حوارات عامة

الكاتب والفنان التونسي سالم اللبان (الهكواتي)... في ضيافة المقهى؟؟!

من أجل التعرف أكثر على المبدع سالم اللبان المعروف بالهكواتي كانت الدردشة التالية....

 

سؤال لابد منه... من هو سالم اللبان؟

فنان اتصالي تونسي لا يستطيع الاستقرار ببستان إنشائي دون آخر. يدعى الهكواتي لاهتمامه بالهايكو وكتابته باللغتين العربية والفرنسية. فهو من أطلق على هذا النوع من الشعر ذي الأصل الياباني تسميته العربية "الهيك" وأطلق على كاتبه اسم "الهكواتي". يمارس المسرح والموسيقى والرسم والكتابة في مختلف تجلياتها. مؤمن بإنجاب الشعر من كل ممارسة فنية هدفها التعبير. مقبل على البحث والتجريب لتطوير أدواته الفنّية. مؤسّس مسرح الفينيق (1989) ومجموعة الجسر الصغير للبحوث الموسيقية والمشهدية (2002).

ترأس تحرير الصفحات الثقافية لجريدة الصحافة التونسية إبّان تأسيسها. كما أدار مصلحة الإنتاج الدرامي بالتلفزيون التونسي. من أوائل المثقفين التونسيين الذين ارتادوا الشبكة العنكبوتية ونشروا عليها أعمالهم. أول عضو يقبل في اتحاد الكتاب التونسيين بكتب رقمية. صاحب أول كتاب رقمي يحتفى به في الساحة الثقافية التونسية (ثلاثية "دفاتر الرحيل") وأوّل معرض تشكيلي رقمي ينظم في تونس (أمواج الأمومة – النادي الثقافي الطاهر الحدّاد أفريل 2003).

 

ما هي الحوافز التي جاءت بك إلى عالم الإبداع؟

- أوّلا أنا أحبّذ كلمة "إنشاء" على كلمة "إبداع"، لأنّ الإبداع غاية صعبة الإدراك أنشدها ولا أدّعيها. وثانيا أنا بصدق لا أعرف بالتدقيق ما حفّزني على دخول هذا العالم الذي كان يستهويني منذ بدأت أعي ما يحيط بي في هذه الحياة. كل ما أذكره هو أنني حين كنت طفلا صغيرا قبل سنّ الدّراسة كنت أحلم بأن أدخل مادّيّا إلى جهاز المذياع لأغنّي فيه وأحدّث من داخله أفراد عائلتي التي كانت لا تملكه. وإني لأذكر كيف كنّا ننتقل جميعا إلى بيت أقاربنا فنتحلّق حول الرّاديو لنستمع لمسرح الإذاعة ولعبد العزيز العروي وهو يروي حكاياته الشيقة. ثم حين كبرت قليلا وأصبحت كشّافا وجدتني أميل تلقائيا وأكثر من أترابي إلى ممارسة التمثيل والغناء والبراعة اليدوية. فكان طبيعيّا حين انتقلت من المدرسة إلى المعهد الثانوي أن أنتقل من نادي الكشّافة إلى نوادي دار الشعب (دار الثقافة) بمسقط  رأسي المنستير حيث تابعت تعلّم كلّ ما وجدته متاحا من الفنون من الرسم إلى الموسيقى إلى المسرح فالتصوير الشمسي والسينما.

 

ما الدور الذي يلعبه النشر الالكتروني في مسيرة المبدع الأدبية؟

- بقطع النّظر عن كلّ الأحكام التي لا يجوز تعميمها والتي هي من شأن النّقّاد العارفين المتابعين الصّادقين دون سواهم، أصبح النشر الالكتروني اليوم يتيح الفرصة لكلّ منشئ لفرض حضوره وإبلاغ صوته إلى النّاس. بالنسبة إليّ شخصيّا، شكّل تعلّم الإنترنت وإنشاء موقعي على الشبكة العنكبوتية منعرجا في حياتي. فقد مكنني من تجاوز صعوبات النّشر وفتح لي آفاقا ليس لإبلاغ صوتي فحسب ولكن للتحاور مع منشئين من كل أرجاء الأرض. ولعل أجمل ما حصل لي بفضل الشبكة، استجابة عدد من الشعراء من كندا وفرنسا وتونس وأوكرانيا إلى دعوتي بالكتابة انطلاقا من مقترحات شعرية اقترحتها يوميّا في إطار "سنتي في الهيك". وقد نشر لنا (20 مارس 2004) كتيّب ورقيّ جماعيّ في أوكرانيا عنوانه "الهيك حوار تثاقفي" (le Haïku, dialogue interculturel) دون أن يقابل أيّ منّا الآخر إطلاقا.

