مقاربات فنية وحضارية

كاظم شمهود: ظاهرة العروض المتشابه والفارغة في الفن

في القرن الواحد والعشرين راينا انتشار ظاهرة عرض اللوحات الفارغة وهي التي تعرض القماش الابيض canvas بدون رسم او تخطيط او رمز له دلالة معينة. ففي عام 2018 اقيم في مدريد المهرجان العالمي للفنون التشكيلية ( ARCO 2018 ) وكانت غالبية الكالريات عرضت اعمالا فارغة لا تقول شيئا.. ومن ناحية تاريخية كان الفنان الفرنسي كلين الازرق 1928 KLEIN قد بدأ بهذا اللون من الفن حيث عرض اعمالا ذات لون واحد هو اللون الازرق الفسفوري وتبعه في ذلك الفنان الايطالي مانثوني MANZONI 1933 وغيرهم. وبهذا اصبحت اللوحة لا تعبر عن حقائق فكرية او تعبيرية ولا تظهر انفعالات ومشاعر الفنان. ولكن يوعز البعض على ان هذه الموجة من الفن هي عبارة عن اشارة الى عودة الحركة الدادائية من جديد الى الساحة الفنية بعد اكثر من قرن على ظهورها في باريس، وان فكرة الرفض لكل القيم الجمالية والشكلية والتاريخية اصبحت اليوم واقعا ملموسا في انشطة معظم الكالريات والمتاحف والمهرجانات الفنية العالمية.

و يذكر ان التقدم العلمي والتكنولوجية اليوم قد افقد الفن صلته بمهارة الفنان اليدوية وجمالية الصنعة فلم يعد الفن نتاج يد الانسان بل لادوات الانسان العلمية. وكانت مهارات الفنان في اطوارها السابقة يدوية بحته، حيث منحت الفن لون من الرقي التعبيري الانساني واصبحت اللوحة هي الفنان نفسه والناطق عن روحه ومشاعره.

الاسباب لهذه الظاهرة

من الاسباب التي يذكرها بعض النقاد لهذه الظاهرة هو الهروب من قسوة الحياة والبحث عن الحقائق المطلقة، وهو في الواقع هروبا من نوع اخر، قد يكون تخلصا من تلك الموضوعات السطحية التافهه التي اصبحت مالوفة ومتكررة الى حد اصبحت الحالة تستدعي الدعوة الى توجيه دفة الاتجاهات الفنية الى الموضوعات ذات القيم والابعاد الفكرية الانسانية، حيث يكون الفن معبرا عن الكون والحياة في صورها المتعددة... ثانيا، قد يكون من وراء هذه الظاهره هو الفراغ الفكري والتشكيلي حيث وصلت الامور الى حد لم يعد الفنان قادرا على الخلق والابداع، وهو يذكرنا بعصر النهضة والتي وصل فيها الفكر والفن الاوربي الى مرحلة الافلاس، فرجعوا الى الفكر اليوناني ليستنجدوا به للخلاص من الركود والتحجر الكنسي. ثالثا، ربما قد تعكس هذه اللوحات الفارغة الخروج من عالم الابصار الى عالم الميتافيزيق، وسبق ان طرد افلاطون الفنانين من جمهوريته واراد منهم ان يلتحقوا في عالم المثل وان الفن في رأيه هو سطحي ولا يمثل الحقائق الخالدة التي لا يصيبها الفناء.

وفي هذا الاتجاه، هناك مسألة مهمة في معنى تشكيل، والتي هي كلمة مترجمة حرفيا من مفردة لاتينية اغريقية الاصل وهي plasto او plástico، وفي القاموس الاسباني ظهر لها عدة مرادفات متقاربة المعاني ( plasto = formado، modelado، finjo، forjo ) وتعني تشكيل او (كون، صنع، شكل، عجن او كور). وبالتالي فهي تعني المادة المخلوطة والممزوجة والمعجونة من عدة مواد، مثل مادة الزيت والكريلك والمساحيق الاخرى. وتعني الفنون البصرية من تصوير ونحت وسيراميك وحفر والهندسة المعمارية وغيرها، وقد شاع استعمالها في بداية القرن التاسع عشر. ومن هذا المعنى والسياق لكلمة تشكيل المعبرة عن الفكر والغنائية في التصوير نجد ان اللوحة الفارغة تقع خارج دائرة الفنون التشكيلية.

ربما اصحاب اللوحات الفارغة يردون على معارضيهم من ناحية كيميائية اي دراسة المادة وتركيبها من ناحية خصائصها وتتضمن دراسة تحليلية لذراتها وتركيباتها وتفاعلاتها. وبالتالي فان كل مادة في الوجود هي مادة تتكون من ذرات متحركة. واللوحة الفارغة هي في حقيقتها العلمية ليس جامدة وانما متحركة سواء كانت بيضاء او بلون اخر. وقد طرح الفنان العراقي محمود صبري نظرية – الكم – وتطرق الى خصائص المادة اللونية في مطلع السبعينات من القرن العشرين، ولكن طروحاته لم تجد لها ارضية خصبة في العراق فقفل راجعا الى براغ.

كما لاحظنا ظاهرة اخرى في الفن الحديث وهي ان بعض الفنانين يكرر مفرداته او عناصره الفنية في كل لوحاته بحيث رؤية للوحة واحدة في المعرض تكفي لتمثيل كل لوحات المعرض. بمعنى ان الفنان في حقيقته يعرض لوحة واحدة؟ وربما يعود ذلك الى هناك حدث فراغ في الموضوعات والتأمل او ان الفنان يبحث عن هوية شخصية،. واتذكر احد الفنانين العراقيين كانت كل معارضه تمثل مفردات متكررة مثل فوهاة الانابيب (البوريات)..

كان ماتيس 1869 مستقرا ومتنوعا في مواضيعه وعلى خطى سيزان والحرية في الالوان والتخطيط والتي اكتسبها من الفنون الاسلامية عندما كان عائشا في بلاد المغرب فترة طويلة. اما بيكاسو 1881 فكان اكثر الفنانين تقلبا وتغيرا في الاساليب فكان يبحث عن كل جديد، فعندما يعرض اعماله في احد الكالريات نجد هناك مواضيع متنوعة من طبيعة صامته والموديل والواقعية الانطباعية والتكعيبية وغيرها. ورغم كل ذلك يبقى اسلوبه مميزا وواقعيا تعبيريا ومثيرا للدهشة. كما ان المتتبع لمعارض بعض الفنانين العراقيين مثل فائق حسن وجواد سليم يجد هناك اداءا مميزا وابداعا متنوع المواضيع بين الخيل العربية ومناظر الريف والازقة البغدادية وغيرها مما يجعل العرض غنيا وثريا في مواضيعه وتقنياته.

 ***

د. كاظم شمهود

 

في المثقف اليوم