مقاربات فنية وحضارية

عادل مردان: العِمارة رفيقة ُدرب

adil merdanيتأمل الرضيع وجه الأم، والسقف العالي للبناء القديم، ويركّز طويلا ً على جدار شاخص وملغـّز، يوجد خلفه العالم .. إذ يكثـّفه اللون الأبيض، أمام براءة العينين . بعد مغادرة المهد يُسنـَد الطفل بنمارق من ريش، فتضج في رأسه الأسئلة . تنمو الأصوات الخافتة، ويبدأ بالضحك الأعتباطي، لأن الذبذبات تدغدغ طبلة الأذن ... كذلك يتساوق البكاء، وكأن الوحوش تئن خلف غرفته البيضاء . بهذا الفضول البصري، تُكتشف العمارة تدريجيا ً- حيث يلحُ إستطلاع العين، لمعرفة مكونات البيت، مع تعلـّم الألفاظ المتناغمة، فأستطلاع الجدران درس النفس الأول، بعدها يخف الأرتباك، من مسافة الفراغ الى السقف .

1068-adil

 

أتذكّر في (الشعيبة)، المحطة ما قبل الأخيرة، التي يقطعها القطار جنوبا ً، الى محطة (المعقل)، ذلك الليل الجاثم بكائناته، خلف الجدار الملاصق للسرير . أنام قرب أمي، بينما يأتي الزئير، من قلاع كثيرة التعقيد، ولا ينقطع إلا عند سماعي صوت (الماكنة البخارية)، تدخل المحطة، وهي تجر قطار (الأحمال) ببطء .

بدأت أكبر، وأنا أراقب العربات الرجراجة، تمازج بمشهدها الأثير مشاعري المتناقضة .

عندها توضّحت لي ألغاز البيت – حوش سقفه السماء، وثلاث غرف جاثمة بأستقامة،

أعلاها سقيفة عرضها متران ... ينتهي الممر بمطبخ صغير، يلاصقه حمام واسع، الأول مشغل أمي الدائم، تقشّر، تقطـّع، وتعجن، والثاني حددت أرضيته، بسور منخفض أشبه بحوض .. أغلق الفتحة، وأملؤه بالماء، لنطرطش أنا وأخي – ذلك الولع القديم، بلاغة حنين الى النهر . في بيوت (السكك)، ذات الطراز الأنكليزي، يُبنى وعاء كبير من الكونكريت، لغرض الأستحمام، حيث الفتحة خارج التكوين، كافية لأدخال (البريمز) .

أما في الأخير المخادد، فسحب سلسلة (السيفون)، متعة تسحر الأطفال ... كانت الغرفة الوسطى مربّعة، مثل كائن يقدم وظائفه المعمارية. في شتاءٍ قارس، كنا نتكدس في جوفها الدافيء، إذ تخط الرعود، في ذاكرة الفتى موسيقى الخوف – وسط الجدار (رازونة)، كم أشرَفت عليها، وأنا أتوازن على الكرسي، لأخبيء سيكارة (كريفن أبو البزون)، لذتها مازالت في فمي . الأولى دَخنتها في نهاية الدرج، الذي يصر مستعذباً بلحنه . عندها يطل أبي، بقامته على مشهد التجويف، عاثراً على سيكارتي المفضّلة .

السطح تكوين مدهش، عند صباح صيفي، تحط حمامة عيني على (المحجّر)، وتفعل أناقة الطابوق، فعل المعشوق بالعاشق . كانت بناية المحطة، ذات الطابق الواحد، تلتصق بالبيت – حيث تفتح الغرفة الأولى، الى ممر المحطة، ذي الغرف الأربع . الأبواب بظلفة واحدة، والباب ذو ظلفتين، عايشته في مكان آخر ... لا تغيب عن ذاكرتي (ثلاجة الخشب)

المبطـّن أعلاها(بالفافون)، حين ألتقط تفاحة من أسفل .

أجلس هنا قرب نافذة (العربة السياحية)، بعد ثلاثين سنة، لأشاهد بيتنا، الملاصق، الذي تأملته طويلاً، عند عودتي من المدرسة، كأنه عملاق أخرس، يتربع على الأرض، فإذا البناية تشملها نظرة خاطفة . صار البيت متواضعاً والأبنية التي إضطجعنا في ظلالها، إنكمشت على نفسها، تلك هي تحفيزات أولى، للكتابة عن العِمارة .. عمارة تعيش مع الانسان، فلنا جميعاً تعالق لا شعوري مع كائناتها الصامتة .