ولعلّه من المفيد هنا أن أذكر هذه الطرفة التي حفّزتني في البداية على امتلاك واستعمال تكنولوجيات الاتصال ثمّ العمل على توعية محيطي بضرورة السعي لاستغلالها. ففي سنة 2000 وقبل أن أشرع في تعلّم كيفية تطوير موقع واب شخصي، دخلت مرة إلى منتدى أدبيّ على الشبكة الكنديّة وقدمت نفسي على أنني كاتب وبررت كوني غير معروف بصعوبة النشر في بلدي. فقيل لي بالحرف الواحد "اليوم، في ظلّ ما توفره الإنترنت من إمكانات، لا يبقى مغمورا إلا من لا يستحقّ أن يعرف". وهكذا، طرحت على نفسي أوّل تحدّ. وهو أن يكون لي موقع أنشر عليه ثلاثيتي "دفاتر الرّحيل". وهكذا كان المنطلق.

 

ما هي طبيعة المقهى في تونس؟

- هذا موضوع يستدعي تحبير كتب عديدة تمسّ التهيئة العمرانية وعلم الاجتماع وعلم النفس وعلوم التربية وغيرها. فهذا المكان نقطة تقاطع غريبة بين مسائل حياتية شتّى. ولكنّك بالتأكيد تسألين عن استغلال المقهى للشّأن الثقافي المثقّف إن صحّ التعبير، تواصلا وتعاقدا وإنشاء ونقدا وتداول أفكار وفنون. لا يمكن أن نتحدّث عن هذا المجال في تونس دون تذكّر ثلاثينات القرن العشرين، أيّام شكّل مقهى تحت السّور مركز نهضة ثقافية وفنية أعطى تونس مبدعين أفذاذا من طينة رائد القصّة التونسية القصيرة علي الدّعاجي الذي تحتفل تونس هذه السنة بالذكرى المئوية لميلاده، وغيره ممن رفعوا لواء الشعر والموسيقى والمسرح وحافظوا على الهوية التونسية من الطّمس وكوّنوا النّواة الأولى لما سيصبح بعد ذلك الإذاعة التونسية. ولكن منذ تأسيس الإذاعة تحول مركز الثقل الثقافي تدريجيا إليها ثمّ منها إلى دور الشّعب والثقافة التي انتشرت منذ بداية الاستقلال على كامل التراب التونسي حتى لم يبق للمقاهي سوى دور مكان التّلاقي بين العموم. بل أذكر أنّ الهمّ الأساسي للمشرفين على النوادي في دار الشباب ودار الشعب بالمنستير حيث نشأت، كان منعنا بكلّ الوسائل من "السقوط في تيّار المقهى" وما كان يمثله من نفور من الدرس والمطالعة بل ومن انحراف عن طريق الأخلاق السّوية.

 

هل هناك علاقة بين المبدع التونسي سالم اللبان والمقهى؟

- نعم بالتأكيد كانت لي علاقة وطيدة جدّا بهذا الفضاء ثمّ انتهت أو تكاد. فلولا الحاجة إلى ملاقاة بعض الأصدقاء لربع ساعة أو أقل أحيانا، لما عاد لي بالمقهى أي اتصال. فبعد فترة الحراسة المشددة التي كانت تضرب علينا حتى لا نرتاد المقاهي، مثلت الحياة الجامعية مرحلة جديدة أضحى فها ارتياد المقهى علامة رجولة وتحرّر. بل إنّ بعض المقاهي في العاصمة كانت تعجّ بالمثقفين الذين كنا نسمع عنهم ونقرأ لهم. وبعضها الآخر كان يسمح باختلاط الطلبة من الجنسين وبقضاء الساعات الطويلة في مراجعة الدّروس جماعيّا مقابل مشروب واحد لكلّ من يقدر على الدّفع.

