مقاربات فنية وحضارية

شمس الدين العوني: جربة الساحرة المقيمة في عوالم الفنانة عزيزة بحر الباجي

أعمال فنية متعددة وللألوان أسرارها وأمكنة تجليها.. سفر حيث الأحوال مجالات قول ونظر وتأمل

تميزت تجربة الفنانة التشكيلية عزيزة بحر الباجي بتعدد تلويناتها بين مشاهد وأمكنة وحالات حيث تظل جربة الجزيرة الساحرة مجال نشاط فني عملت عليه من سنوات مستلهمة منها رغباتها الجامحة تجاه عوالم الرسم والتشكيل..  برز ذلك من خلال لوحاتها في مشاركات فنية متعددة بين المعارض الفردية والجماعية..

هكذا نلج عوالم طفولة مفتوحة على الأزمنة والأمكنة.. حياة بطعم الألق والود والمحبة تمنح سرها عبر الألوان للآخرين نشدانا للجمال وتقصدا للابداع وقولا بحميمية فارقة تجاه الآخرين والعالم.

وهكذا فللألوان أسرارها وأمكنة تجليها.. ولها من سفر الحال والأحوال مجالات قول ونظر وتأمل بعناوين شتى منها الحنين الآسر والذكرى في بهائها السمفوني كلحن بدوي لم يعرف المدن وضجيجها المقرف.. للألوان حميمية الأفعال والأسئلة والنظر.. انه النظر العميق بعين القلب لا بعين الوجه.

الألوان هنا عنوان وجد وأمنيات ونشيد كامن في الوجوه والتفاصيل واليومي بما هو حياة وحلم.. ان الألوان تصرخ وتغني وتنتبه وتصغي وتفعل كل شيء كالكائنات الأخرى.209 عزيزة بحر الباجي

نعم العالم يبدأ من البيت والحي والقرية ليظل مجال حوار يأخذ الفنان في حله وترحاله يستدرجه لبيت الابداع والامتاع والمؤانسة بكثير والآه.. هي آه الحنين والوفاء النادر للجمال وممكناته وحكاياته وأشيائه المبثوثة في المشاهد والأمكنة والعناصر والتفاصيل.

ندخل عوالم الفنانة عزيزة التي هامت باللون والرسم منذ طفولة ما زالت تقيم فيه حيث الفن عندها حالات تذكر جمالي تجاه القبيح والمربك والساقط في أكوان بمتغيراتها المدوية تسعى لتشييء الكائن وجعله مقيما في أزماته  ومتروكا مثل متحف مهجور.

الفن حمال معان راقية ومجمل حالات ومكمن أحلام عالية تجاه الضجيج والانهيار.. انها لعبة الفن يستعيد معها الفنان شعرية الفكرة وهي تنبثق من الأمكنة في بهائها النادر.

المكان هنا معتبر ونعني الجمال والحلم حيث الخطى الأولى والتلوين البريء والبدايات.. المكان مكانة.. نعني جربة.

هي حكاية فنانة بدأت الرحلة الفنية من جربة وتعددت بعد ذلك أمكنتها وجهات الهامها لتتعدد ألوانها وأعمالها الفنية تعدد حالات حلمها وأحاسيسها.

الفنانة التشكيلية عزيزة بحر الباجي نهلت من المكان كذاكرة وحياة وبرمزية ضاربة في الزمن..  من جربة انطلقت لتتعدد معارضها ومشاركاتها الفنية.. لوحاتها توزعت على تلوينات شتى بين المشاهد والامكنة والبورتريه والطبيعة الميتة وغيرها.. تنظر في اللوحات لتسافر في المشاهد الأخاذة منها عطور الحالات الجربية في الشارع والسوق واللباس التقليدي وصولا الالوجه المنتصف الحالة والنظر ووجه الطفلة غزالة الطافح بالبهجة العارمة حيث اللون عنوان براءة وحلم في تناسق جمالي دال على التشبع بالموضوع والمشهدية العميقة.

هامت عزيزة بفنون الرسم لترى العالم علبة تلوين ومتنت صلتها في كل ذلك عبر الفنانين  الايطالي ديماتشيو والجزائري أحمد بلاب والتونسي طارق الفخفاخ وهي التي تخصصت في دراستها في العلوم القانونية.. مضت مع الفن التشكيلي تحمل جربة في القلب وما به تزخر من سحر وبهاء جمالي نادر تستنطق حالاتها ووجدانها وتاريخها العريق بتعدد ثقافاته والحضارات العابرة به وصولا الى جربة الآن وهنا.

