بأقلامهم (حول منجزه)

حيدر عبد الرضا: دراسة في مدونة ماجد الغرباوي القصصية والشعرية

أسلوبية الترجيع الفردي في عاملية الأوضاع النصية

توطئة: تتشكل محاور العلامات في تجربة الكاتب والمفكر ماجد الغرباوي ضمن حدود أستقرائية تلتحم في صيغة قطبي (الترجيع الفردي - الأوضاع النصية) توصيفا للحد الاكبر من معنى وسياق أسلوبية الكتابة، التي راحت تتوافر إجمالا على مستويات خاصة من وصلات ووسائل متقابلة في الشكل والمضمون، وبالرؤى المتوفرة في مبنى موضوعات النصوص التي تمتلك في حالها الجزئي والكلي مسكونية ذائقة نوعية في الكتابة وقراءتها بأطوار حسية مخصوصة في المعالجة عبر مجال (القصة القصيرة -القصيدة) وهذه المكونات النصية لها من المؤشرات ما يجعلها تبدو كصورية تشكيلية ذات أوجه متقابلة في الاوضاع والاسلوب ومحاصل التكوين الدلالي، لها من التفاصيل والابعاد ما يجعلها تظهر وكأنها محمولات عضوية متداخلة في التدليل ونسيج الخطاب. أما في ما يتعلق مثالا ومجالية بناء القصيدة، فالأمر أكثر وأشد مواجهة من حيز حساسية الخطاب في القصة، ذلك لأن صيغة الدوال بدت أكثر إيغالا في الأستعارة المرسلة من ناحية كون البناء القصصي، هو عبارة عن وحدات تكونها مجموعة وظائف (خبر-تقرير- وصف- متكلم) وعلى هذا النحو وجدنا في حدود القصيدة ثمة مؤشرات خاضعة لجمالية البوح والتحسس، تدليلا على مواطن كيفية خصبة من الكم المثمر في الرؤى والأشياء وتراكيبها التلفظية ذات التأشير العلائقي في منظور التلقي لها.

