مقاربات فنية وحضارية

جمال العتّابي: الفنان (خوان ميرو).. عينه على الجناح السومري في اللوفر

الثقافة الاوربية إحدى مصادر المعرفة الانسانية المهمة في العالم، تركت أثرها القوي في الحضارة العالمية، لتنوعها الثقافي، وتاريخها الغني في الادب والعلوم والفلسفة والفنون فأصبحت إحدى اهم مصادر الابتكار والنهوض، وبفضل ذلك استطاع الانسان الأوربي من اكتشاف مصادر حضارة الشعوب الأخرى. ثم نقلها الى متاحفه في حملات واسعة رافقت بداية النفوذ الاستعماري في مناطق مختلفة من العالم ومنها البلدان العربية، ولاسيما العراق ومصر، اذ تمثل حضارتهم أهم واقدم حضارتين في العالم، (وادي الرافدين،والحضارة الفرعونية).

 علينا أن نعرف كذلك في مقابل معاناة شعوب تلك البلدان التي كانت عاجزة في مواجهة مصيرها، وخاضعة لارادات الدول الاستعمارية، لم تكن تدرك حجم السرقات التي تعرضت اليها كنوز حضارتها، كانت التماثيل السومرية مثلاً لا تنتمي لعالم النحت وحده، بل الى عالم الجمال وهذا هو بالذات ما عناه الفنان العالمي (خوان ميرو)* حين أشار يوماً إلى الجناح السومري في متحف (اللوفر) قائلاً :

(هذا هو جناحي… لقد كنت أحضر في الماضي إلى هذا المتحف لتأمل اللوحات الفنية بشكل خاص، أما الآن فإني أحضر لرؤية هذا) مشيراً إلى الجناح السومري.

   ترى ما هو التفسير المنطقي لاشارة الفنان ميرو ؟

  لأول وهلة، سنفتقد القدرة على الاجابة الصحيحة في الحال، أمام دهشتنا للاشارة، غير اننا سرعان ما نكتشف بعد لحظة من التأمل الهادىء والتفكير العميق، بأن الفنان ادرك عبقرية النحات السومري في اعقد مناطق النص التشكيلي وأكثرها إشكالاً، كما فتح ذات الباب الذي عالجه (بيكاسو) حين أطل على الفن الأفريقي من خلال عيون تماثيله،فغدا في الحال، وغبّ الانتهاء من لوحة(فتيات أفنيون)** أحد أهم ينابيع الالهام في الفن الحديث، كما شكل المنعطف التحولي الأكبر بتياراته ومذاهبه. ولعل ميرو قد فاجأنا بالتنبيه إلى حقيقة كانت غائبة عن أذهاننا من قبل، وهي ان أبواب كنوزنا الفنية ما زالت موصدة بأختام الاهمال والغفلة والشعور الخاطىء بالصغر، فيما أصبحت (كلمة السر) طوع أيادٍ أخرى.

 إذ يعرض متحف اللوفر واحدة من أهم روائع المنحوتات البارزة Rellef السومرية في عصره الذهبي منذ اكتشافها من قبل أحد الآثاريين الفرنسيين في أوائل القرن العشرين في مدينة لگش، كما يعرض المتحف واحدة من أهم روائع النحت السومري، ونعني بها مسلة النسور أو العقبان، والجدار السومري النادر، كما يفتخر المتحف باحتوائه على مجموعة تماثيل كوديا الجميلة،

ولعلنا سوف لا نخطىء الطريق الى هذه الابواب إذا ما اعتبرنا بأن إشارة موحية لميرو كهذه، يمكن أن تكون مدخلاً يفضي بنا الى فهم أعمق لفنون حضارتنا العظيمة،كما يسمح لنا بالتوصل الى درجة أعلى من حدة الرؤية وقوة التحكم في ادراك : أن لا نكون أمام الأشياء، بل في داخلها، وهذا ما سيقودنا الى استدعاء الخزين المضموم كله من كنوز تلك الحضارات، أملاً في تحقيق الوحدة بين مستويين من شروط حياتنا الثقافية الجديدة : الماضي والحاضر.

 من هذا المنظور الذي يشكل نقطة انطلاق مفترضة تحمل دلالاتها الخاصة كما تحمل توجهاتها المستقبلية، يمكن أن نبدأ خط سيرنا الفكري السليم لترسيم حدود أنظمة فنية قادرة على العمل وفق أسس صحيحة.

***

د. جمال العتّابي

………..

*خوان ميرو: (1983-1893)، الفنان التشكيلي الاسباني ولد في برشلونة، اكتسب شهرة عالمية في الرسم والنحت من خلال أعماله التي تجمع التجريد بالسريالية، اختار الإقامة في باريس أثناء الحرب الأهلية الاسبانية في أواخر ثلاثينات القرن الماضي.

** فتيات أفينون:

مثلت لوحة آنسات أفنيون للفنان بابلو بيكاسو نقطة تحول في أعماله، اللوحة لآنسات عاريات، لكن الوجوه غريبة، والعيون غير طبيعية وغير متناسقة، هذا التحول ظهرت بعد ان غادر بيكاسو اسبانيا واستقر في باريس، عام 1900 واكتشف الحياة البوهيمية فيها، وعاش في فقر مدقع. وفي اربعينات القرن الماضي قام بيكاسو بعدة رحلات الى الكونغو لتعلم تقنيات الرسم من الفنانين المحليين، واستكشاف الفن الأفريقي مما أثر على أعماله اللاحقة. 

 

في المثقف اليوم