اخترنا لكم

محمد البشاري: هل تتشابه العقول؟

لطالما استشعر الإنسانُ براعتَه في التغني بألوان الاختلاف التي تطبع حياة بني البشر، في محاولة لإظهار جمال وإيجابيات تلك الاختلافات التي من شأنها أن تعزز أواصر الترابط والتعايش والتسامح بين الأفراد والمجتمعات، استدعاءً لروح الإنسانية التي من شأنها إنقاذ الإنسان من الذوبان في نزعاته التي قد تفصله عن الجمع البشري.

والواقع الإنساني يزهر بالاختلاف، أي التنوع والتباين، باعتباره عماداً رئيسياً للتعارف ولتقريب المسافات وتعظيم نقاط الالتقاء والتشابه، إذ هناك روابط مشتركة يمكن استثمارها في الارتقاء بالعلاقات الإنسانية ولتحقيق ذات الأهداف السامية.

وحين حاول الإنسان بشتى الطرق التنقيب عن أساس الأشياء، وعن أصول بنيتها الدقيقة، سعياً منه لفهم دقيق حول نتاجاتها التي تبدو لاحقاً على أشكال وأنماط مختلفة، التقى مع أميز تلك الأمور التي احتلت مساحة عريقة في الساحة الفلسفية وتداخلت في مختلف في حقولها، أي المحاولات المعنية بفهم المنبع الأساسي والأول لـ «المعرفة».

وبالعودة مرة أخرى للحديث عن التشابه والاختلاف، نجد أنه - وعلى الرغم من تعدد التفسيرات الفلسفية التي يعزى لها مصدر المعرفة - ثمة العديد من الآراء الفلسفية التي ذهبت لتحييد وإقصاء كل من عاملي التجربة والدافع الحسي النابع من داخل الإنسان، لصالح الاعتماد غير المشروط على ملكة العقل وقدراته، باعتباره المادة الخام لمختلف الإفرازات المعرفية، لا سيما أن العقل يمثل خيطاً جامعاً لقوة فطرية يشترك فيها كافة أبناء البشر. وهنا نتوقف عند الرأي الذي يصف العقل باعتباره «أعدل الأشياء قسمةً بين الناس»، كما قال الفيلسوف رينيه ديكارت.. فهل حقاً يتشابه الإنسان في العقل باعتباره «المادة الخام» التي تتشكل منها المعرفة؟ وما الذي قصده ديكارت باعتبار العقل قسمةً عادلةً بين بني البشر؟

إن الرفض هو أول ما يمكن تخيله كردة فعل على التصريح بتشابه عقولنا، حيث يجد كل إنسان في عقله ما يميزه عن الآخر، ولذا قيل في الأمثال الشعبية المتداولة ما مفاده أن كل فرد من بني البشر رضي بعقله ولم يرض برزقه! في إشارة للتناقض الذي يأتي من عدم التهاون بتقييم كل منا لعقله، والتقاء ذلك مع نسبة لا بأس بها من الفردانية الممزوجة بـ «الأنا»، والتي تشير لها العديد من الوقائع المعيشة والممتدة على طول خط التاريخ، و«صراع الجدليات»، واتخاذ الموقف النهائي والحاسم في العديد من القضايا التي لم تنل اكتفاءها من البحث رغم اكتناز ما قدمه الفلاسفة حولها.

وفي ذات السياق، فإن الموثوقية الموجودة لدى كل واحد منا بعقله تعد أحد الأدلة التي استخدمها ديكارت للبرهنة على تشابه عقولنا، حيث إن السعي الإنساني يكون للاستزادة الثقافية والمعرفية والتطور أو الارتقاء بالمهارات والخبرات، لكنا لم نسمع من قبل عن محاولة لتبديل العقل أو رغبة الإنسان في حصوله على عقل مختلف، بل الرغبة هنا تتحدد بمتعلقات العقل من أفكار ومهارات إضافية.

إن بناء قناعة تتلاقى مع ما أشير إليه من اعتبار الإنسان ممتلكاً لمادة عقلية خام متشابهة وطاقة كامنة لا تفاضل فيها، يعيد من تصوراتنا تجاه المعرفة والقدرة على الخروج بتفرعات معرفية غنية بعيدة عن إطلاق تلك المعارف وإلصاق العمومية الفضفاضة بها، بل إن ذلك يمتد ليلقي لنا طرف الخيط الذي يعيننا على دراسة مصادر المعرفة. إن تغذية الأرضية الأساسية يختلف من شخص لآخر، حسب زاده من المعلومات والخبرات. كما أن التعامل مع سلة المواد الأولية المجمّعة من معلومات وخبرات ومواقف وأحداث.. يختلف من شخص لآخر، وبالتالي فإن طبيعة إنتاج المعرفة، وإن تشابه في خطواته العامة لدى الجميع، فإنه لا يمكن أن يتشابه في كيفية معالجة موادها الأولية والأساسية حين تعتمد تلك الخطوات على أسس ومحددات مختلفة.

***

د. محمد البشاري

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 22 مايو 2024

في المثقف اليوم