أقلام حرة

علي علي: حسن الأدب

قالوا: كُلُّ شيءٍ إذا كَثُرَ رَخُصَ، إلّا الأدبُ فإنّه إذا كَثُرَ غَلا.

كثيرة هي الخصال والطبائع والعادات التي يتميز بها الإنسان، فهي تعكس شخصيته، وتنم عن تربيته وبيئته التي ترعرع فيها، غير أن من المعيب أن يجعل ماورثه من آبائه، مموله الوحيد إلى التكامل في حسن الطباع، وكأنه صورة مكررة منهم بطريقة الـ (copy paste). أو نسخة مكربنة عنهم لا أكثر. كذلك فإن تحلينا بالأدب يبدأ من البيت ولايقف عند بابه، بل حريٌ بنا اصطحابه معنا أنّى توجهنا، بدءًا من الشارع مع من يواجهوننا على قارعة الطريق، مرورا بأماكن عملنا، ومناطق احتكاكنا مع من نصادفهم ونرافقهم، وصولا إلى ما منوط بنا من واجبات، لاسيما إن كان لنا منصب يحتم علينا التحكم برعية في مسؤولية نتولاها. وخصلة الأدب تتقسم بعدل على المافوق والمادون في المجتمع على حد سواء، فللعامل مسؤولية التحلي بها أمام مرؤوسه، وللرأس مثل ما على المرؤوس من قيود في هذا الجانب، وبالتالي سينعم الجميع بحسن تعامل، يفضي إلى حسن نتائج، تليق بالإنسان المتنور الحضاري. وإن كان القانون فوق الجميع، أظن أن الأدب فوق القانون، فهو ينظم النفوس ويبرمج العقول لتقبل تطبيقه على أتم وجه.

مما يروى أن الحجاج أمر أحد حراسه أن يطوف في المدينة ليلا، فمن رآه على الطريق في ساعة متأخرة قبض عليه. وفيما كان يطوف ليلة من الليالي، وجد فتية فأحاط بهم وسألهم: من أنتم حتى خالفتم أمر الأمير وخرجتم في مثل هذا الوقت؟

فقال احدهم:

أنا ابنُ من دانتِ الرقاب له

ما بين مخزومها وهاشمها

تأتيه بالرغم وهي صاغرة

يأخذ من مالها ومن دمها

فأمسك عنه وقال: لعله من أقارب الأمير.

ثم قال للآخر من أنت؟ فقال:

أنا ابن الذي لا ينزل الدهر قدره

وان نزلت يوماً فسوف تعود

ترى الناس أفواجاً الى ضوء ناره

فمنهم قيام حوله وقعود

ثم أمسك عنه فقال لعله من أشراف العرب.

ثم قال للثالث ومن أنت؟ فقال:

أنا ابن الذي خاض الصفوف بعزمه

وقومها بالسيف حتى استقلت

ركاباه لا تنفك رجلاه منهما

اذا الخيل في يوم الكريهة ولّت

فاحتفظ بهم حتى اصبح الصباح، ورفع أمرهم الى الأمير وأحضرهم إليه، وقد كشف عما دار بينهم من حديث، فإذا الأول ابن حجام، والثاني ابن فوال، والثالث ابن حائك. فتعجب الحجاج من فصاحتهم وقال: لجلسائه:

علموا أولادكم الادب، فو الله لولا فصاحتهم لضربت اعناقهم، وأمر بإطلاق سراحهم وأنشد قائلًا:

كُن اِبنَ مَن شِئتَ واِكتَسِب أَدَبا

يُغنيكَ مَحمُودُهُ عَنِ النَسَبِ

فَلَيسَ تُغني الحَسيبَ نِسبَتُه

بِلا لِسانٍ لَهُ وَلا أَدَبِ

إِنَّ الفَتى مَن يقولُ ها أَنا ذا

لَيسَ الفَتى مَن يقولُ كانَ أَبي

ويحكى أن رجلا تكلم بين يدي الخليفة المأمون فأحسن، فقال له الخليفة:

- ابن من أنت؟ قال:

- ابن الأدب يا أمير المؤمنين. قال:

- نعم النسب انتسبت إليه.

ولهذا قيل: المرء من حيث يثبت لا من حيث ينبت، ومن حيث يوجد لا من حيث يولد. وبذا فإن الأدب، هو أساس العيش بكرامة، وأس التمتع بحياة تليق بخليفة الله في أرضه.

***

علي علي

 

في المثقف اليوم