مقاربات فنية وحضارية

سامي مشاري يبدع لوحة تفوح برائحة العراق وألوانه الطاغية

122-samimshari1- الفنان التشكيلي العراقي يعمل على كسر حضور الأشياء، وهيمنة المعنى، وإزاحة الأسطورة من منابتها التاريخية، لتبقى مفرداتها وإيحاءاتها كإشارات معرفية.

 - فضاء اللوحة عند مشاري تصميم حر وتداول للإشارات والأنساق الجمالية

         

ينفتح لمتابعي التشكيلي العراقي سامي مشاري، أكثر من باب للرؤية، وأكثر من سبب للسيرة الفنية.. وأهم من هذا كله ملاحظة تجربته الفنية وهي تنمو وتنضح بصبر وإصرار عجيبين.

أعماله صبر وإصرار يتمثلان في إعادة الاشتغال على اللوحات المنجزة أكثر من مرة، وكأن عملية الخلق تقبل على شكل (دورة عمل)، تتكرر بين فترة وأخرى، حتى تصل إلى حالة اكتمال وإشباع لا تحتمل إضافة أخرى أو حذفا آخر.

ومن الجميل أن نرى العمل الواحد ثلاث مرات متعاقبة، مختلفا، وممتلئا بطاقة جديدة، وحوافز متحررة، وعناصر موحية تستحق البقاء. والفنان سامي مشاري في معظم أعماله يعاني صراعا بين بنية المعنى، كما تربى عليها ومارسها أيام الهياج الإعلامي، وطغيان سلطة الأيديولوجيا على الفكر.

وبين اللوحة الحديثة كبنية جمالية بعيدة عن إسقاطات المعنى المشروطة وتبعاتها الاجتماعية.. بين سلطة الموضوع كشرط ضمني (متعارف عليه) ساحبا معه فكره ومرجعياته ومفرداته المرمزة، وبين فضاء اللوحة الذي يلعب فيه التصميم الحر، وتداول الإشارات، والأنساق الجمالية، وتعالق الأساليب الفنية كرسالة ثقافية.

122-samimshari2

يعمل الفنان سامي بدأب على كسر حضور الأشياء، وهيمنة المعنى، وإزاحة الأسطورة من منابتها التاريخية، لتبقى مفرداتها وإيحاءاتها كإشارات معرفية.. إنه يقلب سيمياء الأشياء رأسا على عقب، لتكون مكتفية بنفسها، بحضورها الفني وليس التاريخي، بدلالتها المعرفية والمكانية وليس بسردها الأدبي.

لذا تبدو رسالة الفنان سامي مشاري واضحة في فك الاشتباك بين الموضوع والمعنى من جهة، والأنساق الجمالية للعمل الفني من جهة أخرى.. حتى لا يطغى أحدهما على الآخر. وهو يستحضر مفرداته التشكيلية القديمة التي يحتاجها لتأطير عمله، وتلوين بلاغته، وإنشاء معماره الأسلوبي.

لكنه يعمد إلى تغيير وظيفة هذه المفردات، وكبح تأثيرها، لتكون إشارة محايدة ضمن عمل كلي. والفنان مشاري ذو ولع بالفن الجداري منذ أن كان طالبا في معهد الفنون الجميلة، في سبعينات القرن الماضي، وقبلها أنجز ثلاث جداريات مع زملائه من فناني مدينة السماوة العراقية في تجربة جماعية عام 1974، ثم أنجز في الثمانينات جدارية ضخمة للجمعيات الفلاحية مع زميله عصام ديبس. لهذا يجد الفنان راحته في العمل على المساحات الكبيرة، كما هي في معظم أعماله، هذه المساحة تعطيه قدرا من الحرية والمرونة في الاشتغال على الموضوعات ذات المنافذ المتعددة، ثم ينهض في محاولات تالية على تجريدها وتفتيت حضورها، وتحجيم تأثيرها النفسي على المشاهد، وخلخلة معناها العام حتى تتماثل مع الشكل في وحدة جمالية تصميمية.

لهذا نجد في أعماله النهائية، أن الموضوع قد تلاشى وإن بقيت هوامشه، وشحب المعنى وإن بقيت إلهاماته، وتحررت المفردات من إطارها البلاغي إلى فضائها الدلالي، وقفز اللون من مغزاه الطبيعي والرمزي إلى مداره التعبيري والتصميمي.

وفي كل أعماله يأخذ (الخط) بزمام الأمور، ليفصل المساحات ويهندس الكتل، ويهندم المفردات والأشخاص، هذا الخط الذي يسير بخشونة حرفي، وعفوية طفل، لإحداث قفزة بين التجريد والتشخيص.

الفنان مشاري لا يخضع أعماله لتصميم صارم، أو أسلوب مسبق، فمجال الحرية في عملية الخلق، والعفوية في التصميم مفتوحان، وإعادة صقل العمل المنجز مرارا وتكرارا أزاح مشهدية الموضوع وسلطة المضمون، ليبقى العمل الفني يتحدث بنفسه، ويقدم صيرورته للمشاهد والحياة معا. وعلى الرغم من كل هذا التجريد، وتجريف الموضوعات، تبقى أعمال الفنان سامي مشاري نضاحة بالعاطفة والحس والمفارقات التشبيهية وبيئة المكان. وكل هذا يصنع لوحة تختلط فيها الأشياء والألوان والروائح، لوحة ذات مذاق محلي عراقي حد النخاع.

 

عباس حويجي

......................

* الصورة لسامي مشاري

 

 

في المثقف اليوم