جربة هذه الفاتنة.. وأنت تمضي اليها.. تشعر بشيء من السحر ينتابك بحيث يصعب أن تغفل للحظة عن القول بالعذوبة والدهشة والحنين تجاه ما تراه  العين.. وأما النظر هنا فهو بعين القلب.. لا بعين الوجه.. هي الأرض التي تأنقت عبر العصور.. من الحقب التي مرت بها تعلمت فن الجمال.. كيف لا وهي المحفوفة بالماء.. الأزرق سرها الدفين.. القباب عناوينها.. والمنازل المثقلة بالحكايا.. وهل ثمة حكايات باذخة المتعة غير تلك التي عرفتها الأرض القديمة قدم ناسها..209 عزيزة بحر الباجي

قمر..

ونخيل ناعس

و أحلام زرقاء..

و خضراء

للرعاة

وللبحارة  في غنائهم الأبدي

المأ خوذ بالشجن العظيم..

ثمة اذن ما يغري بالنشيد وبالنظر..

من الفينيقيين والبونيقيين والنوميديين والرومانيين والبيزنطيين.. إلى الفتح الإسلامي.. كانت جهة للراحة وللعناق الرومانسي بين الأرض والبحر.. جربة.. المكان والمكانة.. هكذا كانت.. وهكذا ارتسمت في الكلام وفي الألوان وفي الخيال الفادح.. البشير الكونيالي.. المنوبي زيود  محمد الخانس.. وغيرهم  لتبقى الحكاية مفتوحة على مصراعيها مثل أبواب المنازل بميدون وحومة السوق وقلالة والمحبوبين.. انها حكاية وجد من حكاياتنا العربية التي يغمرها الق هذا الكائن الانساني في حله وترحاله..

تمضي اذن مع الجادة فترى البسمة على وجوه الاطفال عنده تقترب من مدرسة سيدي ياتي.. هي البراءة المأخوذة من موسيقى البحر الفاتن والتربة الناعمة.. تجلس في الفضاء الانيق المحلى بالمرقوم وبالادوات التقليدية الجربية حيث الشاب الحالم العائد من أرض الامارات وقد شذب المكان وزينه دون خروج عن جماليات المكان الوفيرة.. تجلس وتحتسي القهوة وترسل نظرك بعيدا لترى جواهر الأشياء وعناوينها البارزة بعيدا عن هموم العولمة ورياحها الملوثة.. والقاحلة.. وبلغة أخرى تذهب مع الاصل.. أصل العناصر والتفاصيل..

في فضاء القبة تشرب شايا وتستمتع بالنقوش.. لا كوبول.. فسحة أخرى من الجمال المبثوث في اللوحات المعلقة.. وفي كل ما يرتسم وينحفر على الخشب الناعم.. تلقي بالنظر فترى الأشجار.. النخيل والظلال والقباب والأبواب والاقواس والازقة حيث عبث الاطفال الممزوج بايقاع النسوة العابرات لشؤون الحياة الشتى.. والرجال من صناع مجد الجزيرة والمجد هنا هو الحلم والتواريخ..

" البحر..

القباب..

الابواب..

الحوانيت..

المنازل..

الأقواس..

الازقة المتسعة في ضيقها..

الباعة..

الرجال..

صخب الاطفال..

.......

لكل هؤلاء ولاجلهم..

تقف المرأة ملتحفة بالدهشة..

و بالبياض.. "209 عزيزة بحر الباجي

اذكر الان ألوان  وأحوال وأشجان جربة التي ابتكر ظلالها  ونقلها الفنان الكبير الكونيالي  الى بياض القماشة.. فضاءات لوحاته بكثير من المتعة والابداع.. وهو في خلوته الفنية بحومة السوق.. من هذه الاحوال الفنية لجربة هذه الايام.. تلك المساحة التشكيلية من شتى التلوينات والاتجاهات والاشكال.. وأنت تتجول بالمكان الذي هو ميدون.. تقودك خطاك طوعا وكرها الى عوالم التلوين والرسم والفنون..

من كل هذا ملأت الفنانة عزيزة بحر الباجي خزان ذاكرتها ودأبها اللوني وعشقها للرسم.. فنانة حملت شيئا من روح وعطر وأنفاس جربة حيث ألق التواريخ وجمال المشاهد بين سماء وأرض وبحر وأهل في تناسق مفتوح على الهدوء والموسيقى الخافتة..

تنوعت أعمالها وعناوينها ونذكر منها غزالة والنسوة ومشهد السوق وعم سعيد  وقلالة وقهوة الشجرة بميدون والتغمبيزة والزكار والطبال والتراث وللا حضرية والانتظارو القرنيط وشاطئ الجزيرة والقافلة والبطيخ وغيرها..

الفنانة عزيزة بحر الباجي تعمل على مواضيع أخرى وبنفس متجدد وتو ترى في الفن واحة سلام وحوار في حس انساني بليغ وتحلم بمعرض دولي باليونسكو مثلا فيه لوحات تختزل مكونات التراث الجربي من لباس وعادات وتقاليد ولباس ومشاهد وفق رسالة من فنانة للعالم تقول بالحوار والتعايش والتسامح  تحت عنوان الفن بما هو ابداع انساني.

***

شمس الدين العوني

 

في المثقف اليوم