حوارات عامة

الشاعر والقاص المغربي الطاهر لكنيزي ... في ضيافة المقهى؟؟!

ولأنه مبدع نبيل لم أجد صعوبة في اقتناص هذه اللحظات القصيرة...

 

من هو الطاهر لكنيزي؟

عاشق للقصيدة العربية والفرنسية، تشاكسه فيهرق دمع يراعه فوق نمارق من أرق . يتفيأ شوقه ويعدّ لها في القلب إيوانا . " ازوشي" يقبض على جمرة الشعر وينتشي باحتراق إهابه في دبكة بدوية (دُكّاليّة)، حتى وإن أضحى دخانا ورمادا .. يتحاشى الضوء النابح كي لا يخرق فطرته المسرودة من خجل ..يَرِدُ القصائد غليلا، يغترف بأكفّ وجده سُلافتها، يرمي في حوض عُسَيْلتها بإشارات ثم يتولى ظمآنا .. مسروق الفرحة، لم ينشرْ يوما فرحا طاووسيا، لم يدلق قهقهة تهتزّ لها أفنان الروح، مخافة أن تنداح مساحة بهجته الخضراء فتغمر شمس الغبطة في أحلام الندّ، ويضحى القطْرُ جِمارا في أماق الورد .. قد يُعمل في عِهْن الجدل المنفوش محالجه، أو يشعل في أنفاقه نيرانا.. لكنه لم يطْمر قطّ في تربة الصدر بذورَ المقت، ولم يمطرها حقدا.. لم يتعهدها بسماد النقمة حتى تتمر أضغانا .. إذا آلمه مشهد بكى كطفل أو كأنثى ..

 

ما هي الدوافع التي جاءت بك إلى عالم الكتابة؟

 

لا يمكن لأية فكرة أن تشرق أو بذرة أن تورق وتثمر بالاتكاء على عنصر واحد ووحيد .. قد تكون دوافع الكتابة لاشعورية .. لا أجزم بأنني أّدركها، حتى وإن فرضنا ذلك جدلا، فهي كالأحلام تأتي ملتبسة .. والتعبير عنها يصبح فضفاضا مشوها .. وأولها، البحث عن المتعة التي أتمقّقها عند نفض يدي من النص، وأصبح كالخزفي أوالنّحات أوالرّسام الذي ينتشي بتأمل ما اقترف خياله تأكيد الوجود، أنا أكتب إذن أنا موجود .. فالكتابة، ربما، استمالتني في غفلة مني ذات قراءة نص فاره، يجمع بين سلاسة النظم ورشاقة التعبير .. هي نزوة كالتدخين والسباحة والكرة .. لكن مهما يكن فهي نزوة جميلة ..

أما العوامل التي زجّت بي في عالم الكتابة، أو ورطتني (لأنها قد تكون قدرا) فمنها: تحريض أساتذتنا لنا، (اللهم ارحم من علمني)، على التنافس في تدبيج أجمل النصوص الطافحة بالشعر والموغلة في السرد السلس الممتع .. دفعتني الرغبة في التميّز إلى البحث عن منابع أنهل منها ما يغني رصيدي اللغوي، و يقوي جناحي خيالي.. كان الحفظ، والتقليد، والانتحال، وحتى السرقة لأدعم أفكاري، إذا آنسْتُ قصوراً في ذاكرة الأستاذ (اللهم اغفر لي) ..

القراءة، فالقراءة، ثم القراءة: صمام الأمان لكل متعلم كي لا أقول لكل مثقف .. مرحلة الشحن التي تتزود فيها خزانات الذاكرة .. خلالها يكتشف القارئ قارّات جديدة بنفسه، وتحصل الدهشة التي يشعر فيها أنّه يستطيع مضارعة هذه النصوص لو تسعفه اللغة .

يأتي على المبدع حين من الدهر يشعر فيه أنه مصلوب على جذع فكرة أو معلق على شَنْكلِ صورة .. تشتدّ الرغبة في البوح بما فاض عن الكأس الخبيئة من جرح أو فرح؛ ثم تأتي لحظة الطلْق ليرقم بحرارة ما يعتمل بداخله: تحْفة فوق شراشف من بياض. وتكون البداية ..