- مؤثرات الشيفرة الشعرية في غواية الإيقاع الاستيهامي للسرد

لقد حاول الخطاب القصصي في نماذج أقاصيص الغرباوي، استثمار بعض من طرائق الموضوعة خواصها اللغوية التي تعتمد في ذاتها، على ذلك السمو بالإستعارة في مواقف اللغة الشعرية. فقد راحت أغلب أقاصيص تجربة الغرباوي، تستعين في أدائها بما يمكننا تسميته (الترجيع الفردي) الذي من شأنه توظيف الفرد العاملي في محاور ضمنية من النص، إذ يبدو الفرد من خلال موقعه التفيذي، وكأنه علاقة هلامية مخصوصة في الأجواء الاكثر تندرا في حدود (الشيفرة - جهة التواصل - الاوضاع النصية) اي بما راح يشكل في العلاقة السردية حالة ترجيعية بالأشياء والعناصر الأحوال التي تتضمن وجوده في المعادلات للحوادث بين الاصوات والوسائل المحيطة به كفردا مرجعا في غاية انفرادية من الذات العاملة ومعطياتها الإجرائية، لذا فعندما نقرأ قصة (هاتف الفجر) أو قصة (ذهول) يتولد لدينا ذلك الإحساس الانطباعي بأن معطيات النص تصب لذاتها علاقة ترجيعية حاصلة ومكتسبة عن وسائط ومؤثرات داخلية تخص افعال الفرد الشخوصي وحده، رغم وجود اكثر من حالة تماثل في مدار الخارج بصورة مؤكدة تجسيدا، ولكنه على اية حال، لا يظهر حالات الفرد الشخوصي الإ من جهة كونه علاقة ضمنية، يحتفظ مصدرها بكينونته ومحتواه كعاملية داخلية في نسيج الذات النصية. فمثلا نعاين هذه الوحدات الاستهلالية أنموذجا: (ادمنت قارعة الطريق، اتصفح وجوها كالحة، ترمق السماء تارة، وأخرى تنظر منكسرة / قصة -ذهول-) هذا الارتباط الضمني هو في حد ذاته لا يعكس هوية الترجيع الفردي، بقدر ما يعكس منطقة ترجيعية للصوت الفردي، وبخاصة في ما يتعلق والمجال الواقع بين قصدية المشار إليه وحالة الواصف ضمنا (ترمق السماء) وبين ذلك المؤثر الترجيعي الذي يقود الحركة العاملة بالصوت والإشارة الى مجال مرسلات الذات النواتية، دخولا في الإيقاع النفساني لها في الخطية الداخلية: (تنظر منكسرة) وهذا الأمر ما وجدنا لمثله في محددات قصة (هاتف الفجر) حيث تلك المسافة الخاصة من مضمرات الاستدلال والتي ترسم للأنا العاملة تلك الأشكال المتمحورة في ذاتها الأولى وفي مسار ذلك الترجيع الكامن لها في حدود تفكيك (هاتف - فجر) اي أن العلاقة الدلالية هنا تختص في بداهة المرسل العنواني، ثم بالتالي في تلك المرجحات الجهاتية (خارج- داخل/ نواة-ذات) اعتمادا على إرهاصات سيكولوجية من شأنها جعل الخطاب القصصي، وكأنه تكوينات مصدرها يتجاوز التوظيف الملموس للوقائع في الحكاية، وكأنها مناجاة حلمية الى مواضع مثالية وتطهيرية تتجاز الواقع العيني بلوغا نحو ذلك الواقع الميتافوقي، وقد جاءت بعض الأنساق في شكل مفردات تعبر عن جنوح التخييل عبر منعطفات معتمة: (كم أرهقتنا انفسنا بحثا عن معنى يشدنا إليها، متى ندرك أنها وهم مالم تغض قلوبنا حبا.. كم أخاف على قلبي.. أخاف على نبضة المتدفق حيوية) بهذا المعنى العرفاني، وجدنا اقتراب وابتعاد الشخصية من ذاتها قربا لذاتها، ولا شك في أن أمر خطاب السرد لدى الغرباوي، منطلقا من خلال تجليات فيوضية -ترجيعية، خلاصتها تكميلا لمشروعه الفكري النير، ولكننا حتى مع حوادث وحدوث ثيمات هاتين القصتين وأخريات ملحقات لهن، تواجهنا ذات القسمات من الوظائف الاسلوبية والبنائية وما تفرضة من تقانات حاصلة بالترجيع الفردي، الذي ظلت من خلاله الذات العاملة بالصوت والإشارة، فردا بلوغيا، يفلسف الوجود عبر مقادير ماهوية بالتوحد مع الملكوت الاعلى، بدءا من الذات نفسها وفي حدود منطقها ولفظها ودليلها الترجيعي للذات المسكونة في أسرارها وكلماتها المتوافرة في مستويات من التوحد والخروج من الذات بلبوس ذاتها ترجيعا وتكرارا. إذ يمكننا من جهة خاصة تشخيص حالات تقترب من مفهوم (التداخل الذواتي) اي بين الذات وحالاتها المراوية في عوارض انعكاسات الزمن والمكان ومساحات اخرى من دالات الوضع الترجيعي للذات العاملة بذاتها، إقترانا بمراتب الفضاء الداخلي وتوزيعاته الخارجية (الوقائعية - الحلمية- الترجيع الفردي) وعلى هذا الاساس تبقى أساليب ملامح البناء القصصي، كحقيقة محتملة في المبثوث الداخلي، اي في مستوى جملة موجهات وتماثلات تعتمد في مقاصدها الدلالية تلك الافاق من الترجيع الفردي كتبئيرات جوانية في الأداء وحركة التحفيز الوظائفي.

1- الفضاء الحكائي بين التداخل المرجعي وإيهامات المخيلة:

تحيلنا إثارات البحث النقدي والترغيب البحثوي في مجالات التقصي عبر أغوار الفضاء الحسي والأفعالي والوظائفي في مكونات المقروء الى ملاحظة المعنى وتقلباته الظاهرة والمتخفية وراء المنظور السردي بمؤشراته التفاعلية القابعة بين حدي (التداخل المرجعي - إيهامات المخيلة) حتى وجدنا اغلب استجابات الكتابة المطروحة في متون النصوص لدى الغرباوي القصصية تحديدا، تشكل في ذاتها استدعائية ما بالمقصود المرجعي الواقع ما بين السطور، اي ان اغلب توالدات السرد هي من الحواصل والوصلات المقتبسة بطريقة التناص من الموارد والكتاب المقدس، ناهيك عن كونها تشكل مبعثا اخر في ملامح مواضعها الأثيرة، إذ انها اظهرت بما يجعلها بوحا وتوصيفا متناغما، وقد لا يكون الأمر من باب الحدوث التواردي، بل من ناحية كونه تصرفا جعل من السرد متجاوبا في الثيمة والمقصود الشيفراتي وحدود هوية الإشارات والإحالات في مهام المصير الاوضاعي من النص، الذي بدورة لا يتجاوز سياق وقائع خاصة من مباعث إيهامية الاطياف المتوارية في حالات المرموز النصي. لذا فإن مجموع أقاصيص المدونة الخاصة بالقسم القصصي، هي حالات من اللازمن واللامكان واللاتحديد في إقرارات الواقعة الحكائية، غير انها من جهة ما تشكل في ذاتها حضورا لدلالات تشغل لنفسها الاحوالية مجموعة معادلات في مستوى التمثيل والفعل الوجودي المتوازن وماهية (الترجيع- التفريد) وصولا الى الحصيلة المتعالقة بين وحدات القص وتداعياتها الواقعة بين المتخيل والاستيهام المعادل في حسابات المعنى القصدي والتعددي الدال في الدليل المجمل.

