روافد أدبية

عوالم كآبتي

mahdi alsafiدخلت مسرعا شقتي، واغلقت بابها بقوة، ثم وقفت خلفه، رافعا رأسي، وعيناي مغلقتين، توقعت انه سيحجب عني الاصوات والضجيج، لا اعرف لماذا في هذه اللحظة تمنيت ان يكون العالم صامتا، تعبت من هذا الامل البسيط، اريد الهدوء، ابحث عنه بأي ثمن، مشيت خطوات قليلة وكأن في قدمي قيود السجان، تركت اغراضي على الطاولة، كنت محظوظا قليلا، لا احد في البيت، لم اكن متعبا من عملي، ولا ابحث عن قيلولة، اردت فقط ساعة او لحظات هدوء، انزع من رأسي كل شيء وارميه من شباك الذاكرة، استلقيت على سريري عله يسعفني من همومي، يوم او لحظات بلا سياسة وبلا اعلام، ولا حتى مجرد التفكير بحجم نملة بحياة الناس والمجتمع او مجال عملي وحياتي الخاصة والعامة، مجرد حاجة لفراغ زمني بسيط للاسترخاء الروحي،

ثم اردت ان اعصرالذاكرة للخروج من هذه الحالة الغريبة بالعودة الى الماضي الجميل

لكي تعود الى ايام الامل والاحلام والطموح، ايام الجامعة وعنفوان الشباب، والقاىمة الطويلة من الامنيات التي كانت دائما ترتسم امامي، وكأنها لوحة معلقة في السماء، اراها اينما ذهبت كالشمس او القمر وكذلك النجوم لن انسى النجوم وانا انظر لها يوميا من على سطح منزلنا، منزل اهلي القديم، بخصوص النجوم كنا نسمع الشعر والاغاني التي تقول سهرت الليالي اعد النجوم، بالفعل كنا اطفالا نعد احيانا بعض النجوم دون ملل حتى ننعس وننام،

اين ذهبت تلك الايام، والى اين يتجه هذا العمر المسرع دوما، فجاة قفزت من الفراش اردت ان اقلد مايفعله الممثلين في التلفاز، قهوة وسجارة واوراق لكتابة مايخنقني في هذه الوحشة الخاطفة، تغيير في نمط الحالة النفسية،

مابين غرفتي والمطبخ اقتحمت جمجمتي عبارات الكابة، اشعر احيانا ان جن يخترق الذاكرة بقوة وكأن اقوال العرافين والمشعوذين صحيحة حول قصص الجن، المهم هذا امر اخر، لكن اعود لصدى عبارة الكأبة، فهذه العبارة سمعتها كثيرا هذه الايام، ورددتها اكثر من مرة،

وسالت نفسي بعجالة هل هذه فعلا اي حالتي النفسية السيئة هي من علامات الكأبة، هل دخلت عوالم المرض، فالكأبة لاتأتي من سبب واحد، بل من عدة اسباب مجتمعة كما اعتقد، تحيط بالشخص في لحظة معينة كالكابوس او كالوحش المفترس او كالكمين، اما ان ينهار الشخص ويسقط اويقاوم كالفارس الشجاع لينجوا من التهلكة، فعوالم الكأبة كثيرة منه عالم المشاكل الشخصية والاسرية وعالم السياسة واماكن العمل، الدين اخلاق المجتمع البيئة التراث، الدولة والادارة والاقتصاد والاثار النفسية للمحيطين بالشخص، كلها عوامل مؤثرة في خلق عوالم قلقة تسبب تلك الحالات، لست خبيرا في هذا المجال، ولست ايضا طبيبا نفسيا، لكنني غارق في عالم النفس والاجتماع والتساؤلات المختلفة بينهما منذ الصغر

جلست في حافة كرسي الجلوس دون ان استرخي كاملا، اشرب القهوة، ومع اول سجارة عرفت اني امر بدوامة التحطم الكامل، لم اعد اطيق عملي والشارع وبيتي وحياتي،