للموسيقى دور فعّال في القذف بي في فضاء الكتابة بمظلة الوزن طبعا .. كنت مدمنا على حفظ الأغاني وخصوصا القصائد العربية الرائعة والخالدة، فدَوْزنَتْ روحي على إيقاعاتها .. قلت الخالدة، ألا يمكن أن أضيف إلى أن طموح المبدع إلى الخلود عبر أعماله دافع آخر ..؟ عقدة حبّ البقاء، ولو أنني جهرت مرارا بأنني لا أهاب الموت (مجانا) ..

 

ما الدور الذي تلعبه الملتقيات الأدبية في مسيرة المبدع المغربي؟

الملتقيات الأدبية أرخبيلات يرتادها المبدع ليتطهر فيها من خطاياه الصغيرة، فيها يتنفس هواء جديدا يسمح لخياله بالارتقاء إلى فضاء أرحب .. جُبٌّ يمْتّح منه لغة أخرى لا يفقهها إلا صبٌّ يتقرّى فتنة الكتابة .. أسواق يؤمّها المبدعون، ينصتون إلى بعضهم البعض (مات القراء) يعرضون آخر ما أنتجوه من فواكه ما زال حبل سرّتها يتحلب .. يتبايعون ويتصدّقون ويتقايضون (قنطار شِعْر بحفنة قصص قصيرة جدّا) .. لحظات فرح يسترقونها من رتابة الحياة التي لولا هذه الملتقيات لم تكن (في نظرهم) إلا يوما واحدا يتكرر .. يتباهون فيها بنصوصهم كأطفال يتفاخرون بما اقتنوه من لعب في عاشوراء .. سحرة مهره .. يخرجون من جيوبهم وأكمامهم وقبّعاتهم في ذربة ورشاقة حمائم وأرانب وفراشات .. فرص للاحتكاك بالشبيه عن قرب وخارج النص واكتشاف خصائل أخرى بسجيته .. جامعات متنقلة تعرض أطباقا صحّية (light )، وبعد ازدراد ما يقدمة النقاد من مداخلات قيمة يحتد الجدال فتطمئن روحك لأن هذا دليل على صحتها..نهر تصبّ فيه روافد مختلفة الطعم والأشكال والألوان، فتتزحزح ناعورة المشهد الثقافي ..

 

ما هي طبيعة المقاهي في سيدي بنور؟

 

مدينتنا صغيرة ونائية ولا تطأها قدما التنمية البشرية الميمونة، لكن مقاهيها لا تكاد تختلف عن مقاهي المدن الكبيرة في أخد زينتها ولتنافسها في خدماتها ..

يفهم من كلمة " مقهى " ذالك الفضاء التي يرتاده الزبائن لارتشاف المشروبات، والتفرج على التلفاز (يوم كان التلفاز علامة على الثراء)، بيد أن ميلاد أنشطة جديدة جعلت المقاهي غير قادرة على مواكبتها، فتخصصت كل منها في ميدان إلا ما هو ثقافي .. مقهى تعرض لروادها على مدار الساعة أفلاما لا يفهمون حتى لغتها.. وأخرى، مقابلات في كرة القدم حتى تتخمهم الأهداف .. وهذه ملاذ الحالمين بالثروة، يطلبون رأسها على ظهر فرس أو كلب أو رقم لا سنابك ولا لهاث له، فلا يتوقفون إلا وقد أصبحوا بين عشية وضحاها مفلسين .. وتلك للسمسرة وعقد صفقات البيع والشراء في كل شيء حتى البشر المرشحين للهجرة سرا وعلانية بشواهد التخصص في حرفة قد لا يعرفون حتى أبسط أدواتها .. وقد لا تخلو أية مقهى من النميمة و..

