مقاربات فنية وحضارية

عبد القادر الرسام الميساني مؤسس الفن العراقي المعاصر (4)

كاظم شمهوديذكر ان عبد القادر الرسام عندما حل في بغداد قادما من مدينته ميسان كان كثير ما يتردد على المقاهي ليعمل بعض الدراسات السريعة والمقتضبة حول الاشخاص المتكئين هنا وهناك، ومشاهد من المقهى والحركة في الشارع والمناظر المحيطة بها. وكان لا يقبل ان ينظر اليه احد اثناء الرسم للحفاظ على سر عمله حتى ينتهي منه كليا، هذه الاسكيجات كان يجمعها ثم يذهب الى ورشته وينفذها على شكل لوحات زيتية كبيرة.

2248 عبد القادر الرسام 1وكانت هذه الطريقة في الرسم منتشرا في القرن التاسع عشر عند بعض عظماء الفن الاوربي مثل جوزيف ترنر 1775-1851 حيث كان يسجل في كراسته العوارض الطبيعية المختلفة للبحر والعواصف والسحاب وغيرها، ثم يعود الى مرسمه ليرسمها بالزيت. وكذلك جون كونستابل 1776-1837 الذي يعتبر من عظماء مصوري اوربا في رسم المناظر الخلوية، واوجين ديلاكروا 1798-1863 زعيم المدرسة الرومانسية، وفان كوخ 1853-1890 صاحب المدرسة التعبيرية وكوربيه -1877-1819 مؤسس المدرسة الواقعية والذي كان عبد القادر متأثرا به. هؤلاء هم اساتذة عبد القادر الرسام والذين تأثر بهم..و كان الجيل الثاني من الرواد مثل فائق حسن وحافظ الدروبي وجواد سليم وغيرهم كانوا يرسمون كلهم على طريقة عبد القادر الرسام الذي شاعت اعماله في كل انحاء العراق.

Detail of a photograph with the Society of the Friends of Art

قالوا في حق عبد القادر.

يقول جبرا ابراهيم جبرا في كتابه الفن والفنان (ظهر في اوائل القرن عدد من الرسامين الهواة اشهرهم عبد القادر الرسام الذي كان ضابطا في الجيش العثماني.. فان ان نعتبره عن حق ابا الرسم المعاصر في العراق) ولكن مع الاسف لم يهتم المسؤلين به في ذلك الوقت حيث يذكر انه كان في أخر ايامه يعيش وحيدا ومعه خادمه وان راتبه التقاعدي لا يكفي لسد حاجاته الظرورية، مع ذلك كان بمثابة الكعبة التي تتجه اليها كل عيون الفنانين الشباب والمقففين. حيث كان بيته يغص باصحابه الضباط القداما والفنانين وتلك الدردشات الثقافية والفنية وكأن بيته تحول الى مركز ثقافي. ويذكر حافظ الدروبي بانه كان في يوم من الايام هو وجواد سليم في زيارة الى بيت عبد القادر (كنا في بداية عهد الرسم وقدم لنا هو الكثير من النصائح والارشادات واخبرنا بضرورة السفر الى الخارج)

2248 عبد القادر الرسام 4اما شاكر فقد كتب عن حياته في كتابه- فصول من تاريخ الحركة التشكيلية في العراق، وخصص له حوالي ثمانية صفحات للحديث عنه وعن الجيل الثاني الذي كان متعلقا به بشده حيث يعتبره الامام للفن العراقي المعاصر (فانه كان يحور من العالم الذي يرسمه ليبدو عالما من البراءة والنبل والسكون المطبق وكأنه بذلك يرسم بروحية نحات سومري كالذي نحت لنا تمثال جوديا)

اما بقية النقاد والكتاب العراقيين فلم يذكروا عبد القادر الرسام الا ببضعة اسطر ويمرون عليه مر الكرام اما عدم امتلاكهم مدونات كافية عن حياته او تعمدا لكونه من ارض الجنوب.. بينما الفت كتب كثيرة عن حياة الجيل الثاني من الرواد ووضعت عليهم هالات قدسية واعتبرهم البعض بمثابة آلهه واصحاب مدارس فريدة.

و يذكر عطا صبري (ان في العهد العثماني كانت الاقلية النادرة تتذوق الفنون على نطاق ضيق ومحصور في الطبقة المترفة... ومن ابرز الفنانين في تلك الفترة عبد القادر الرسام حيث كانت صوره الزيتية منتشرة تقريبا في اكثر بيوتات بغداد الشهيرة..)

و قال فيه جواد سليم (اتخذ هوايته بما يشبه الاحتراف فلا عجب ان كان اول من لقب بالرسام لغزارة انتاجه واعتكافه على الرسم).

2248 عبد القادر الرسام 3

المرحلة الواقعية والانطباعية

كان اسلوب عبد القادر انقلابا وثوريا على التقاليد الفنية الموروثة في الشرق في ذلك الوقت وكأنها ثورة بيكاسو على المدرسة الكلاسيكية القديمة (وقد ذكرنا ذلك سابقا) وهو اسلوب المحاكات المنظبط وربما ان الدروس العسكرية التي تعلمها في الكلية الحربية الصارمة وتعلمه الرسم فيها اعطت ذلك الاختيار والصفة المميزة لاسلوبه، ثم تحرر من هذا الانضباط عندما اصبح عن قرب من المدارس الاوربية مثل الواقعية والانطباعية فتأثر بهما، علما ان تركيا كانت تحتل بعض الدول الاوربية الشرقية وانها كانت متأثرة بالفن الاوربي، حيث استقدم بعض السلاطين العثمانيين عدد من الرسامين الايطاليين للعمل في البلاط..

عندما نتأمل اعمال عبد القادر كأننا نعيش في رحاب المدرسة الانطباعية ويحضر امامنا مونيه وسيزان ورينوار وذلك الجمال الذي تعكسه تلك الطبيعة الخلابة. وكان شعور الناس في زمن عبد القادر يتعاطف مع الحياة الطبيعية والواقعية والريفية لما توحي به من شاعرية وما كان لها من اثر صحي طيب، كما ان الشعراء لم يتخلوا عن ذلك المزاج الذي يشدهم الى الرعاة والفلاحين والنساء الريفيات.. وكان عبد القادر مثقفا وناضجا وكانت دوافعه تتجه نحو التغيير والاصلاح خاصة في الوجهتين الفكرية والفنية ولهذا كان جل الرواد يجتمعون معه ويستمعون الى نصائحه وارشاداته. ومن اجمل اعماله مثل لوحة ابقار على شطئ دجلة حيث تبدو فيها المياه هادئة والاشجار باسقة يضفي عليها اللون الاخضر بجميع درجاته وتلك الابقار السائرة مع راعيها.. وكأنها عبارة عن نافذة خلابة يطل بها الفنان على عالم الطبيعة وجمالها الفطري الذي يعكس لنا كل ما وجدناه في المدرسة الانطباعية وثورتها على المدارس القديمة.

 

د. كاظم شمهود

 

 

في المثقف اليوم