ما يُغني فكر العِمارة في المشرق، مجاورة الصحراء والنهر . في بلادنا صُممّت المدن السومرية، على شكل رقعة شطرنج، وهذه حال مدننا الآن . يكتب مؤرخ غابر : (العمران ينتج المدينة)، فالحروب تخرّب ما يُبنى بمشقـّة .. هنا زقاق يلتف على نفسه، لا تخرج من شَرَكه، إلا بالتعوّد والخبرة، تتعرج كالأفعى، وصولاً إلى سكن خفيض . أكثر الأحيان

تنتهي (الدربونة) ببيت، لتعود أدراجك الى شارع (الشناشيل)، وقد شحبت واجهاته المزخرفة ... (الدربونة) ضيقة، حيث تتقابل أبوابها،على بعد متر، وهي مرصوفة أحياناً بالقاشاني .

الخمرة تزيد العمارة بهاءً . أحب السقف القرميدي، وبيت الطابق الواحد، ويسحرني الموقد الذي نسيت ذكره، في الغرفة الوسطى، حيث حكايات جدتي، تنساب مع الروح ...

يزيدني تأمّلا ً سياج الحديقة الخشبي، محددا ً صورة البيت ... (الأشجار صغيرة لا تلغي إستراحة الفضاء – يمكن زراعة ليمونة، عند كل زاوية في العمق) أما البيوت العملاقة، المطهمة بالزجاج والساج والزخارف، فإن حضورها الفقير، ينعكس على فضاءات الداخل، إذ يشرد النظر، مِن إسراف التخارج .

إنطبع مبنى (المحطة العالمية)، في وجداني لكثرة تسفاري بالقطار . كنت أتفحص ثيمات المبنى الفضائية، بأندهاشة الثَمل، فتحاورني سرودها باللاوعي، قلت لنفسي حينها :

ما فضائل العِمارة في الشعر . أجيب متمتما ً قرب نافذة التذاكر الخضراء،: الإنشغالات الأولى تتحفز بلا وعي، (البيت - الجدار – النافذة – الباب – السطح - السلّم - الممر- الزقاق ... إلخ) .

يتعزّز توقي الى الموسيقى، إذ تترك نسقا ً سمفونيا ً، في معمار القصيدة الخاص . ما زلت أتأمل، مجاورة العمارة للموسيقى، مجاورة الجلال للروح . يقول معماري ذائع الصيت :

للبناية أساليب مبهمة، كي تعيش مع الأوركسترا، عندما يواجه، الفضاء الداخلي صعوبات نفسية للتفاعل مع الإيقاعات، وبعد جهد جهيد تنسجم معها، فبناية موسيقى

 (بتهوفن)، غيرها لمجدد الأوبرا (فاكنر)، غيرها  لساحر الباليه (سترافنسكي) ...

مزايا شيّقة للعِمارة، وهي تعيش معنا، دون أن ننتبه .

ينسجم فن الحضارة هذا، مع خاصية فريدة في الشعر، تمعّن فيها (باشيلار) عميقا ً، وهي لفتة معمارية منه، تركّز على (الكبير والصغير)، لحجوم الأشياء عِند الشعراء،فمنهم مَن يكبّر أشياءه ومنهم مَن يصـغـّرها، ومرجع هذا- الأنطباع الطفولي في   أرواحهم ... يتركز الحس البدائي للعمارة الطبيعة بالجبال، وكل ما يتعلق بالصخر، فللأحجار تناغم شكلي، يعطي الأصول الفطرية لذلك ... وأنا في السيارة، بينما نفترب من مدينة (العمارة)، تشغل الناظر كائنات ممشوقة، من الطابوق تُدعى(الكورات)، بينما يرطن مجاوري، كنت منسجما ً مع (كورة)، تنفث دخانها الأسود في الأفق .

نوعية المواد سبب فعّال، لصفات الجسد المجبولة بكيمياء العناصر، فالأسمنت غير الطين، والطابوق غير الحصى، والكراسي المصنوعة من ألمنيوم، تختلف بالوظيفة عن مثيلاتها، من حديد أو خشب، فهي تشابه أجسادنا، بالمجالات الثلاثة (حرارة- كهرباء- مغناطيس) . في أجنحة الطائرات مثال شائق، إذ تصنع من سبيكة (الديور ألومين)، المانحة صفات مرغوبة (الصلادة والخِفة) .

في شعرية العمارة ضمانة، للأحاطة بعوالم فن التشييد، الذي يخاطب البشر، بلغة بَصريّة واحدة، فروحها تقاوم الزمن، لقد كَتَبتها لغة الرياضيات، التي حافظت على ماء وجهها (ميشيل فوكو) .

المسجد بعمارته، المصرف المحروق مع تخطيطات الرسام، المحفورة على الخشب، وتلك مشاهد من المدينة ... يسعل باص (الآباتشي)، في شوارع مهملة، لا تنسجم (الشفرليت) مع وحدات الكونكريت،  التي تكبّل النهر(ذوق التصنيع العسكري) ...

الفكر الظلامي يخلق عِمارة فاشيّة، والمستنير يخلقها شفـّافة، تتروحن مع الناس .

