بأقلامهم (حول منجزه)

عبد الستار نورعلي: ماجد الغرباوي والعقل التراثي

المفكّر التنويري والباحث ماجد الغرباوي غنيٌّ عن التعريف، فبحوثه ودراساته، وحواراته في مناقشة الفكر الديني، والمقدّس التاريخي، والأخلاق، والكمَ الهائل من التفسيرات والتأويلات المختلفة، وعلاقات كلّ ذلك بالعقل البشري، والعمق الزمني، وما استجدَّ من حقائق وتغيّرات في البنية العقلية الجمعية والفردية، وكذلك منْ خلال التطور الإنساني، وطرح أفكاره ورؤاه مستنداً الى علمه وخلفيته الثقافيه والدينية والعامة الغنية، وهو ما نجده في بحوثه ودراساته التي تحمل في طياتها موقفه العقلي التنويري في النظر الى هذا التراث الغزير، وبجدارة واقتدار، بحيث تصبح تراثاً فكرياً مضافاً ذا تأثير بالغ على المتابعين والمهتمين بالتاريخ الثقافي التراثي للأمة، وتداعياته وأثره البالغ في التكوين العقائدي والاجتماعي والفكري والأخلاقي والسلوكي، وإلى حدّ التطرف عند البعض، وإلغاء الآخر المختلف. وهذا الفكر التنويري عند المفكر الغرباوي في غاية الأهمية؛ فهو ماتحتاجه مجتمعاتنا العربية والإسلامية الواقعة في مركز اهتمام الصراع الأيديولوجي والسياسي في هذا العالم المضطرب، ونظرة هذا العالم تجاهنا وتجاه عقائدنا وقناعاتنا، وفي موقفه العام من الحضارة الإسلامية والعربية في عصورها المزدهرة.

لم يكتفِ الغرباوي بمنجزه الفكري الثقافي فحسب، بل خاضّ غمار الفنون الأدبية بأجناسها المتعددة، فقد كتب الشعر، بشكله الحديث، وهو ما يُسمى بقصيدة النثر، كما كتب القصة القصيرة أيضاً، وبإبداع ملحوظ. نلاحظ في هذا الجانب من منجزه الثقافي أثراً ممّا يكتنزه من ثقافته الفكرية الفلسفية والنفسية، ومن تخصصه الذي ذكرناه سالفاً. ولنا قراءة نقدية نُشرِتْ على صفحات صحيفته الغرّاء (المثقف)، وهي في قصيدته "مديات حلم". فهو مجاهدٌ بالكلمة، مثلما جاهدَ بالفعل، وكما قالَ نبينا الكريم في حديثه الشريف:

"مَنْ رأى منكم مُنكَراً فلْيُغيّره بيده، فإنْ لم يستطعْ فبلسانِهِ، فإنْ لم يستطعْ فبقلبهِ، وذلك أضعفُ الإيمان."

ومفكرنا الكبير ماجد الغرباوي مجاهدٌ بالثلاثةِ: فعلاً، وقولاً (الكلمة والكتابة)، وقلباً (الإيمان الصادق). وذلك مشهودٌ له. ومِنْ جهادهِ الكبير إصدارُهُ صحيفة المثقف الغرّاء (اللسان الناطق بالحقِّ والتغيير ونشر العلم والابداع الإنساني)، والتي أصبحت منْ أهمّ ركائز الثقافة العربية فكراً وعلماً وثقافةً وفنّاً أدبياً، إذ اجتمع فيها كبارُ المبدعين العرب في شتى مجالات المعرفة والثقافة والأدب، وبمختلف توجهاتهم الفكرية والسياسية والإبداعية. وما زالت الصحيفة تواصلُ مهمتها الكبيرة بنشاط وفعالية، دون كلل أو ملل أو تقاعس. وهذا بفضل ربانها المجاهد ماجد الغرباوي، بجهدٍ مشهود، وإصرارٍ معهود.

العقل التراثي

مِنْ طروحات المفكّر ماجد الغرباوي المُصيبة والدقيقة إطلاقه مصطلح (العقل التراثي) في الإشارة الى تقديس التراث كمرجع فكري سياسي اجتماعي اقتصادي، والاستشهاد به كمثال مُقدّس لتطبيقه على واقع جديد ينمو، ويتطور كلَّ يوم، بفعل عقلي يتجدد دائماً، وبتاثير الزمن المرتبط بالنمو العقلي الإنساني، والخَلْق البشري في إبداع ما يتناسب مع هذا التطور. والتقدّم التكنولوجي هو المثال والمعيار لديناميكية العقل. لكنَّ العقل التراثي الذي يرى الماضي مثالاً هو العقبة المانعة في مجتمعاتنا لمواكبة هذا التطور، ومنعه من الوصول الى مجتمعاتنا، في محاولة لكبحه، وتطبيق المثال التراثي على واقع بعيد في تطوره العقلي والتقني المؤثر. لذا نعيش هذا الصراع المُرعِب، الذي أوصل بلداننا الى ما وصلت اليه. لكنْ بالمقابل استلهام العِبَر من التراث، وفهمه بدقة عقلية، وفق زمنه هو اضافة تراكمية، كما أشار الغرباوي، الى المعرفة والدفع الى الأمام.

ولذا، من خلال المتابعة والرصد، نجد الكثيرين مِنْ حَمَلة التراكّم التراثي الذين ناضلوا في تقديسه، والعمل على تطبيقه في الحياة المعاصرة كمثال يحتذى به، وتأكيد على مصداقية ما يدعون اليه، والاستشهاد به وبنصوصه كحقيقة أبدية خالدة، حين تعمّقوا ودرسوا واستفادوا ثم أشغلوا عقولهم ومقارناتهم، وبحكم وعيهم المتقدِّم وثقافتهم الواسعة وعقولهم المنفتحة، وتربيتهم النفسية والروحية، أخذوا بالعقل النقدي والتشريح النصّي؛ ليصلوا الى قناعة الإيمان بالتطور العقلي الإنساني، وعليه التطور الحياتي فكرياً لخلق حياة جديدة اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، تتلاءم مع الزمن المُتغيِّر المرتبط بتغيُّر الفكر المناسب للواقع الجديد. وهذا خيرٍ لمجتمعاتنا والإنسانية؛ لامتلاك هذه العقول لخبرة المعرفة الواسعة فكرياً، والقادرة على الاستلهام والتفكيك لمرجعية العقل التراثي الساكن غير المتحرك. والأمثلة عديدة من هذه الأسماء التي انتقلت من التراثي المقدَّس الى التراثي المتحرِّك. وبالمقابل كان هناك المتحرك الديالكتيكي الذي تحوّل الى التراثي الساكن غير المتحرِّك، والدكتور محمد عمارة أحد الأمثلة.

فالنشاط الفكري النقدي للغرباوي، ومحاولته هزَّ هذا الساكن وتحريكه، هو مِنْ حسن حظّ الفكر العربي الإسلامي المعاصر. وهو جهد كبير، وجهادٌ بالعقل والفكر للوصول الى التنوير المُرتجى الذي يرفع الأمة مما هي فيه منْ كبوة.

***

عبد الستار نورعلي

 ..................................

* مشاركة (7) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10