أقلام حرة

صراع المتوسط.. كلمة السر: مصر

عبد السلام فاروقهناك "لعبة" اسمها شرق المتوسط.. خيوطها جميعاً تلتقى هنا فى يد مصر !

الدليل هو ما حدث فى المؤتمر الأخير لدول شرق المتوسط. إذ لم يكد المؤتمر ينتهى إلا وهناك لاعبان كبيران قررا وضع أقدامهما الثقيلة فى عمق البحر. فرنسا طلبت العضوية، وأمريكا طلبت وضعها كمراقب دائم. وفى يد مصر كل الخيوط لهذا أو لذاك.

هناك الموانئ للترانزيت، وهناك قناة السويس "أورطَى" التجارة العالمية، وهناك الموقع المتفرد المتوسط لقارات العالم القديم. كل هذا ليس لبلد إلا لمصر.

لا أحد يستطيع تجاوزها. لا تركيا ولا إسرائيل ولا أى دولة أخرى عظمت أم صغرت. لكنَّ الواضح أن هناك بوادر صراع مصالح بدأ يلوح فى الأفق.

وهو لم يبدأ إلا عندما أوغلت تركيا بسفنها فى مياه المتوسط كلاعب غير نزيه يريد هدم اللعبة على رؤوس اللاعبين لا المشاركة فيها.

ظنَّت تركيا أن مصر لقمة سائغة سهلة المنال. لكنها لم تعلم أنها أوغلت فى شرَك يكاد أن يلتهمها هى وأطماعها، خاصةً بعد أن وقعت فى الخطأ العظيم الذى لا يمكن غفرانه بتدخلها فى الشأن الليبي، ما جعل العالم كله يتوحد ضد أطماعها وتوجهاتها الاستعمارية.

كنوز المتوسط المنسية

منذ أكثر من عِقد مضَى، جاءت الاكتشافات الأثرية المنتمية للعصرين البيزنطى والرومانى فى عمق المتوسط لتشير إلى ما نسيناه فى أعماق بحارنا من كنوز.

وما لبثت الاكتشافات البترولية أن تتابعَت فى مناطق عدة من البحر الزاخر الخضم.

وكنا منذ سنوات قليلة قريبة نقول أن البحر المتوسط قد يتحول يوماً ما إلى لعنة !

قلنا هذا قبل أن نعلم ما يزخر به من خير.

قلنا هذا عندما جاء التقرير العالمى الذى قرر أن البحر المتوسط هو أكثر بحار الكون تلوثاً، ربما بفضل المائة مدينة الصناعية والسياحية التى تصب قاذوراتها فى البحر حتى تحوَّل إلى أكبر مقلب قمامة فى العالم.

لقد انتشرت فى الأيام الأخيرة صور ومقاطع فيديو عما أسموه "جزيرة البلاستيك" !!

إنها جزيرة ضخمة مكونة من أطمار القمامة التى يلقيها ملايين السياح والمصطافين على الشطآن!

ثم أن عشرات السفن التجارية وعابرات القارات من نواقل البترول وحاملات البضائع والطائرات تصب أطنان المخلفات يومياً فى البحر المسكين المغلوب على أمره.

كما أننا غدونا نخشى اليوم ثورته أو فورته التى قد تلتهم شطآن تلك المدن الآثمة المطلة عليه.

التقارير تشير إلى ارتفاع منسوب مياه المحيطات بفعل انصهار جبال الجليد فى القطبين. وكلنا شاهدنا كيف التهمت مياه الأطلسي جزيرة كاملة فى تخوم الشاطئ الأمريكي الشرقى حتى أخفتها تماماً !

ولا يمر عام إلا ونسمع عن تسونامى جديد يهاجم هذه الجزيرة أو تلك المدينة أو ذلك الميناء!

إننا أمام تحدّى عظيم اسمه البحر الأبيض.. إما أن نجيد إدارته فنفوز بكنوزه.. أو – لا قدر الله- أن نفشل، فنتلقَّى صفعات أمواجه الغضبَى.

خريطة التحالفات

شهدت السنوات الماضية أعظم نشاط للدبلوماسية المصرية عبر تاريخها العريق.

لقد تغيرت خارطة التحالفات واتسعت بشكل غير مسبوق، خاصةً فيما يخص منطقة شرق المتوسط.