قفزة إلى الفضاء الداخلي، (البيتونة) حارسة البيت، و(البادكير) يذكّرنا بحكايات الصحراء ... السجادة والثريّات والنمارق – غرفة(السرداب) والنوافذ المشبّكة والكوّات، التي تسمح للهواء، والضوء بالنفاذ، الكراسي والدواليب(فلسفة الأثاث)، الأرائك والشمعدانات، إكسسوارات تلائم فكر العِمارة .

عمارة تظلـّل الشوارع، عند طابقها الأول قاعة الرسم، تُعلـّق اللوحات على الجدران، لتبدأ حكاية التجاور . أنظر من نافذة الفندق، المقابل إلى الحديقة، حيث تتوزع التماثيل مثل أبناء، يستظلون بفيء أمهم، الساحرة سيدة الطوابق .

العِمارة في الرواية، (كيف نسيت) – يعبر من هنا السيد(بلوم) في (عوليس)، أصبح العبور إحتفالا ً، ذكرى لرواية معمارية حديثة، أو في (1984) الأخ الأكبر، عندما يُخرج البطل طابوقة من الجدار، هناك يخبّيء دفتر مذكراته، من عيون لا ترحم، كذلك تتداخل الأمكنة عند رواية (جن) .

الألوان تُعطي تأثيرها نوعا ً ودرجة، عندما صَبغتُ بعض الاُصص، لاحظتُ تأثير اللون الترابي . أيضا ً في الأجسام العملاقة، فناطحات السحاب البيضاء، والسوداء، والحمراء، تُعطي مشاعر مختلفة ... في مدينتنا المُحزنة، التي لا تطاق، تحيا عقول معمارية، ستضع تصاميم المدينة المُتخَيلة . تمنيت أن أسألك صديقي المعمار، يُخيّل لي إن بعض الأغاني، تمتص من أضرع، حقل العمارة الباذخ، ما تستطيع، لتنفرد (بميلودية)  مؤثـّرة، حصرا ً، (الغناء الأوبرالي) . كذلك أسألك، لماذا أأول فضاء(الكعكة الفرنسية) لشعر المرأة، إلى عمارة بسيطة للمتن الدائري، يطعّمها النحت بالضفيرة .

(كعكة عيد الميلاد، عِمارة لذيذة، تنحني لسكين إبنتي البيضاء) ... في الحمّام نزاول أبسط عادات العِمارة، (تأخذ الحجر الأسود بيّد، وتجلف باطن القدم) .

السوق يشبه البازار، ينحرف المتجوّل مع طقس العمارة، الذي يوجهه الخشب، والسقف الكبير يظلل الملابس المعلّقة . (سوق المغايز) نكهة معمارية موحية . أما (سوق العطارة)، فتمنح فضاءاته الرضا والسكينة، لعباءات تَمد الأيادي إلى دكاكين، إحتشدت على رفوفها، مباهج الصيدلة الشعبية .

بناية السينما في الصيف، إيحاء يختلف عن بناية الشتاء، كذلك عِمارة السجون، الأكثر تحسسا ًبسيكولوجية النزلاء - خاصة الثقيلة- تآزرت العمارة معنا أيام المحن، فأصابها ما أصابنا ... أركض في الحلم، يرسم الكابوس (عمارة النائم)، مختصرات من الضيق – دهاليز – واجهات حرجة . بعد ثلاثة أشهر من الحرب الثالثة، تغيّر الفضاء للناظر من الطائرة، لأن الصحون (الدشّات) ملأت السطوح .

النص الديني تصوّر فجائعي لعمارة القبر . في صحن العمارة الأسلامية أتدلّى، مستذكرا ً أولى تفكراتنا العمرانية (الزقّورة)، التي فخرت عادات وطبائع الإنسان، في بلاد الرافدين.

ثم أغرق في الرسم التخيلي (لبرج بابل)، حيث كثافة الرموز المعبّرة عن حضارة نائمة ...

النحت الآشوري، والقصر المنيف لملك إله، إذ يقف ثوران مجنّحان أمامه . بجلال، ثم أعود إلى ذلك الصحن، مدقـّقا بالقباب والمخروطات، مثمـّنا الذائقة التي تجعل، من محراب (الخاصكي) سيد المحاريب .

بتعاقب الزمن، تمنح الأرواح المتواترة، الكثير لجسد العمارة، فالبيوت العتيقة تنفث المعاني بروحية، لتجعلها حبيبة ومؤنسة ... ويعطي بيت الطين من الأنساق التأملية، أكثر مما يعطيه بيت الطابوق . أما في (الكوخ)، حيث يكون السرد، من مخيّـلة القصب، تتناغم أعراس الكينونة مع الوجود .

 

عادل مردان - شاعر عراقي من البصرة

 

في المثقف اليوم