كنت في البداية إذًا أسير على هذه العادة التي اكتسبتها أيام الدراسة الجامعية. ثم جاءت مرحلة أدمنت فيها على ارتياد المقهى. كان ذلك أيام صرت أمارس الكتابة الصحفية اليومية. كنت أهرب من قاعة التحرير حيث كان يمكن أن يعثر عليّ الزملاء والزوار على حد السواء، وألجأ إلى مقهى منعزل لا يعثر علي فيه أحد فلا أعود منه إلا ومعي مقالي. كانت علاقتي هذه بالمقهى مبنية على أساس وهمي بأنّ شرب القهوة وحرق السجائر الواحدة من الأخرى أهم ما كان يقدح قريحتي ويحفّزني على الكتابة ويثري لديّ ملكة التعبير. حتى إذا دقت نواقيس الخطر وفتحت عيني على ضرورة رفع تحدي الامتناع عن التدخين، صرت أهجر كل مكان مرتبط بالسيجارة وأول هذه الأماكن المقهى. كان ذلك منذ أكثر من ثلاث عشرة سنة.

 

 هناك من يعتبر المقهى فضاءا ملائما للكتابة، ما رأيك؟

- كل الأمكنة ملائمة  للكتابة. لماذا المقهى وليس المطعم مثلا ؟ لماذا المقهى وليس الحديقة العمومية ؟ لماذا المقهى وليس المكتب الخاص للكاتب ؟ منذ انقطعت عن ارتياد المقهى، صرت أرغب في مقاومة هذه الفكرة رغم محاولة بعض رواد الساحة الثقافية التونسية التّأسيس لإرجاع دور المحرك الثقافي لبعض المقاهي في العاصمة. وهي محاولات باءت بالفشل.

لكلّ زمن علاماته التي لا يمكن أن تعود أبدا. عجلة التاريخ لا تسير إلى الوراء. وفكرة أن المقهى من الأماكن الأكثر ملاءمة للكتابة فكرة أضحت بالية لا رابط يصلها بالواقع الحديث. فالمقهى مكان له علاقة جوهرية بالترفيه. والإيمان بأن المقهى ملائم للكتابة يعني أننا نقارب الكتابة بوصفها وسيلة من وسائل الترفيه والفضفضة يمكن أن نصل بها إلى مدى معين في وقت غير محدد وبنسق متكاسل، ويمكن حتى أن لا نصل بها إلى أي مدى. كأنما إنتاج نصّ أمرا ثانويّا. هذه الفكرة منتشرة إلى الآن للأسف بين عدد لا بأس به من الكتّاب في تونس. وهذا عندي سبب أساسي من أسباب ضعف الإنتاج الأدبي كمّيّا بل وحتّى على صعيد الكيف أحيانا.

فعندي أنّ الكتابة، أو الإنشاء الفني أيّا كانت وسيلته، مهنة وعمل جديّ يتطلب انضباطا وتركيزا وبعدا عن كل ما من شأنه أن يعطّل عن بذل الجهد والانصراف إلى الكدح. ولعل الانتصار لهذا الطّرح كان أهم ما دفعني إلى إشهار نيّة الكتابة الأدبية تحت الضّغط الزمني وكتابة بيان لإعلان اعتزامي رفع تحديات في الكتابة الأدبية مرتبطة بكمّ معين في وقت محدّد سلفا.

كان ذلك أول مرة سنة 2004 حين التزمت بكتابة قصيدة هيك (هايكو) ونشرها يوميّا على الإنترنت باللغتين العربية والفرنسية على مدى سنة كاملة أنتجت في ختامها "فصولي الأربعة". وهي كتب أربعة صدرت ورقيا بمعدل كتاب كل ثلاثة أشهر في سنة 2005. ثم أطلقت سنة 2008 – 2009 تحدّي "سنتي على جناح السرد" فكتبت نصّا سرديا كل أسبوع على مدى سنة كاملة أنشره باللغتين العربية والفرنسية على مدونتي "ورشة الهكواتي" وأقرأه كلّ يوم سبت في نادي القصّة أبو القاسم الشابّي بالعاصمة التونسية. ولقد غنمت في نهاية سنتي هذه 31 نصا سرديا قصيرا مع رواية واحدة كتبتها في 23 أسبوعا. كل هذا لأثبت أن الكتابة عمل وجهد يومي وليس نزوة أو وحيا يوحى. أنا اليوم أكتب في أوقات مضبوطة، بل أعمد في غالب الأحيان إلى تعطيل هاتفي الجوال أثناء الكتابة. ولو كنت أرتاد المقهى للكتابة لربما فشلت في رفع التحدّي. أنا هنا لا أتحدّث إلاّ عن نفسي طبعا. فلعلّ غيري قادر على التركيز والانقطاع عن النّاس وغظ الطرف عن مختلف المنبّهات وهو في صخب المقهى.

