حوارات عامة

مائدة حوار مع الطبيب والروائي: محمد حسن

- ليس أقرب إلي روح الإنسان من الطبيب والأديب

- القرآن الكريم دستور العربية وكتابها الخالد ومعجمها علي مرّ القرون

- محمد عبد الحليم عبد الله هو روائي هذا العصر

- الأدب في أزمة والثقافة في محنة والكِتاب في مأساة

- الكتابة أوّلا وأخيرا انعكاس لشخصية الكاتب

طبيب وروائي، أَحبّ العربيّة من خلال القرآن، وعشق الطبَّ من خلال الأدب؛ إذ شبّ في أحضان أسرة عامرة برجالات القرآن فكان ذاك الشبل من ذاك الأسد، وبينما يتحسّس موضع قدميْه في الثقافة إذ به يقرأ رواية (اللقيطة) للروائي محمد عبد الحليم عبد الله ويقع في غرام الطب من خلال بطل الرواية د. جمال. وُلد عقب انقلاب يوليو 1952 بعاميْن، ونشأ بين الخضرة والماء والوجه الحسن في إحدى قرى مركز دكرنس بمحافظة الدقهلية ذات السبعة ملايين نسمة، وتخرّج في كلية طب المنصورة زمن اتفاقية السلام المزعوم بين مصر والكيان الصهيوني عام 1978، ثم تخصّص في طب الأطفال واعتركه في قارات ثلاث حيث مصر والخليج وألمانيا. أخلص للرواية دون غيرها من الأجناس الأدبية، فصدر له روايات (وزير في الجحيم) و(الانتقام المشروع) و (الندم)، وفي الجعبة حزمة أخرى تنتظر دورها في الطبع والنشر. ورغم أننا لم نلتقِ وجها لوجه، إلّا أن شعورا تولّد لديّ بأننا أصدقاء طفولة، ولهذا كان التواصل سهلا ميسورا عبر وسائل التواصل الحديثة. وببديهة حاضرة وسجيّة فيها من النّدَى كثير شبه؛ ما إن تلقَّى الأسئلة حتى شرع يدوّن إجاباته بلغة سلسلة متدفّقة وكأننا في حوار تليفزيوني مباشر على الهواء.

- برأيكم، هل غرّر بنا تشيكوف عندما أشار إلى إمكانية الجمع بين الطب والأدب في مقولته الشهيرة؟

* تظل كلمة تشيكوف الشهيرة بخصوص الجمع بين الطب والأدب أصدق كلماته، فليس أقرب الي روح الإنسان من الطبيب والأديب؛  الأديب يسبر أغوار النفس البشرية من خلال تجاربه وقراءاته، والطبيب يسبر النفس البشرية من خلال انشغاله بآلام مرضاه ومعاناتهم فتتجلّي له الحياة بحلوها ومرّها، ولا تنْسَ أنّ الغالبية العظمي من الأطباء ذوو  روح شفّافة وقلب رحيم ووجدان حيّ متدفّق بكل المعاني الروحانية.

- ما الذي تركه القرآن من أثر في كتاباتك؟

* القرآن الكريم دستور العربية وكتابها الخالد ومعجمها علي مرّ القرون، ولا يمكن لأديب أن يتذوّق العربية دون أن يمرّ عليه، فهو الكتاب الذي يُصلح ما اعوجّ من ألسنة الأدباء والشعراء. ونحمد الله سبحانه أن أنزل كتابه بالعربية، فهذه أعظم نعمة منحها الله سبحانه للعرب، وبذلك لا يمكن للعربية أن تندثر على كرّ الدهور لأنّ الله قد تعهّد بحفظ كتابه (إنا نحن نزّلنا الذكر وإنا له لحافظون) ، وطالما بقي كتاب الله سبحانه فقد اطمأننا إلى بقاء لغتنا وثقافتنا وتاريخنا.

- لِمَ جذبتْك الرواية إلى عالمها، ألم يكن لك في بقية الأجناس الأدبية غناء؟

* الرواية أجمل فنون الأدب العربية، فهي تسمح لنا بمرافقة أبطال الرواية عبر سنين، فنأخذ من حياتهم وتأخذ من رهافة إحساسنا ونعيش معا في كهف واحد نتبادل خبرة الأيام والسنين. أما القصة القصيرة فتتحدّث عن موقف واحد فقط وليس بها حبكة درامية من عقدة يتم حلّها بتوافُق الكاتب والقارئ.

- مَن الروائي الذي استحوذ على اهتمامك وقرأْتَ كامل أعماله؟

* أعتقد أن الأديب العظيم محمد عبد الحليم عبد الله هو روائي هذا العصر برهافة حسّه ورقّة مشاعره التي فاض بها علي أبطاله وبطلاته، وقد شاءت الأقدار أن تجني عليه رقّة طبعه حين تطاول عليه أحد الأوغاد وكان سائقا لسيارة حقيرة يركبها الكاتب الكبير مع بقية الركّاب، ولم يستطع الكاتب الكبير أن يجاري هذا الوغد في حماقته ووضاعته وكتم غيظه وذهب الي منزله، فأُصيب بنوبة قلبية وصعدت روحه الي بارئها! وانظر كيف كان لا يركب سيارة خاصة، بل يُحشر مع بقية الناس في مركبة وضيعة يملكها أحد الرعاع! صحيح أن الدولة أعطته جائزة الدولة التقديرية عن رواياته، وتحوّلت بعض أعماله مثل لقيطة وشجرة اللبلاب وغصن الزيتون إلي أعمال سينمائية، ولكن ذلك لا يمنعنا من القول بأن المكانة الاجتماعية التي حصل عليها لا تتناسب أبدا مع موهبته ومكانته الأدبية التي تصل الي عنان السماء.

