مقاربات فنية وحضارية

كاظم شمهود: قاسم سبتي واعوام المحنة

الفنان العراقي قاسم سبتي عاش ظروف ومحنة العراقيين ايام الاحتلال الامريكي للعراق عام 2003 وما خلفه من دمار للثقافة العراقية حيث حرق الاحتلال اكثر من 20 مكتبة في العراق منها مكتبة كلية الفنون الجميلة في بغداد وكان قاسم شاهدا عليها. وهو يذكرنا بما فعله هولاكو عندما احتل بغداد عام 1258 وحرق مكتباتها وحولها الى رماد وركام. وقد شاهد قاسم كيف تتطاير اوراق الكتب المحترقة وتتبعثر وتداس ببصاطيل الغزاة الاوغاد.. (الشمس شمسي والعراق عراقي.. ما غير الدخلاء من اخلاقي.. داس الزمان على جميع مشاعري.. فتفجر الابداع من اعماقي.. / كريم العراقي).

كنت كلما ازور بغداد امر على كالري حوار فيستقبلني قاسم بالعناق ويوقد النار. واتذكر في يوم من ايام المحنة زرنا انا والصديق الكاتب والاديب جبار ياسين وصديقته الفرنسية في مقره في كالري حوار فاشعل النار وبسط السمك المسقوف، وكان يوما عربيا كريما جميلا لا زال في الذاكرة.186 قاسم سبتي

و كان من عادات العرب في ذلك الوقت اشعال النار في الصحراء كعلامة للضيافة والكرم حيث يهتدي اليها المسافرون من بعيد ويعتبرونها اجمل نجمة على الارض واجمل من نجوم السماء. حيث يحلون على احد الكرماء العرب ضيوفا. وهؤلاء الكرام العرب يستقبلون ضيوفهم بالفرح والبشاشة والابتسامة رغم عدم معرفتهم بهم. وقال احد شعرائهم:

أُضاحك ضيفي قبل إنزال رحله

ويُخصب عندي والمكان جديب

وما الخصب للأضياف من كثرة القرى

ولكن وجه الكريم خصيب

فن قاسم سبتي

قرأت كل ما كتب عن اعمال قاسم سبتي فوجدت المديح والاطراء هو المسيطر عليها. الواقع ان عملية النقد تحتاج الى موازنة. ويجب ان تجري وفق سياق اخلاقي وان يكون فيما يقول الناقد ما يدل على ان في المنبع يكمن الحب.. وان خلا من الحب فقد خلا من الكثير من الفهم ويدخل في متاهات الكراهية والاحقاد. حسب رأي جبرا ابراهيم جبرا. وعندما سالوا جبرا لماذا نجد نقدك خاليا من ذكر السلبيات. قال نحن بشر لدينا سلبيات وايجابيات فعلينا ذكر الايجابات وتنشيطها للحب والجمال. اما السلبيات فيمكن للفنان بمرور الوقت ان يرممها ويصلحها.188 قاسم سبتي

ومن المعروف ان الانسان لديه تجارب ذاتية وهناك تجارب اخرى لدى الاخرين. والناقد يحاول السعي بين هاتين التجربتين. وفي كل الاحوال تبقى اراء الناقد تعبر عن وجهة نظر شخصية. وان اخطر شئ في كل امة او فرد اقامة الحواجز بينهما فيؤدي ذلك الى الانغلاق واسدال الظلام على الحياة.

قاسم سبتي ينتمي الى المدرسة التجريدية التعبيرية التي اسسها الفنان الروسي كاندنسكي حوالي عام 1910. وهي مدرسة معروفة بخصائصها الفنية حيث تحيل الاشكال الى سطوح وخطوط ونقاط واختزال والى اشكال هندسية ورموز وغيرها. وعمت هذه المدرسة العالم وتأثر بها الفنانون العرب. وكانت حوادث عام 2003 قد الهبت في قاسم الالم والغضب حيث اخذ يتعاطى مع مواضيعه تعاطيا عميقا جادا شجيا. بحثا عن المضمون او ماهية الاشكال وعمقها واستنطلفها.. وعلى اثر تلك الحوادث قام قاسم بمعرضين الاول حمل عنوان – اقنعة النص – والثاني – حروف مخبوءة - لقد احال مشاهد الحرق والرعب الى قصصات ورقية متراكبة تعبر عن عمق الماسات والدمار. حولها الى مشاهد بصرية حية مؤثرة. وهو بمثابة شاهد على جريمة العصر. وكانت بعض القصاصات الورقية تحمل عناوين متآكلة لكتب محترقة وكأنها تقطر حبرا او دما... وهو يذكرنا بماساة حرق كتب العرب في غرناطة. فبعد طرد العرب من مدنهم واراضيهم جمعت المخطوطات العربية في احد ساحات غرناطة وقيل كان عددها اكثر من مليون مخطوط تمثل عصارة الحضارة والثقافة والعلوم العربية في الاندلس. واشعلوا فيها النار. حتى ان بعض الجنود كانوا قد اخفوا بعض المخطوطات تحت ارديتهم لما فيها من زخارف وخطوط مذهبة جميلة.190 قاسم سبتي

قاسم سبتي احال اشكاله الى سطوج ورموز واحرف مختبئة بطريقة الكولاج مما جعل المتلقي يبحث عن دلالاتها وفك معانيها. حيث تحمل هذه المعالجات رسائل شجية واحتجاجات تحرق القلب على مأساة ثقافتنا الضائعة. كما نشعر من خلال القصاصات المحترقة بالصراخ المنطلق منها كصرخة لوحة ادوارد مونخ.. وتذكرنا اعمال سبتي باعمال الفنان الاسباني مانويل ميارس Manuel mellares 1926 -و قد تاثر به معظم الفنانين المغاربة مثل مكي مغارة.

قاسم سبتي ولد في بغداد عام 1953 وتخرج من كلية الفنون الجميلة عام 1980 وقد شغل عدة مرات رئيس جمعية الفنانين العراقيين في بغداد وقد شارك في المعارض المحلية والدولية وهو لازال طالبا. عمل عدة معارض شخصية وجماعية وحاز على جوائز عديد. ولازال يقيم ويشارك بطاقات ابداعية لا تستنزف.

وقد عمد اصحاب التجريد اليوم الى التقليل من ايقاعات الشكل فحذفوا كثير من التفاصيل بحثا عن الروحه او المضمون. ولهذا كان الفن التجريدي سائدا قبل ظهور مدرسة التجريد من قبل كاندنسكي او غيره.. وقبل ان يتطرقه ويتذوقه موندريان الذي يرى ان تقديم الجمال مجردا وجافا خير من ترطيب العمل الفني برمز واقعي (حسب رأيه). كما ذكر جاك بولوك ان كل ما قدمه من لوحات واقعية لا يعادل لوحة واحده من اعماله التجريدية الاخيرة.189 قاسم سبتي

د. كاظم شمهود

في المثقف اليوم