لا اعرف مالذي جرى لي، لماذا كل هذا اليأس وكره الواقع، ولا اعرف في الحقيقة سبيلا للخروج من هذا المأزق، مع انني لم انظر في المرأة كثيرا هذا اليوم، لم اركز على تجاعيد الوجه او شيب الرأس، هكذا دون سابق، انذار غريبة تلك الحالة

وقد اتخذت قرارا مسبقا ان لا اقرأ اية جريدة او صحيفة ورقية او الكترونية، ولن افتح التلفاز او شبكات التواصل الاجتماعي،

وسأصلي كل هذا اليوم قضاءا، فأنا اشعر اني في قفص صغير، الغريب انك عندما تشعر بالضيق والحزن والاختناق سرعان ماتجده قد وصل الى اعلى البلعوم قرب الحلق، وكأن شيئا بداخلك يصعد من اسفل قدمك ليخنقك من الرقبة، نهضت خائفا من الموت،

سمعت عن قصص كثيرة عن الموت المفاجئ، الكثيرين يموتون ساعة الكابة والحزن او الغضب الحاد، خرجت من شقتي الى المجهول، اردت اي مكان خال من الضوضاء، وخصوصا من اصوات البشر، اخذتني قدماي الى مكاني المفضل الساحل القريب من مطار العاصمة،

شاهدت الحياة تطير وتحط في حركة مستمرة، تثبت لك حجم الانسان الصغير جدا مقارنة بحجم هذا الكون العظيم، ثم يرتد عليك سؤال مباشر،

من انت؟

وماهو تأثيرك في الحياة والمجتمع والتجارة والانجاز والاكتشافات والتطور العلمي الخ.

كل هذه الاشياء اصبحت كما اشعر انها وسيلة مريحة لسحب عوالم كأبتي بالتدريج،

لقد خفت وتراجعت وتيرة الكأبة

وبدات اردد عبارات الاسترخاء

"الدنيا لاتسوى شيئا...لايوجد هناك شيء مهم نحزن من اجله..الحياة مجرد لعبة..انها لحظات الازمات النفسية الطبيعية، الحياة فيها اشياء جميلة...على الانسان ان يتمتع بحياته بأقصى طاقته."

نهضت مسرعا ابحث عن اقرب مطعم، اي محل لبيع العصائر او الكباب، الشاورما او البيتزا اي شيء، اشعر ان بطني فارغة، كأني لم آكل منذ زمن طويل،

وانا اسير ايضا خطفتني ومرت من امامي كجن اخر فكرة الكأبة بطريقة سريعة بالرغم من مقاومتي الشديدة لها، فقراري الجديد ان اغلق عقلي امام اي فكرة مؤذية، لمنها دخلت عقلي اخيرا، فهم يقولون ان حالة الجوع والاكل الزائد والسمنة من علامات الكأبة،

ومع هذا اردت ان اقاوم تلك الموجات المزعجة، التي تأتي الى الذاكرة بشكل عشوائي ودون استئذان او رغبة مني،

قلت لن انصت الى تلك الهواجس، سأصرف كل مافي جيبي، سأكل دون اكتراث لنظام الرجيم ومرض السكر والسمنة،

سأكسر كل القواعد هذا اليوم،

سأبحث عن الفوضى، مللت الالتزام والترتيب والقيود والنظام،

اسميته يوم العبث الشهري، بدلا من البقاء في عوالم الكأبة مكبلا بحزمة قيوم لاتنتهي ابدا،

فقد قرأت قبل فترة ان الانسان يحتاج احيانا الى ساعة جنون، اي حتى اذا كنت جالس في بيتك اعمل على تغيير نمط وترتيب المنزل،

العب بالوسائد والشراشف والافرشة، اضحك من كل قلبك، وغير روتين حياتك،

كنت احيانا في ايام الجامعة انحرف عن المطاعم النظيفة الرئيسية وادخل الاسواق الشعبية، ابحث فيها عن مختلف الاكلات الشعبية التي تقدم من خلال العربات الخشبية او المساطب الخشبية او الحديدية القديمة، واستمتع بسندويجاتهم اللذيذة، وعصائرهم الملونة، واغراضهم وبضاعتهم الغريبة المعروضة للبيع بعضها كان رخيص جدا مقارنة بالمحلات في الشارع المقابل لانها مهربة كما يبدوا ولم يدفع اصحابها الكمرك،