- بلاغات الترجيع الحلمي وإمكانية المتفضل التشكيلي

في كل المستهلات والمقدمات الشعرية، يتصارع حدي (الماقبل- المابعد) أو ذلك التواصل الاستنطاقي لماهية العلامات المخاطبة لثنائية (خصائص اللغة- شعرية الحال القصدي) وما هو الشعر إلا خصائص وإشارات وملامح ملتوية ومزاحة من حصيلة التصور أو اللاتصور في بعدية المعنى الأكثر ملامسة لكيفية لغة التواصل للقبول بكليات البدائل والأوضاع المكثفة حسيا وصوريا في الاثر الجمالي المستحسن في ميزان الذوقي والافهامي (المعياري)، ومن النوع الذي يتطلب قدرا ومبلغا من التحاور والتنافذ والعزلة الصرفية التي تتعامل مع محبوكات النوع النصي بالترجيع والتفريد الذائقي. والحقيقة هاهنا تحفزنا الى قراءة نصوص القسم الاخر من تجربة الغرباوي الشعرية كتحديد تمفصيلي في سياق دراستنا هذه. أقول بادئ ذي بدء، أن طبيعة أشكال وتصورات ورؤى هذه القصائد، قد حلت في الجانب الاكثر عضوية مع حيثيات القصص لغرباوي نفسه في مدونته التي هي موضع دراستنا، فهي الوجه الاخر للموضوعة التي جاءت بها القصص، ذات العنونة، ذات الصلة والطابع نفسه، ولكنها أكثر جنوحا في فضاءات الموضوعة والتدليل والخطاب ذلك لكونها تجربة شعرية منطلقة عبر جناحان من المراد الاستعاري قصدا وبناء وأداة، اي من النوع الذي يؤهلها على صناعة شكلها الدلالي ذات التمظهرات المتعامدة وروح الوسائل البلاغية والاحوالية التي تتيحها جملة بنيات الخطاب الشعري، لنقرأ ما جاءت به قصيدة (هاتف الفجر) من تلوينات وآليات وحالات خاضعة في مؤشراتها الإجرائية والدلالية الى جملة مفاصل تتوزعها موضوعات وتبئيرات اتخذتها ذات القصص عنوانا ودالا وبوحا، وكأنها تسعى قدما الى عملية مسحية في الاستقراء ومعاينة محتوى الأوضاع في كلا الوضعين (القصصي- الشعري) :

هاتف الفجر

يتهادى حلما

ذهول

همسات لاهثة

تسمر الضوء

تمرد

تبتكرني الريح

شظايا

مديات حلم

حطام مسافات

مرايا حروف.

