اخترنا لكم

السيد ولد أباه: الغرب وأسئلة التحديث الراهنة

«اندريه فيرسوف» مؤرخ وعالم اجتماع روسي له عدة أعمال هامة، من بينها كتابه الرئيسي الصادر بعنوان «نقطة التحول.. المستقبل الذي وقع بالماضي». وتتعين الإشارة هنا إلى أن فيرسوف ينتمي للمدرسة الاجتماعية الروسية الجديدة، التي تعتبر روسيا ركيزةَ الحضارة الأوروبية الأصيلة، مقابل الغرب «المنحط» و«المتقهقر».

وفي تشخيصه للوضع الدولي المتولد عن الثورة التقنية الراهنة، يرى فيرسوف أن العالم دخل في مرحلة ما بعد الرأسمالية، والتي من سماتها الأساسية انحسار مبدأ السوق الحرة والتبادل الكوني المفتوح، بما يعنيه هذا التحول من انهيار المؤسسات الاندماجية التي قامت عليها الرأسمالية التقليدية، وفي مقدمتها الدولة القومية والمجتمع المدني وأخلاقيات العمل والنظام التربوي الجماهيري. لقد قامت الثورة التقنية الأولى في القرن الثامن عشر على المحرك البخاري والسكك الحديدية، في حين قامت الثورة الثانية على الطاقة الكهربائية والهاتف والتلغراف، بينما قامت الثورة الحالية على الذكاء الاصطناعي والاتصال الرقمي والإلكتروني.

وعلى عكس التصور السائد الذي يرى في حركية العولمة تحققاً لمسار التوسع الرأسمالي، خصوصاً بعد انهيار النظام الاشتراكي في الاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية، يذهب فيرسوف إلى أن العالم لا يتجه إلى التوحد والاندماج، وإنما إلى قيام إقطاعات كبرى محمية بالتقنيات التحكمية الجديدة التي أنهت عملياً الفوارق بين أنظمة الحكم السياسي، فلم يعد ثمة فرق جوهري بين الحكومات الليبرالية والحكومات التسلطية. لقد انحسر الزخم الذي ولّدته الثورات السياسية والاجتماعية في أوروبا برصيدها الأيديولوجي المتمحور حول النزعات الثلاث المتعارضة: التيار المحافظ، والاتجاه الليبرالي، والنزعة الاشتراكية.

كانت هذه التيارات الثلاثة تصدر عن نفس الأفق الحداثي الإنساني الذي خرجت منه أوروبا الغربية والولايات المتحدة، وهذه المجتمعات هي اليوم - حسب المؤلف - بدون موجِّهات قيمية. لقد جرفت ديناميكية الحداثة المنظومة المعيارية التقليدية، وقوّضت العولمةُ المقومات المدنية والأيديولوجية التي أفرزتها الحداثة. وبالرجوع إلى أطروحة ماكس فيبر الشهيرة حول علاقة الرأسمالية بالإصلاح الديني وأخلاقيات العمل، يري فيرسوف أن التجربة أثبتت أن المجتمعات غير الغربية طورت آليات مناعة ناجعة لحماية مخزونها الحضاري، كما هو شأن كل من الصين والهند وروسيا. ليس من همنا هنا تقويم أطروحة فيرسوف التي تعبّر عن جانب أساسي مِن جوانب النقاش النظري والسياسي المحتدم بين روسيا والبلدان الغربية، وحسبنا الإشارة إلى ثلاث ملاحظات أساسية في هذا الجدل المتصاعد.

أولاً: إن الفكر الروسي الجديد أعاد في السنوات الأخيرة تأويلَ التجربة السوفييتية التي استمرت سبعة عقود، ومكنت من بناء إمبراطورية قوية ممتدة الأطراف، كما قادت عملية التحديث الاقتصادي والتقني في بلاد كانت في ذيل الأمم الأوروبية. وما يتضح من هذه الكتابات هو أن التجربة السوفييتية لم تكن، كما يُظَن عادةً، استيراداً ميكانيكياً للماركسية التي هي في نهاية المطاف فلسفة أوروبية، بل كانت محاولة متعثرة لبناء حداثة بديلة عن الليبرالية الغربية تراعي الخصوصيات الحضارية للمجتمع الروسي. وإن كانت هذه التجربة قد نجحت في مسلكها التحديثي، إلا أنها أخطأت في نبذ موروثها الثقافي الذي هو اليوم الإطار المرجعي للحركة «التصحيحية» التي يقودها الرئيس بوتين.

ثانياً: إن الانتقال من النموذج الصناعي التقني الحديث إلى الثورة الرقمية الراهنة يغير جذرياً النُّظم المؤسسية للمجتمعات المعاصرة، بما فيها شكل الدولة القومية وهياكلها التمثيلية والتنفيذية. وإذا كانت الدول الغربية تحاول، حسب الفكر الروسي الجديد، دون نجاح، الحفاظَ على مكاسبها الليبرالية، بحيث تتأقلم مع التحولات النوعية التي عرفتها المجتمعات الحالية، فإن القوى العالمية غير الغربية قادرة على بلورة آليات ونظم بديلة تكفل في آن واحد مقتضيات الهوية الحضارية الخصوصية التي هي أساس الاستقلال الفعلي ومكاسب التحديث القانوني والقيمي من حريات فردية وجماعية وحقوق إنسان وعدالة توزيعية.

ثالثاً: لا يمكن اختزال المعادلة الدولية الجديدة في اعتبارات جيوسياسية ضيقة تتركز في رهانات القوة والتنافس الاستراتيجي، بل لا بد من إدراك المعطيات الثقافية والحضارية التي تدخل في صلب الصراعات العالمية الراهنة. لقد انتبهت المدرسة السياسية الأميركية منذ بداية التسعينيات إلى أهمية البراديغم الثقافي في العلاقات الدولية الجديدة (بول كندي وهانتغتون.. إلخ)، ثم انتقل النموذج ذاته إلى الفكر الروسي والآسيوي من منظور مغاير.

وفي حين ركزت المدرسة الأميركية على التحديات الناتجة عن تصادم الهويات والثقافات، ذهب الفكر الروسي الجديد إلى مدى أبعد بطرح تساؤلات جذرية حول مسار التغريب الثقافي والأيديولوجي في علاقته بحركية التحديث الرأسمالي، وما لها من انعكاسات على المجتمعات غير الغربية. إنه الإشكال المحوري الذي يفتح آفاقاً رحبة للفلسفات والأفكار في عالم الجنوب بمفهومه الشامل الواسع.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد الامارتية، يوم: 26 مايو 2024 22:34

في المثقف اليوم