كان هذا اليوم من اصعب ايام حياتي،

لا اعرف ما الذي حصل وما اسباب تلك الازمة النفسية العنيفة، وهل هي فعلا علامة من علامات الاصابة بمرض الكأبة،

كنت خائفا من تلك الحالة، فمجرد الشعور بالخوف والقلق والموت في ساعة او لحظات واحدة، حتما تصاب بحالة رعب رهيبة،

هل يعقل ان الانسان كائن ضعيف الى هذا الحد، لايجد احيانا اي شيء يمكن ان ينقذه او يسعفه من الازمات النفسية،

وبعد ان امتلأت المعدة بالمأكولات والمشروبات عادت الحياة الى طبيعتها، بدأت ابتسم قليلا، واتكلم مع الباعة المتجولين وامزح مع بعضهم من كبار السن،

اشتريت بعض الفاكهة والحلويات والكرزات،

وتذكرت البرامج الاخبارية التي ستعرض الساعة التاسعة مساءا من على القناة الرسمية،

ارجعتني قدماي بسرعة الى شقتي، وجدت الجميع في انتظاري من اجل الغداء سوية، قلت لهم سبقتكم شبعان جدا وبطني منفوخة من كثر الاكل،

 سأذهب لاصلي الظهر والعصر،

واعود لنأكل الفاكهة، ثم نتعلل بالحلويات والكرزات

كان دعائي الوحيد في صلاتي لا اعاد الله عوالم كأبتي مرة اخرى ....كان يوما شاقا بل من اصعب ايام حياتي، انتهى كل شيء تقريبا على مايرام، وبعد ان اطفأت الانوار وجميع الاجهزة الالكترونية، وما ان وضعت رأسي على الوسادة، عاد لرأسي سؤال بسيط بدى يشبه انه حجة وقصة صغيرة ستكبر لتصبح سببا للارق"لماذا حصل هذا الامر الرهيب لي هذا اليوم...وهل سيعود مرة اخرى"، بدأت اتقلب على الفراش والسؤال يتقلب معني اينما ادور واتقلب، ولدي خبرة طويلة في مجال الارق"فاذا تقلبت كثيرا في الفراش، فهذا يعني انني دخلت دوامة الارق، والتي تنتهي عادة اما بالنهوض من الفراش بحجة شرب الماء او النوم المتعب، التصق السؤال بذهني، وازدادت المخاوف من احتمال عودة وتكرار ماحصل هذا اليوم لي، نهضت من على الفراش، شربت قليلا من الماء، ثم تذكرت ان الامر سيتحول تدريجيا الى حالة الارق، رجعت مسرعا الى الفراش، قلت لنفسي سأنام، سأجبر نفسي وعيوني على النعاس والنوم،

فكأبة الارق لايمكن وصف بشاعتها وضررها، انها مزعجة مدمرة مهلكة،

لكن اخيرا انخفض عدد التقلبات على الفراش، وابتعدت قليلا فكرة ماحصل هذا اليوم عني بصعوبة، وتذكرت ان علي ان انهض مبكرا غدا صباحا للذهاب للعمل، فبدون ساعات النوم الكافية سيصبح حالي مزريا، عيون حمراء، وتكرار حالات التثاؤب والكسل، ومهنتنا بحاجة الى رأس صاحية طيلة فترة العمل، كرأس سائق سيارات الحمل الكبيرة، التي يبدأ سائقيها يومهم بفطور دسم وثقيل، بالباجة العراقية الثقيلة على المعدة المقوية للذهن...اخيرا غمضت عيناي وخلدت الى النوم، يبدوا ان الله استجاب لدعائي عند الصلاة" لا اعاد الله الي عوالم كآبتي"

 

مهدي الصافي

اب ٢٠١٧

 

 

في نصوص اليوم