مقاربات فنية وحضارية

محمد الشاوي: الفن المعاصر ومهام الناقد المؤوِّل

محمد الشاويتوطئة: أصبح من الضروري اليوم على الناقد الفني الاحتكام إلى التأويل المُوسَّع، لفهم القصدية المضمرة للفن المعاصر. فالقراءة النقدية ذات المسعى الأبجدي، والمتعارف عليها إنْ على المستوى الوصفي التقني-التحليلي أو على المستوى الرسمي-الصباغي، ظلت جوفاء المعنى، وأثرية المذهب تحذو حذو النعل بالنعل، لا تُسعف المُتلقي على فك شفرة الفن المعاصر. فهي تتكئ على أرضية هشة للوصف الشكلي في بعده التحليلي الفارغ من المضمون الجمالي، والمُبتعد عن ناصية التفكير النقدي المُؤسِّس لروح الفن وجوهره، ألا وهو التأويل. بتعبير آخر، إنها قراءة نقدية تتأطر داخل نسق دائري مغلق يرفض الانفتاح على العلوم والمعارف المنبثقة عن الفلسفة كالعلوم الإنسانية والاجتماعية والمعرفية والعصبية... لا سيما إذا نظرنا إلى مختلف التحولات الراهنة التي شهدتها هذه العلوم، وفي علاقتها بالفن المعاصر على وجه التحديد.

وفي التأويل المُوسَّع، لا بد أن يتوفر الناقد الفني على عُدة معرفية يساهم بها للخروج من المعنى المضمر في الأعمال الفنية إلى المعنى المُؤوَّل أو الشبيه بالحقيقة   Le vraisemblable، وهو الذي يتم استنباطه بالانفتاح على مجالات وحقول علمية متخصصة داخل المختبر النقدي الذي يشتغل به. فمن أهداف التأويل في حقل الجماليات البصرية أنه يساهم في رفع صعوبات الفهم الجمالي للأعمال الفنية، بطرحه لأبعاد جديدة من شأنها أن تنقلنا إلى مستويات رحبة تخدم غرض التلقي. وأيضا الدفع به لوضعه بمكانه المناسب لتحقيق غايته التواصلية التي تروم خلق نقاش بين العمل الفني وكيفية التواصل معه.

في ضوء هذه التوطئة يمكن بسط الإشكال الآتي:

كيف نُؤَوِّلُ عملاً فنيا؟ وأي مسعى يمكن للناقد اتباعه في عملية التأويل؟

إن عملية تأويل الأعمال الفنية تتطلب حسب تصورنا النقدي ثلاث مستويات متكاملة تروم طرح أفق جمالي للفهم والتفسير والتواصل. حيث تتحقق علاقة الذات الجمالية المُشكِّلة للعمل الفني بالغير المتلقي فردا كان أو جماعة، وباستحضار الموضوع الفني. ودور الناقد المؤوِّل يتحدّد في فهم وتحليل هذه العلاقة ورصد أبعادها ومختلف تجلياتها المحايثة للعمل الفني.

1- الفهم الجمالي:

إن الفهم الجمالي هو أول مؤشر دلالي على استيعاب كُنه العمل الفني وجوهره، وذلك عن طريق وضعه في سياقه الجمالي بالنظر إلى المادة المُشتغل عليها، من حيث الشكل والمضمون والأبعاد الثاوية خلف فكرة العمل. والمراد بالسياق الجمالي تقريب المُتلقي من فكرة العمل الفني المنجز بتعريفه وتحديد جنسه وخصائصه التي قد تبدو مبعثرة، لكن الناقد يجمعها داخل خيط ناظم للتصور الفني الذي حمله الفنان على عاتقه داخل سلسلة الفنون المعاصرة. إذ اختار منها التعبير الذي يتناسب مع تصوره، وفي تقاطع مع اتجاهات وتيارات لها نفس الغاية.

