مقاربات فنية وحضارية

جمال العتّابي: الفنان التشكيلي سعد علي.. الحرية المطلقة في التأمل والحلم

احتفت بلدية (جيبا) إحدى مقاطعات مدينة فالنسيا الأسبانية بمعرض  للفنان العراقي "سعد علي" المقيم هناك منذ عقود من الزمن، وبعنوان " جماليات الهدوء في مرسم" للمدة من 14 نيسان لغاية 19 منه،  ضمّ المعرض 40 عملاً فنياً بقياسات مختلفة، بمادتي الزيت والاكريليك، رافق حفل الافتتاح عرض موسيقي وغنائي قدمته أربع فتيات من فرقة أوبرا المدينة، كما تخللته جلسة حوارية بين الفنان وعدد من النقاد التشكيليين الأسبان، الذين واكبوا تجربة سعد الفنية، وقدّموا دراسات عنها.155 سعد علي

ما المعنى الكامن الذي يحاول الفنان الإفصاح عنه في عنوان معرضه الجديد؟ بعد أن قدّم مشاريعه الفنية السابقة " صندوق الدنيا، أبواب الفرج، حديقة الحياة"، للإجابة عن هذا السؤال يجدر القول : ان البيئة الجديدة المحيطة بالفنان، بصمت المساحات الشاسعة، وتناقضها الغريب والساحر، أوحت اليه أن ينقل هذا المشهد كعنوان للمعرض، وموضوع في اللوحة، هذا المشهد من دون شك عمل درامي مثير، غير انه في الوقت نفسه لا يكفي لتحقيق عمل فني ابداعي ممزوج بحرارة الانسان، وقلقه.

الفنان في مرسمه يطل على نوافذ واسعة، تسمح لضوء الشمس أن يتحول الى عنصر مكمّل في بناء اللوحة، مرتفعات وغابات شديدة الخضرة، داكنة، سهول فسيحة تلمع تحت وهج الشمس، والأخرى تطل على سفوح وحقول تمتد نحو الوديان، يقطف ثمارها صبح مساء.156 سعد علي

ما يزال يمارس سعد تواصلاته الوجدانية مع عمله الفني، كما لو كان يمارس طقساً مقدساً من طقوس الحياة، وهو يرقص (الفلامنكو) مع موسيقى غجر الاسبان، لذا جاء اختيار عنوان المعرض منسجماً مع هذا الطقس اليومي، في مرسمه الذي أودع فيه أسرار اللون، وأوراق العمر، هيأ له كل مستلزمات التفرغ، ومنح أسلوبه صفاء التوجه الكامل لروح الفن، ليلمّ سنواته التعبى في سلال من البهجة.

لعل تلك البيئة أوحت له أن يتوقف عند سحرها، فوجد نفسه مشدوداً بقوة فعل دينامية شديدة لعالم محيط به، يمنحه حرية مطلقة في التأمل والحلم والحوار مع الذات، ومع الأشياء من حوله، للتعبير عن ذاته، وابتهاجه الأعمق بما ينجز، حتى يبدو وكأنه يمارس هوايته من دون قيد، بانسيابية الهاوي على هواه، برغم تجارب السنين الطويلة في الرسم، فهو (سعيد) بنفسه، مثل كل الخالدين، وكما يقول "ديلاكروا" في رسالته الى جورج صاند * :  "سأظل أعمل حتى ساعة الاحتضار " ذلك لأن القوانين العليا في الفن لا تتيح فرصة اللعب بالخواص الجوهرية للفن، وما يحمله الفنان من عذاب أليم خلال مخاضات الابداع، لا يعادله شيء في الوجود إلا بالوصول الى نقطة الخلاص المبهج: الولادة المبدعة للعمل الفني الخالد.157 سعد علي

كيف لنا أن نضع اشتراطاتنا لفهم أعمال سعد علي، الذي راح بعيداً من مدينته الديوانية الى بلد سلفادور دالي، ولوركا، والجورنيكا، ومصارعة الثيران، وهستيريا مشجعي كرة القدم؟ فبرغم الفرار، لا يستفيق من غيبة الحلم الذي يظل يلازمه، مشدوداً لأزمنته الاولى، منتعشاً بأريج تراب تراثه العميق، بمذاقاته الفطرية، الحكايات والأساطير، الماء والطين، الموروث الرافديني، رذاذ طلع النخيل المتعلق بأهدابه، الجذور الممتدة عميقاً في سهوب مستوطنات ما قبل التاريخ، أبواب البساتين التي تنفتح تلقائياً مع ندى الفجر، حيثما الشمس غافية، عالم من الشبابيك والأبواب والقباب والبيوت والأضرحة والوجوه، وقصص وأشعار للحب، عالم من الألوان يستدعيه سعد علي، يستحضر كل مخيلته لهذا الفردوس كي تفيض اللوحة بالنضارة والنعومة والإغراء، والوجوه بخطوط لينة ورقيقة، عذبة الامتلاء.158 سعد علي

