مقاربات فنية وحضارية

جدلية الخط والنقد

mohamad albandoriإذا كانت هناك مدارس لتعليم الخط في الأزمنة العربية الفائتة، فإنها كانت قائمة على أسس نقدية ومعرفية ساهمت فيها كل المكونات الثقافية. وقد اتخذ الانشغال بكل عمليات الكتابة مسارا شموليا من حيث التقويم والضبط والتقييد. فمنذ فجر الإسلام، وفي عهد التدوين في القرنين الثالث والرابع الهجريين اتخذ النقد مسارا قويا، فانتقدوا الخطوط والخطاطين انتقادات بلغت حدا من القسوة، بل امتدت إلى أبعد الغايات. ويتبدى أنه مع توفر كم هائل من الإنتاج الأدبي والشعري، وكثرة المراسلات، امتلأ مجال الكتابة اليومية بالخطوط المختلفة الرديئة منها والجيدة. فكان لزاما على المثقف العربي الاهتمام والعناية بالخط العربي لأنه أصبح قطب الرحـى في عملية التدوين، وكان على الخطاط أن يبالغ في تجويد الخط وتجمـيله، وأضحى المجال فسيحا للتدوين والكتابة بخطوط أكثر دقة وجمال. لأن اهتمام المثقف العربي وكذا الناقد العربي بحفظ ورواية الشعر والأحاديث، لا يقل عن اهتمامه بالكتابة والتدوين والعناية بالخط العربي والحث على تحسينه وتجميله، وذلك لما له من صلة وثيقة بما يكتب، وهو الذي ارتفع إلى مستوى الكلمة الشفهية. فكان ضروريا بــذل الجهد، لأن اهتمام النقاد العرب بالخط والكتابة بالإضافة إلى البعد الجمالي كان أحيانا دافعه تخليد العلم وحمايته من الضياع: " فلولا الكتب المدونة والأخبار المخلدة والحكم المخطوطة التي تحصن الحساب وغير الحساب، لبطـل أكثر العـلم ولغلب سـلطان النسيان سلطان الذكر." وأيضا :" لولا الخطوط لبطلت العهود والشروط والسجلات والصكاك وكل إقطاع وكل إنفاق وكل عهد وعقد وكل جوار وحلف.." وبـذلك:" تصير الحاجة إلـى التفاهم بالخطوط والكتب، فأي نفع أعظم وأي مرفق أعون من الخط."   فيصبح لزاما النظر إلى تجميل الخط وتجويده، ونظرا لهذه الأهمية النفعـية للخـط، والتي تقتضي بدورها البعد الجمالي يقول الجاحظ :" فلذلك وضع الله عز وجل القـلم في المكان الرفـيع ونوه بذكـره في المنصب الشـريف حين قـال: ن، والقـلم وما يسطرون) فأقسم بالقلم كما أقسم بما يخط بالقلم." ولذلك كان التجويد في بداية الأمر ضرورة يحكمها المجال النفعي قبل أن يتطور إلى الصورة الجمالية الصرفة.

زجرت كتابكم لما أتانـــي ** بمر سوانح الطير الجواري

نظرت إليه مخزوما بزير ** وفي ظهر ومختوما بقار

فعفت الظهر أحور قرطقيــ ** تركب صداغه سين العذار

وكأن الشدو ذا زبر مصـيب ** وكأن الختم من رق العقار

ومن شعر علي بن محمد العلوي:

أشكو إلى الله خطا لا يبلغني ** خط البليغ ولا خط المرجينا

إذا هممت بأمر لي أزخرفه ** سدت سماجته على التحاسينا

وسعيا إلى تحقيق الجودة في الخط وتقديم البديل ألفوا مؤلفات ورسائل في الخط والقلم فانتقل الخط من وضعيات تم انتقادها إلى وضعيات أحسن وأجمل. لكن مع مرور الزمن اختلفت عمليات التجويد من منطقة إلى أخرى، ومن خطاط إلى آخر، في غياب التنسيق المحكم، وذلك لعدم التعارف والتوافق على مقاييس جمالية موحدة في كل الأقطار لخصوصيات كل منطقة على حدة. ولعدم الأخذ المباشر بعملية التقعيد الدقيقة التي وضعها ابن مقلة والتي سار عليها بعض من خلفه في هذا المسار. بينما ظل عدد كبير من الخطاطين يفتقرون في إطار التجديد وفي نطاق خصوصية بعض المناطق، وظهور خطوط جديدة إلى قواعد هندسية مؤطَّرة علميا ومعرفيا ومنهجيا تأخذ بعين الاعتبار الأشكال التجديدية في الخط العربي لتلك المناطق. لذلك سادت علاقة التأثير والتأثر في ظل واقع خطي يحكمه الانطباع والذوق ويغيب فيه النقد الموضوعي. وتبعا لذلك، تشكلت مجموعة من الخطوط وفق عمليات متقاربة أحيانا في الوضع وأحيانا في الشكل؛ ومختلفة أحيانا أخرى في المقاييس وفي الشكل تبعا لنفسيات الخطاطين أو النُّساخ أو الكُتاب، وتبعا لوضعياتهم المعرفية والثقافية، ومدى إلمامهم بمختلف الجماليات التي تؤثث حروف الخط العربي عموما، وتبعا كذلك لكيفيات تناولهم المادة الخطية وتفاعلهم مع الخط على قدر تمكنهم منه عن طريق الموهبة أم عن طريق الاكتساب. وبذلك فقد أسهمت مجموعة من العوامل في تشكيل الاختلاف عبر الأزمنة الفائتة. ولعل أهم سبب في ذلك هو غياب المواكبة النقدية اللصيقة بالعمليات الإبداعية في الخط العربي فأضحى الكل جميلا في فترات متقطعة من تاريخ الخط العربي.

فلما هيمن هذا الوضع على عمليات الكتابة استسلم النقد ولم تتم المواكبة المطلوبة، الشيء الذي فسح المجال لبعض من التردي في الكتابة الاعتيادية وفي فن الخط وذلك طبقا لِما صار عليه حال الخط واستدعته حالات التنوع، فكلف ذلك أن سار على طريق من التقليد، حيث اقتفى عدد من الخطاطين والنساخين أثر ذلك بما خطَّه السابقون ومن تبعهم على شاكلة واحدة. وبذلك انتقص حال الخط في بعض الأقطار ولم يحظ بشرف التقييد والضبط إلا بعودة النقد إلى المواكبة الصريحة، ولو أن هذه العودة كانت متدرجة ومحتشمة في بداية الأمر، إلا أنها اتخذت صبغة قوية ومباشرة فيما بعد، خاصة عند المتأخرين في الغرب الإسلامي عموما وفي المغرب خاصة، الشيء الذي أهل الخط من جديد ليسمو برونقه وأناقته وجماله، ويعيد مجده ومزاياه. وبذلك يمكن اعتبار أن النقد شرف ومكرمة للخطاط، لأنه المقوم الأساسي للخط، فاذا غابت الحركة النقدية فإن عنصر التطور كذلك يغيب بل يغيب الإبداع والابتكار في الخط ويسود الذوق في صناعة الجمال. وعلى هذا الأساس ظلت كل العمليات التجديدية في الخط العربي في كل البقاع العربية رهينة المقاربات والمفارقات بين الخط والنقد.

 

د. محمد البندوري

 

 

في المثقف اليوم