مقاربات فنية وحضارية

كاظم شمهود: من اقطاب الفن المعماري العراقي.. قحطان المدفعي

من المعروف ان الفن عطاء حضاري وموقف اجتماعي راق. فعندما تصبح غاية العمل الفني سواء كان تشكيلي او معماري، ثقافية وجمالية فانه يعني ان الفنان قد بلغ ارقى مراحل التكامل الذهني. وقد كان ولازال تصميم المباني يتمشى مع الحاجات النفعية والوظيفية . ثم تطور التصميم واظيف اليه العنصر الجمالي الذي يخلق البجه للمشاهد.. وقد اتخذت بعض التصاميم نهج المدارس الحديثة مثل التكعيبية والتجريدية حيث ظهرت انماط مختلفة من التصاميم مثيرة للاعجاب والدهشة.

قحطان المدفعي واحد من ابرز المعماريين العراقيين الذين تشهد لهم اعمالهم المنتشرة في العراق على نبوغه وحداثته في التعامل مع تصاميم وجمالية البناء.. وخلال تجربته ركز المدفعي على ثلاثة عناصر معمارية هي 1/ الوظيفة. 2/ الجمال 3/ الحركة. يضاف الى ذلك البعد الحضاري في الاشكال حيث استخدم مادة السيراميك خاصة في جامع آل بنية. وهي مادة استخدمها البابليون والاشوريون في عماراتهم. وقد شكلوا السبق العالمي في الاستخدام كما هو ظاهر في باب عشتار.3205 قحطان المدفعي

وكان المدفعي دائم العشق للفكر والفن العراقي القديم. ولهذا فهو دائما يربط الهوية العراقية مع الحداثة اي بين الماضي والحاضر.. وكان المدفعي يؤمن بالخطوط المنحنية في تصميم عماراته حيث يرى وحسب نظرية انشتاين ان العالم مكور وبالتالي فانه ابتعد عن الخطوط المستوية والزوايا القائمة والسطوح المتعامدة الا ما ندر وحسب الحاجة وتمثل ذلك في تصميم جامع آل بنية الذي يقع في منطقة العلاوي في بغداد. ويعتقد المدفعي ان التقدم الحضاري للعمارة يجب خرق المألوف بالابتكار والاختراع. ولهذا فان المدفعي لم يعتمد على الشكل المربع او المستطيل المتعامد في الخطوط وانما اعتمد على المنحنيات .

و يقول المدفعي (بعد نصف قرن من ممارستي سلفية عادية مالوفة متوارثة انتقلت الى عالم الحياة بل هي صنوة وتوأمة، فلا انسان بدون عمارة ولا عمارة بدون انسان) وكان المدفعي اثناء دراسته في ويلز فتحت له ابواب فنية جديدة تسودها الحداثة والتجريد. واصبح له اسلوبا وفكرا مميزا عن غيره من المعماريين العراقيين. فكان فكره حداثوي يتماشى مع حركة الفن في العالم، وقد ركز على الديناميكية في الاشياء.3206 قحطان المدفعي

.. ولد المدفعي في بغداد عام 1927، من عائلة اشتهرت بالعلم والفن والادب والشعر. ولهذا فانه ولد في بيئة مثقفة وخصبة. وكانت هذه من الاسباب التي دفعته الى دراسة العمارة والفن. ويذكر المدفعي انه رأى في احد الايام جواد سليم بعمل نحت بارز يمثل شعار مصلحة الركاب في بغداد. وانه رأي الشعار محاطا بزخارف واحرف جذابة.. ومنذ ذلك الحين اصبحت لديه رغبة كبيرة في دراسة فن العمارة.

ويذكر ان والده توفى مبكرا وترك خمسة اولاد تحت رعاية والدتهم. وكان هؤلاء الابناء قد خرجوا نوابغ كل في اختصاصه.. وقامت الوالدة ببيع احد املاكهم السكنية ودفعت مبلغها الى قحطان كي يكمل دراسته في الخارج في جامعة ويلز في مدينة كارديف في فسم الهندسة المعمارية. وبعد تخرجه عام 1952 عاد الى العراق وقام بعدة تصاميم عمرانية نفذت في حينها. وكان المدفعي احد اعضاء جماعة الرواد حين تاسيسها عام 1950 وشارك معهم في النشاطات الفنية. وايضا كان من مؤسسي جمعية الفنانين العراقيين، وكان احد اعضاء الهيئة التدريسية الاولى المؤسسة لقسم الهندسة المعمارية في جامعة بغداد في منتصف الخمسينات مع الدكتور محمد مكية وهشام منير المخزومي وناصر الاسدي . وكان المدفعي واسع الثقافة والحركة فهو ليس معماريا فقط وانما رساما وشاعرا ورجل محاور القى الكثير من المحاضرات واللقاءات حول تطور العمارة والفن واهمية التراث في ذلك..3207 قحطان المدفعي

و في عام 1984 عاد المدفعي الى جامعته الاولى التي تخرج منها في مدينة كارديف وعمل شهادة الدكتوراه في العمارة ثم عاد الى العراق ليكمل مشاريعه الكثيرة التي تنتظره.. ويذكر المدفعي ان ابن عمه زيد محمد صالح كان رساما ومهندسا. وقد فكر زيد بانشاء جمعية تضم كل الفنانين العراقيين وانه كلف المدفعي بتنفيذ هذا المشروع. وفي عام 1957 خصص الملك فيصل الثاني ارض في منطقة المنصور وكلف المدفعي في تصميم البناء. وقد تبرع كولبنكيان في دفع كلفة المشروع. علما ان الملك فيصل كان رساما هاويا. وقد تم انشاء الجمعية بكلفة 30 الف دولار وهو ما ادهش كولبنكيان متسائلا كيف انجزتم هذا البناء الضخم بهذا المبلغ الزهيد. وهو مبلغ عادة ما ادفعه هدية (بخشيش) للعاملين. نعم كان الصدق والجدية والنبل من صفات ذلك الزمن فلم يكن هناك غش وتحايل واستغلال كما يحدث اليوم..

ويقول المدفعي ان آلة المجرشة التي يستخدمها اهل الحنوب في طحن الحبوب هي اساس الملوية في سامراء حيث تدور حول نفسها بدون نهاية. وهي جزء من الحركة الطبيعية التي تمثل ثقافة اهل الجنوب السومرية القديمة. كما يذكر المدفعي ان قوس طيف الشمس الملون هو في حقيقته يمثل عمارة الفنانين سواء كانوا معماريين او رسامين بالوانه وانحناآته.

ومن اعمال قحطان المدفعي. تصميم دور مصفى الدورة 1952. دور شركة النفط 1955. جامعة ست نفيسة 1954. مصرف الرهون 1957. مبنى جمعية الفنانين العراقيين. وغيرها من المشاريع يضاف الى ذلك حاز على عدة جوائز عالمية ووطنية ..

توفى المدفعي عام 2021 في اثينا عاصمة اليونان ثم نقل جثمانه ليدفن في بغداد.

***

د. كاظم شمهود

في المثقف اليوم