ما يزال سعد " عوداً طرياً " في رحلة البحث عن مساره الفني، مفتوناً بطاقته الابداعية، ومهارته الفنية، بما مخزون في أعماقه من تجارب الفن التشكيلي العالمي، واعياً بانتقالاته في الأسلوب والموضوع، لاتغادره مدينته الأولى التي شهدت فتوته الفنية والإشارة الأولى المعلنة عن موهبة ستأتي، ولعل سعد أحد الفنانين العراقيين  القلائل الذين استطاعوا أن يحققوا حضورهم التشكيلي في المجتمع الأوربي، وهي حالة نادرة لم ينلها فنانون كبار، ذلك أنه أبدع هويته  من خلال أسلوبه الخاص، مراعياً بذكاء ذائقة الجمهور الغربي، ملبياً حاجاته البصرية، للاجواء الشرقية الحلمية، والفضاءات المفتوحة بالألوان الزاهية التي تحيله الى عالم الف ليلة وليلة، محرراً من القياسات والمسافات، ينتقل اليهم، ويديم حياته بينهم، فشكل بذلك اضافة جديدة لحركة التشكيل العراقية، تتطلب باعتقادنا وقفة تأملية عميقة تبدأ بالعصر وتنتهي بذات الانسان الفنان.

ومع ان النظرة العابرة لايمكن أن تستقصي كل أبعاد أعمال الفنان سعد، كما انها لا تستطيع أن تقع على حرارة الاخلاص التي تشعّ منها، الا انها تستطيع أن تؤكد حقيقة واحدة، وهي ان الفنان لم يبتعد عن منظوره الروحي، ولا نوازعه الانسانية الصافية، بل أراد التعبير عنهما بقدر وافٍ من المشاعر الطازجة، وقد أوفى بذلك.159 سعد علي

يمنح سعد علي تشكيلاته قدرة التحليق والالتحام، عبر طاقة تعبيرية مكثفة، لتقيم حواراً بين سطح اللوحةالخارجي، ونظر المتلقي، وعمد الى تكرار ثنائية المرأة والرجل في أكثر من عمل، بعيون تتسع نحو السماء، وأخرى مخفية، عيون الجسد، وعيون الخيال، والبصيرة التي ترى ما وراء الظواهر، ولكي نرى الاشكال بوضوح، بفهم وعاطفة، علينا أن نمرّن العين الاولى على النظر الى الأشياء، ونساعد الآخرى على الغوص فيها وراء المنظورات.

قد تفيض التجربة، فتلامس حدود المألوف، أو تتعداه الى مواطن الكشف، بهذه الحقائق يقودنا سعد الى النظر والتأمل في عالم مفتوح لانهائي، تنبسط على مساحاته الوجوه الشائهة، والقبل الساخنة، والعناق الأبدي لكائنات تمتد أطرافها وأناملها بحركات رشيقة نحو السماء، أحسب أن دهشة اللوحة تكتمل بالتنوع اللوني الزاهي، ووجه المرأة الطاغي على التفاصيل الأخرى، والجرأة في الاداء والتحوير، واكتساب ملامح الشخصيات الخاصة بالفنان،

ما من شيء يتموضع في هذه الكتل الحميمة، حتى الحيوانات المدجنة في أعمال سعد تبدو أليفة وادعة تتجاسد فنياً مع حالة الاسترجاع الزمني، وتفرض وجودها عند البشر، بل تبدو معادلاً لحنان الطبيعة، ووجوداً يتصادى مع التذكارات. حقيقية هي الأشجار المثقلة بالطيور والأثمار، بالعناقيد ولآلىء الوهم، لكنها تظل مرسومة بريشة التوق للمجهول، فلا تمتلكها اللحظات العابرة، ولا يمتد لها حصار الأزمنة، تتوهج آناً وتنطفئ تارةً أخرى، فالرحلة تبدأ من هنا، إذ يتنفس جسد العالم كل الظلمات المحبوسة وراء الأقفاص.

كل هذه الرؤى الفضائية الجميلة، تعيش مأسورة في جنائن (سعد)، في إيناس حدائقه، يحيا آشور، وگلگامش، وعلى ضفاف أنهارها الصغيرة تخفق الريشات (الواسطية)، حيث تولد (فينوس) الشرق، من لهب الإبداع والتأمل.

***

جمال العتّابي

في المثقف اليوم