كل هذا حدَث بفضل تلك اللقاءات المتتابعة المتبادلة بين مصر والدول الأوروبية ذات التأثير كألمانيا وفرنسا وبريطانيا، أو الدول الأوروبية ذات الصلة كاليونان وإيطاليا وقبرص.

وغداً قد تتدخل أمريكا فتضع أسطولها فى خدمة الصف المصرى كمراقب دائم لشرق المتوسط لمنع تداعيات أطماع تركيا العسكرية.

ليس هذا فحسب..

بل إن من مصلحة هذه الدول جميعها دعم مصر فى مساعيها بسبب الدور الذى تقوم به فى منع طوفان الهجرة غير الشرعية عبر المتوسط، والذى استطاعت مصر فى السنوات الأخيرة تحجيمه.

ثم هناك الدعم القانونى الدولى.. اتفاقية ترسيم الحدود، تلك التى وفرت غطاءً قانونياً مبكراً لسائر الاكتشافات البترولية التى تريد تركيا اليوم السطو على بعضها.

مصر لا تخوض هذا الصراع وحيدة منفردة مغضوب عليها كما تفعل تركيا، وإنما اتخذت من أصدقائها وحلفائها درعاً تتحصن به ضد أعدائها.

ما فعلته الدبلوماسية المصرية فى السنوات الخمس الماضية من جهد يفوق ما حدث عبر ثلاثين سنة من الفتور والجمود.

ونحن على وشك جنى ثمار تلك المجهودات الجبارة قريباً بإذن الله.

مشروعات عظمى على بر المالح

مدينة العلمين الجديدة.. مشروعات الاستزراع السمكى.. مشروعات تطوير شواطئ المتوسط : الإسكندرية ومرسي مطروح.. هى مشروعات تمت أو على وشك الإتمام.

وهى ليست المشروعات الوحيدة على المتوسط.

هناك مشروعات عديدة قيد الإعداد أو الدراسة، لا لتطوير السياحة فقط، وإنما لتعظيم الاستفادة من بحرنا الأبيض الذى اتضح أنه زاخر بالنعم والخيرات.

اليوم نحن ندرس كيفية الاستفادة بمياه البحر فى الزراعة بعدة طرق..

على سبيل المثال مشروع منخفض القطارة الذى طرح منذ سنوات مضت، والذى اقترح توصيل قناة للمنخفض الواسع، يسهم من ناحية فى تقليل أثر ارتفاع منسوب المياه التنامى، ومن ناحية أخرى فى ملء المنخفض بمياه صالحة لإنبات غابات من أشجار تتحمل الملوحة.

مشروع آخر يقوم على تحلية مياه البحر واستخدامها فى الزراعة.

مشروع ثالث تم اقتراحه منذ أبحاث العبقري الراحل الدكتور أحمد مستجير حول البذور القادرة على تحمل ملوحة المياه، تلك الأبحاث التى يبدو أنها وصلت إلى منتهاها، حيث أعلنت وزارة الزراعة المصرية مؤخراً تمكنها من استنباط صنف من بذور الأرز القادرة على تحمل العطش والملوحة، الأمر الذى أسهم فى زيادة المساحة المزروعة هذا العام بنسبة 35%، لتصل إلى مليون ومائة ألف فدان.

ثم هناك مشروعات تطوير الموانئ والأسواق الحرة على البحرين الأحمر والمتوسط.

أمثال تلك المشروعات لو انتقلت من خانة الحلم إلى خانة الحقيقة ربما تغير وضع مصر إقليمياً لتقفز عدة خانات للأمام اقتصادياً وبيئياً وسياحياً.

البداية كانت "قناة السويس الجديدة".. والسيناريو مستمر

ولأن خيوط اللعبة فى أيدينا، فنحن القادرون بإذن الله على رسم المسار الذى يبنى ولا يهدم.

وخيراً فعَل الرئيس عبد الفتاح السيسي عندما بادر بتنمية محور قناة السويس سواء بالقناة الجديدة أو المشروعات المقامة حولها. وكأنه كان يتحسب لمثل تلك اللحظة التى يحتدم فيها صراع المتوسط.

وجاءت مناورة "قادر" التى شاركَت فيها سائر الوحدات العسكرية المصرية البحرية والبرية لتعلنها أمام جميع القوى المتربصة واضحةً قوية: أننا قادرون أقوياء.

وأن صراع المتوسط.. خيوطه بين أصابعنا.                  

 

عبد السلام فاروق

 

في المثقف اليوم