2-  التفسير الجمالي:

ويمكن اتباعه عندما يكشف الناقد عن مستويات القضايا والموضوعات التي يستند إليها العمل     الفني بمرجعية أسلوب الفنان. حيث يقوم الناقد بتفسير هذا الأسلوب ضمن تيار من تيارات الفن المعاصر -مع إمكانية الجمع أو المزاوجة بين أكثر من تيار- فضلا عن استحضار تداخل التيارات داخل نفس العمل/المنجز. فالأعمال التجهيزية  Installations على سبيل المثال، تتطلب أنماطا متعددة للبناء الجمالي البصري للموضوع: الفضاء المكاني ودلالاته، الأحجام Volumes وهندستها، الظل والضوء، المفاهيم، القضية المضمرة التي تقتضي من المتلقي البحث عنها، طريقة العرض وأبعادها الهندسية المنظورية، المجال الإدراكي، الكل والجزء، الزمان الفني، رقمية الصورة وأبعادها الافتراضية، المستويات الدلالية لمراحل العمل: البداية، الوسط، النهاية... وكذلك هو الشأن بالنسبة لفن الأداء Art         de la performance الذي ارتبط بالفعل الحي للعمل الفني أثناء حضور المتلقي الذي يكتشف بنفسه الموضوع الجمالي ويبحث عنه. فتكون مهمة الناقد ها هنا هي توثيق الأداء الفني بتقديم تفسير متكامل في نهاية العرض. وهو تفسير يستند فيه إلى عُدة متنوعة من التخصصات والمعارف التي من شأنها أن تُسعفه في رصد الحالات النفسية والذهنية والعلائقية والوجدانية... داخل الإطار الاجتماعي وفي صميم الحياة اليومية بمختلف تفاعلاتها وتأثيراتها على الذات المُشِّكلة في علاقتها بالغير.

وعلى سبيل المثال: قد نجد في بعض معارض فن الأداء توظيف الفنان/العارض لوثبة تصالُبيَّة يُصالِب فيها رجلَيْه تكرارا داخل قاعة العرض بطريقة يندهش لها المتلقي، وقد يقرع إحداهما بالأخرى ليلعب دور راقص الباليه. وفي هذا العرض يستخدم الفنان الموسيقى التصويرية، وكذلك هندسة المكان، والألوان المعبّرة عن حالته النفسية... حيث يُمسك بيديه الفرشاة وباليت الألوان ويرسم موضوعا اختاره ليؤثث به أداءه البصري الحي أمام الجمهور.

3- التواصل الجمالي:

وهو مناقشة العمل الفني عن طريق تأويل المعاني والدلالات التي حصُل فَهْمُها. وهو تأويل يروم وضع فهم ممكن لحقيقة الفكرة التي يطرحها العمل، من خلال بحث الناقد عن إمكانيات محتملة لتفسير جمالي جديد. إن التواصل الجمالي ينقلنا بالضرورة من المعنى الصريح إلى المعنى المضمر. ويمكنه فيما بعد أن يتوسل الاستقراء في عمليتي المقارنة والتركيب، قصد الخروج بالتأويل نحو مراميه وأهدافه. وهنا يستعير الناقد مقاربات من علوم ومعارف إنسانية وبحثية مُتخصصة: الفلسفة، تاريخ الفن، علم النفس، علم الاجتماع،  الهندسة، الرياضيات، الفيزياء، علم الجمال، ميتولوجيا، الأنثروبولوجيا، العلوم المعرفية، علوم الأعصاب، اللسانيات، التداوليات،... والهدف من هذه المقاربات هو وضع أسس نقدية وعلمية للمعرفة التشكيلية والبصرية في الكتابة النقدية العَالمة.

وعلى هذا الأساس يمكن القول بأن الفن المعاصر بالنظر إلى أشكاله التعبيرية الراهنة، يفتقر إلى المضمون التأويلي إذا ما تأملنا الأعمال الفنية المُنجزة: اللوحة بمفهومها الجديد، التركيبات النحتية، الأحجام، التجهيزات، الفيديو آر، فن الأداء، الصباغة الديجيتالية... إنها أشكال غير مكتملة، والتأويل هو وحده الكفيل بملء وتدارك كل الصعوبات التي من الممكن أن ترتبط بالتلقي، دون اغفال للمستويات الجمالية للفهم والتفسير والتواصل. أي تلك المستويات التي تستند إليها وظيفة ومهام الناقد المُؤوِّل. إنها مهام يساهم بها في تذليل عوائق التلقي ورفع كل تعقيد، قصد تسهيل الفهم وتقريب الرؤية  الجمالية لأفق معياري Normative ممكن.

 

بقلم: الدكتور محمد الشاوي

فنان تشكيلي مغربي وباحث في الجماليات

 

 

في المثقف اليوم