اخترنا لكم

عبد الله الغذامي: هزيمة المصطلح

في أربعينيات القرن الماضي ظهر مصطلح (الشعر الحر)، ليفتح حركة شعرية ثارت على عمود الشعر العربي، وعلى فحولية القصيدة، وانفتحت أبواب الجدل على شعراء وشاعرات هذه القصيدة، وثارت ثائرة المحافظين ضدها بمثل ما تجادل حولها غير المحافظين، ودخل العروضيون على مائدة الجدل، وظلت حيوية المصطلح شديدة القوة وعريضة التمدد والانتشار لدرجة شملت كل صاحب قلم وصاحب ذائقة شعرية، وامتد ذلك لثلاثة عقود عامرة وثرية بالجدالات والنقاشات.

غير أن مصطلحاً عروضياً طل برأسه من وسط الجموع، واخترق صفوف النقاشات وهو مصطلح (شعر التفعيلة )، وهو مصطلح صحيح من حيث حاله العلمية ودقة تعبيره في وصف القصيدة ذات الوزن غير العمودي. وحقيقة فهي قصيدة تعتمد التفعيلة، وتستن لها طريقاً خارج شروط البحور المقننة بأعداد محددة ومنضبطة من التفاعيل.

ولكن السؤال المعرفي هو عن التخلي عن مصطلح الشعر الحر، وسنرى أن كلمة (الحر) هي مربط الفرس، وهي العلة التي خلقت مصادمة تثير الحساسية الأكاديمية ضد مشكلة الحرية، بما أنها تعني التمرد على الشرط العلمي المنضبط، فالعروض كعلم تمكن من احتلال التصور الأكاديمي للشعر، ومسألة الخروج عن هذا التصور تحت معنى الحرية سيكون مثيراً ومهدداً للعقلية القواعدية التي تعبد القاعدة، وتعارض الاستثناء أو الثورة على المستقر، وهذا أدى عملياً إلى انسحاب مصطلح الشعر الحر تدريجاً إلى أن اختفى تماماً، ولم يعد أحد يستخدم هذا المصطلح، وحل محله مصطلح شعر التفعيلة، وهذه هزيمة ثقافية لمعنى الحرية، وانتصار للمعنى العروضي، وقد تقبل الكل هذه التسمية حتى معارضو هذا النوع من الشعر إذ تراضوا فيما بينهم بمصطلح قصيدة التفعيلة مكتفين بهذا النصر الذي يضمن لهم سلطة المعنى العروضي ونفي الخروج عنه وكأنها عملية استحواذ ذهني، وهذه واحدة من الألاعيب الذهنية المحافظة التي تقاوم الجديد، وتظل تقاومه إلى أن تنهكه وتستولي على زمامه، حيث ابتكرت طرقاً لاحتوائه، وإعادته لبيت الطاعة من مصطلح يحمل معاني التمرد والانعتاق إلى مصطلح يفرض القيد العروضي، أي أن النص شكلٌ وجسد، ولم يعد روحاً متقدة بحس الحرية.

وصحيح أن مصطلح الشعر الحر يلتبس مع مصطلح «وايتمان»، الذي يعني الشعر المنثور، وهو الشعر الذي رفضه «تي.إس. إليوت»، ولكنه عربياً استخدم ليعني القصيدة التي تعتمد وزناً يقوم على التفاعيل وليس على نظام البحر الخليلي.

والغريب أن مصطلح الشعر الحر لم يستخدم لقصيدة النثر، ولا للشعر المنثور مع أنه يتسق مع مصطلح «وايتمان»، وآثر جماعة قصيدة النثر استخدام المصطلح الفرنسي، وبالتالي فإن مصطلح الشعر الحر عافه قومٌ، وعف عنه قومٌ آخرون، وكأن مصطلح حرية الشعر مخيفٌ، أوكأن الشاعر يتسلح بمصطلح يحمي حماه، وينظم ضربات قلبه ضد معنى الحرية الشعرية.

***

د. عبدالله الغذامي -كاتب ومفكر سعودي

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم 29/12/2023

 

في المثقف اليوم