 

هناك من يعتبر أن المقهى مجرد فضاء للتسلية وتضييع الوقت، ما رأيك في ذلك؟ وهل هناك علاقة بينك وبين هذا الفضاء؟

فيها لكل الرواد ما ينشدون، ولكل مقهى زبائنها، إلا المثقفون فلا يجدون فسحة للهديل بقصيد أو للصهيل و لو بقصة قصيرة جدا، حتى في دور الثقافة .. فهي وسيلة لتضييع الوقت للذين لا يمارسون نشاطا غير عملهم .. ملتقى لنشر غسيل المدينة وتلمظ الأخبار المعلّبة محليا ووطنيا ودوليا، والإقدام على تشريحها بمباضع صدئة، حتى ولو كانت بائتة أو طالها التعفن .. مصحة طِبْعَقْلية لبعض الزبائن، إذ يخضعون فيها لجلسات يُنيمون خلالها تحفظهم ليتقيئوا هواجسهم ووساوسهم حتى الحميمية ويستذرون عطف جلسائهم لابتزازهم .. شبه خلية لبعض أعضاء الأحزاب والنقابات لكي يطبخوا عصيدتهم بعيدا عن أنوف الرفقاء .. زاوية يحجّ إليها أصدقاء جمعتهم الألفة والمحبّة و لا يستطيع أحدهم أن يستقبل الآخرين في بيته ..

لحسن حظي، أقسمت القصيدة أن ترغب عني مهما رغبت فيها إن لم أفضض علاقتي بالمقهى، فآثرت القصيدة .إنها ظبية تنفر لأتفه حفحفة ؛ فما بالك بالنعيق والنقيق والنهيق والنخير والزعير والصفير .. (أعتذر لزبناء مقاهي مدينتي) .. أحب أن أعتلي قنة وحدتي بدهشة آدم إذ يتلمس فاكهة لا تفرز نكهتها إلا حنايا حواء، لأشهد مطلع قصيدة كالبدر تنسل من تحت قطع الليل، تتزنر غنج السواقي، تتلحف أنسام المروج وتعتمر اخضلال الظل في خدر الدوالي .. أتقفى شرودها، أتحسّس نبض قلبها، أتشمم عُرفها الممذوق بعرق مسامّها، أسترق السمع لخرير نسغها، أحتفل بصرختها الأولى دون حضور..

 

للمقهى حضور كبير في نصوص بعض المبدعين المغاربة فهل للمقهى حضور في مسيرتك إبداعية؟

ليس للمقهى حضور في كتاباتي إلا ما جاء عرضا .. لست أدري لماذا، ولم أنتبه إلا حينما ألقيت إطلالات عبر نوافذك المشرعة على مصراعيها .. ربما لأنني عشت فيها تجارب تختلف عما خبره غيري، فترسخ في قناعتي المفهوم السيئ للمقاهي: أوكار للقمار والشيشة والحشيش ولعب الورق، وتناوش الكلمات المتقاطعة والمسهمة ومحاصرة خاناتها للقبض على كلمة معكوسة .. مرصد للمتلصصين الذين يخاتلون المارة ويشحذون ألسنتهم للطعن في أعراضهم حتى ليخيل إليك أن كل المدينة فاسدة ..

 

ماذا يمثل لك: الحب، القلم، الوطن؟

الحب: أومن بما قاله فيه جبران خليل جبران، ولن أجد أحسن وأجمل من قوله:

والحبُّ إن قادت الأجسام مواكبه     إلى فراش من الأغراض ينتحر ..

القلم: سلاح، لكن لا يجب أن يكون ذا حدين .

الوطن: أب يعلمني كيف أرعى الفسائل، لا أن أسطو على الثمار قبل القطاف ..

 

كيف تتصور مقهى ثقافيا نموذجيا؟

أشكرك أختي فاطمة الزهراء على منحي حيزا بين أصدقائي الرائعين، وعلى مسؤوليتك النبيلة والجسيمة ..

أنبل مشاعري .

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1258 الاربعاء 16/12/2009)

 

 

في المثقف اليوم