لعل هذا الفقه في الكتابة الشعرية المستغرقة في طيات الحدود والافاق، بدت وكأنها محمولات تشكيلية من دفاتر (الحلم- الفضاء- حساسية الخطاب) ما جعلها تستدعي ذلك الاستعداد الإمكاني في التحليق بكيفيات هواجسية تقدم للنص مساحات تتوقد في حدود المعنى والتمعن في غايات الرابط الدلالي المطروح في جنبات القول الشعري، كحالات عائدة ومكتسبة من افضية وخيارات ثنائية (معرفة الحسي- جنوح التخييل في رسم الاحوال) والغرباوي شاعرا، لا يقدم لنا المعرفة الإ في وسائط ومفاصل وتعالقات نوعية جعلت ترشح وتنتخب صناعة التخييل وفحصه للأشياء تحت مجهر الذوق والتذوق والمكين في إرسال حالاته الحسية إنطلاقا من القصد المحسوس بالدال الإمكاني ومساحة مضافة راح ينتجها التصور، كحالة وضعية من احوال القول شعرا في الصورة والدلالة وفضاء التنصيص بملامح الايحاء وأحوال الرؤية ذات الطابع والتطلع البرقوي. فالجمل الشعرية من هنا (هاتف الفجر.. يتهادى حلما..) هي بالمحصلة المتنية راحت تشكل ذاتها كممارسة استتاجية، ولكنها في محصلة اللحظة المقابلة، غدت وكأنها تداعيات ناتجة عن ملامح رؤية محالة في مرسلات القول المعادل (تسمر الضوء..تمرد..تبتكرني الريح = شظايا = مديات حلم = حطام مسافات = مرايا حروف) إذ تأتي الدوال اللاحقة، بما يزامن افعال القول وتداعيات الدلالات، تحديدا لغياهب جملة المستهل العنواني (هاتف الفجر) ليضاف في مرسلات الحال والاحوال، تجليات ممعنة في التصوير والكشف الاحتمالي في مقادير الحلم (يتهادى.. حلما) او ان التوقع المقابل للبرقية المركزية، حالة مخصوصة بالتوظيف المضمر والبرهنة، لذا فإن مجيء حالة وموصوف (ذهول) هي بمثابة الإبصار في توقعات الملامح القادمة وما تمليها عليها علاقات الاحوال مضاعفة في المرسل الوصفي. أنا شخصيا ارى أن دلالات المحتوى النصي، ماهي إلا تلك البؤرة التشكيلية التي إراد المختزل العنواني للقصيدة، جعلها بمثابة العلاقة التوالدية للبنية الدوالية في موجهات النص، إذ راحت تنطوي من خلالها تلك الخيوط السرانية والتداخلية تماهيا بين مجال أجواء القصة التي تحمل ذات التشفير من العنونة، ماراح يسمح بأن تكون فضاءات المستويين (قص - شعر) مجالا متوحدا يحمل ذات الطابع والتطبيع في ترجيع الخاصية الفردية والذاتية في علاقة أنواعية متلونة في نسيج وظائفها ومتحولة ضمنا في جعل شرارة الاصوات متشرنقة في عوالمها الذاتية التواصلة بين مقصودية المصور والمتخيل وفاعليات التشكيلي المتفضل على سمات النصوص بروح المفترض والمحتمل والتجاوزي.

- تعليق القراءة:

كان الاهم والمهم في تجربة مفكرة الغرباوي القصصية والشعرية، هو ذلك الإرتباط بين الدلالات ومصدريتها المجترحة لاسمى اللحظات (المتاخمة - المتناغمة- المزامنة) لهذا الصنيع في عوامل وعوالم قد تختلف في الأوضاع والمستويات والانواع، ولكنها تنطلق بجناحان من احدية ترجيعية، من شأنها تعزيز خصوصية الفرد العاملي وجعله في حدود مكونات ضمنية من حساسية الدال والتدليل والصياغة والاصواتية الداخلية في احياز انساقها الموضوعية والزمانية والمكانية والكينونية والماهوية، خلوصا نحو حاصلية تفريج جملة ضمنية من الاوضاع النصية عبر قطبي (المتن - المبنى) اي عبر حلية ترتد وتمتد، لتنطلق كلحظة ملكوتية ساحرة ومشعة في مقاديرها الزمنية والمكانية والعواملية والاعتبارية من تجلبات موضوعات حكايتها وقصيدتها الاكثر سبحا في شعريتها الحلمية، لذا فهي تلك الذات المتوالدة بصيغ رؤى وأفعال تتجه توجها، يعيد إلينا حساباتنا المعنوية تطهرا من شوائب تتعدى مستويات الظاهر من النصوص من الناحية اللغوية والتصويرية، بل انها تتجاوز هموم دنيا النصوص لترتكن في خواصية عوالم تكتسب ذاتها وروحها وأسلوبها من اهليات جمالية نوعية في الشكل والمضمون في الداخل والخارج، لتبقى مجموع وقائع وحالات النصوص بمثابة الترجيع للفرد العاملي إنطلاقا به نحو تحولات تأتي بصيغة الفواعل (الشكل الدال = المحتوى الدال) وبمحاولة إستعادة نقاء وصفاء الذات تتعاظم قدرات مسميات الحلم بحدود تتلاشى منها زخرف الحالات الإنشائية وجمالية النقوش الظاهرة، لتتحول متخيلات ووقائع تجربة ماجد الغرباوي الى حيوات أكثر بلوغا في مرادها وقصديتها الترجيعية بالذات المضمرة في حقيقة وجودها وهوية حالاتها الحيوية في الاوضاع النصية المائزة.

***

قراءة حيدر عبد الرضا

.........................

* مشاركة (10) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10