 

ماذا يمثل لك: الشعر، الحب، الوطن؟

- الشعر : إحساس أشعر به وأتمنى أن أتوصّل يوما إلى الارتقاء بتعبيري إلى مستواه. أعرف أن الكثيرين حاولوا قبلي وأنني مازلت منبهرا بمحاولاتهم مع أن أهمّهم عندي أقرّوا بعجزهم عن بلوغ هذا التماثل المنشود بين الإحساس وصياغته فنّيّا. ولكنّني سأحاول رغم ذلك، ليس لأنّني أعتقد أنّني "آت بما لم تستطعه الأوائل" كما يقول المعرّي، ولكن لأنّ قدر الإنسان أن يحاول أو أن ينسحب من الحياة. ولأنّني أحبّ الحياة، فأنا ثابت على عهد قطعته على نفسي بأن أتطاول يوميّا على حدودي سعيا إلى تجاوزها.

الحبّ : إحساس هو عندي من طينة الشعر. مازلت أطمح إلى التعبير عنه في كل ما أحاول إنشاءه. هو شعور من العظمة بحيث يمكن تقاسمه مع مخلوقات الله جميعا دون أن ينقص منه شيء. بل هو يزيد وينمو كلّما زاد عدد الذين نتقاسمه معهم. لذلك فشدّ ما يؤلمني في هذا الكون هو أنّ أغلب النّاس يدّخرونه لأنفسهم ظنّا به على غيرهم فينقص زادهم منه يوميّا وهم لا يعلمون.

الوطن : إحساس آخر، هو كذلك عندي من طينة الشّعر. هو مصدر قوّتي وموطن ضعفي في آن معا. الصّورة غائمة عندي الآن في مستوى التعبير. ولكنّ إحساسي يوحي إليّ أحيانا بأنّ الوطن ربّما كان من البداية وإلى اليوم أهمّ الحوافز التي جاءت بي إلى عالم الإنشاء والتي كانت دائما تمنعني من هجر هذا الزّورق كلّما رأيت الأفق مدلهمّا باعثا على اليأس لا يبشّر بوجود مرسى وراء كلّ هذه الأمواج المتلاطمة.

 

كيف تتصور مقهى ثقافيا نموذجيا؟

- أولا لا أتصور المقهى الثقافي كمكان لإنتاج الثقافة بل كمكان لتلاقي المثقفين واستماع بعضهم إلى البعض الآخر وتبادل الآراء وتداول الأفكار الجديدة وكذلك للقاء مستهلك الثقافة المتحمّس وتنظيم حصص لعرض المنتوج الثقافي في فضاء حميمي.

أتصور هذا الصنف من المقاهي تماما كما أتصور مركزا ثقافيا. مكان حيث يمكن أن نقرأ ومن حولنا صمت خاشع، وحيث يمكن أن نستمع إلى الموسيقى في ظروف ملائمة بوسائل سماع تؤمّن جودة عالية عند السماع الفردي بآلات القراءة وفي قاعات مهيأة معزولة عن الصخب الخارجي تماما عند العزف المباشر، وحيث نستطيع التحاور بشكل منظم وفق جداول أوقات مضبوطة. المكان لا بد أن يكون مهيّأ بذوق تشكيليّ رفيع وأن يحوي آخر ما أنتجه الفنانون التشكيليون المحليون. أمّا بيع المشروبات فلا بد أن يكون مجرد مكمّل للرفاه المنشود في مثل هذا الفضاء وبأسلوب بعيد عما نراه في المقاهي العامّة. ينبغي على المستهلك ومقدم الخدمات على السواء التعامل مع المكان بشكل من أشكال التقديس لكل الآثار الفنية المعروضة على الجدران وفي رفوف المكتبة وتلك التي يستمع إليها الخ... فمثل هذا المقهى لا بد أن يكون ظاهرة حضارية لافتة ولا محطة أخرى من محطات الفوضى العمومية "المتثقفجة" واسمحي لي بهذا التعبير الفجّ. 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1313 الاربعاء 10/02/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم