حقائقها المغيّبة.

مشكلة النص الديني الذي يتأبى على التفكيك الفلسفي تتأصل مرجعيته التي يرفضها التفكيك اللغوي، من طبيعة النص الديني المضمونية كمقدس ديني وليس في مشكلته الشكلانية اللغوية فيه، النص الديني قدسيته المستمدة من معصومية القران لغة ومضمونا تحديدا، لا يمكن ان يطاله التفكيك بالتغيير او التلاعب به لغويا ولا مضمونيا، بل يطاله التفكيك بمعنى حاجته الى التحرر من سجن الخرافات والاوهام والانحرافات التي طرأت عليه باسم الحفاظ عليه.ولا اعتقد هذه الحقيقة البحثية غابت عن تفكير الغرباوي وفهمه لمعنى واختلاف التفكيك في النص الديني عنه في النص الادبي او اوالفلسفي السردي.

استطيع الجزم ان تطبيق هذا المفهوم البجثي الفكري عند الغرباوي حاضرا، انه ليس سهلا نقد النص الفكري الديني من دون استحضار حذر مبدئي ان هذا النص يمتلك خصوصية او اكثر، فهو يمتلك (قدسية) الهية لا يمكن للباحث الاقتراب من النيل منها، لكن الاهم هو ان النص الديني استقطب يمرور الوقت وتوالي العصور، تراكمات من الخرافة والتشويه والانحراف الايديولوجي القصدي، في تداول المخطوء الدخيل عبر عصور التحقيب الزمني الطويلة في مرافقة اصل النص الديني الصحيح مع التنامي الذي اصبح تنامي هذا المتراكم الطاريء المضلل يخلع على نفسه يقينيات كاذبة على انه اصل ومرجعية النص الديني الواجب تقديم الطاعة العمياء له في تغييب وتناسي استحضار واحياء حراك النص القدسي الحقيقي في تصحيح المسار التاريخي المخطوء. ببسيط العبارة لم يعالج الغرباوي فكر النص الديني من منطلقات فلسفية تفرض نفسها على النص وهو في عدم حاجته لها لا شكلانيا نقديا ولا مضمونا فلسفيا كموضوع.بقدر حاجة الغرباوي كباحث نفض جميع المتراكمات الزائفة المغيبّة لاصالة النص الديني.

تجديد الفكر الديني لدى الغرباوي، ليست غايته خلق تنظير نسقي فكري ديني متجدد، لا يعتبر اصل النص الحقيقي وقدسيته مرتكزا محوريا وحيدا في ايجاد تفكير ديني محايث العصر والحداثة، ولا علاقة لهذا الفكر غير دوره في تحرير المنطلقات الفكرية القدسية الاصيلة من راهنية الحجر عليها بالزائف والخرافي والايديولوجي.

ان الاتيان بفكر تجديدي ديني يتحاشى المساس اصل النص المقدس، وانما التجديد كان عند الغرباوي التجديد في استهداف موروثات التداول الانسي الذي اتخذ صفة المقدس، لابل احيانا اخذ يزاحم التنزيل النصي المعصوم، وعن هذه الحقيقة يقول الغرباوي ص 16.

(لا يمكن اهمال مصدر النص عندما يؤسس لأي سلطة سياسية او دينية او اجتماعية او معرفية، لانه هو المعنى حقيقة لتحديد مستواها، فيكون جزءا من النص، وليس خارجا عنه، اي يجب قراءة النص بما انه كلام الله او قول النبي ليستمد منها حقيقته وسلطته. كما بالنسبة لرواية الخلافة في قريش او الامامة في قريش. التي غيرت مجرى الحداث يوم السقيفة، فما كان لها ان تؤثر كل هذا التاثير لولا نسبتها للرسول، لذا قلبت موازين القوى باعتبار قدسية النبي ووجوب طاعته قرآنيا).

والتاكيد الاهم في ذلك على لسان الغرباوي: (ان سلطة النص المؤسسة تتوقف على مصدرها ومدى صلاحيتة الوثوقية وقدسية ووجوب طاعته). ص17

اكتفي بهذا القدر على امل تناوله في مقال لاحق.

 

علي محمد اليوسف – باحث فلسفي / الموصل