- باعتقادكم، كيف نحلّ معضلة القراءة في عالمنا العربي؟

* مجتمعاتنا مجتمعات متخلّفة، وشأنها شأن كل المجتمعات المتخلفة لا تهمها الثقافة في شيء، ولا يحقّ لنا أن ننسب قلّة القراءة للتطوّر التكنولوجي وانتشار الفيس وجوجل ويوتيوب؛ لأن الذين اخترعوا هذه الاختراعات هم أكثر الناس إقبالا علي الكتب، وبعض الروايات الأمريكية يتم طبع الملايين منها. ولا شك أن الأدب في أزمة والثقافة في محنة والكِتاب في مأساة بعد انصراف معظم الناس عن القراءة وانشغالهم بالوجبات المعرفية السريعة التي تصلهم من وسائل التواصل الاجتماعي، فلم يعُد للكاتب دور في الارتقاء بذوق الناس والحضّ علي القيم والمثل العليا، ولم يعُد للشخص العادي مورد لإنعاش روحه وتزويدها بما يروي ظمأها للخُلق القويم و الطابع النبيل.

- كيف تلخّص تجربتك مع النشر؟

* أغلب دور النشر تخلّت عن مسئولياتها في دعم الكتاب ونشر الثقافة، وراحت تجري وراء الأعمال التافهة المثيرة التي تحقّق ربحا مضمونا، ولا تبذل جهدا يُذكر للترويج للقراءة كنموذج حياة.

- بعدما كادت الكتابة الروائية تصبح مهنة مَن لا مهنة له، ما المعايير التي يمكن الاحتكام إليها للتمييز بين رواية غثة وأخرى سمينة؟

* المعايير التي يمكن الاحتكام إليها لتقييم العمل الروائي هي: موهبة الكاتب الأدبية، وامتلاكه لناصية اللغة العربية نحوا وصرفا وبلاغة، وقدرته علي النفاذ لأغوار النفس البشرية وتشريحها وعرضها علي القارئ في بلاغة وعذوبة.

- هنا لك مدارس في النحو وأخرى في الشعر والرسم، فكيف انسحب ذلك على الرواية؟

* لا شك أن للرواية مدارس واتجاهات عديدة تختلف حسب شخصية الكاتب وثقافته ونشأته، لأن الكتابة أوّلا وأخيرا انعكاس لشخصية الكاتب المتفاعلة مع قضايا الرواية، هناك المدرسة الرومانسية الرقيقة ورائدها الروائي العظيم محمد عبد الحليم عبد الله، وهناك مدرسة الحدَث أو الأكْشن ورائدها نجيب محفوظ، ومدرسة الخوض في نفوس الأبطال ورائدها إحسان عبد القدوس، وغيرها مثل الروايات البوليسية. وإن شئت قمّة الرومانسية وجدتها في رواية (شمس الخريف) لمحمد عبد الحليم عبد الله، أما قمّة الاستغراق في بحر الشخصية المريضة فمثالها (شيء في صدري) لإحسان عبد القدوس.

- ما الوصية التي تُسديها للأمهات من أجل صحة أفضل لأطفالهم؟

* أُوصي الأمّهات بالحفاظ على صحة أبنائهنّ النفسية وقراءة نفس الطفل من خلال وجهه، فاذا فعلَت الأمّ ذلك، تكون قد حقّقت الركن الركين في تربية أولادها.

- بالإشارة إلى روايتكم (وزير في الجحيم)، كيف رصدتَ علاقة المثقَّف بالسلطة؟

* روايتي (وزير في الجحيم) تتحدّث عن خيانة المثقّفين الذين نالوا حظًّا كبيرا من العلم والثقافة والشهرة ثم وظّفوها لأغراض حقيرة مثل البحث عن المال أو السلطة، وفي الرواية لم يَنعم بطلها الدكتور حمدي حسين بعلمه ولا مكانته كأستاذ جامعي، وظلّ في عذاب أليم طيلة حياته يبحث عن منصب الوزير ويرتع في أحضان النساء، وانتهت حياته بفاجعة مأساوية بعد إصابته بالإيدز وخوف مَن حوله مِن الاقتراب منه، ومات وحيدا لم يصلِّ عليه أحد ولم يشيّعه أحد الي مثواه الأخير!

- ما قولكم في اتهام الروائي ذي الحسّ الإسلامي بأنه يغلّب الوعظ على الفنّ؟

* الرواية كما قلنا تنطبع بروح الكاتب، وإذا كان الكاتب ذا حسّ اسلامي فإن ذلك يصبغ الرواية بطابع أخلاقي، فهو لا يرفع العصاة والزناة والأفّاقين، واذا كان موهوبا فإن ذلك يتسلّل إلى القارئ دون أن يشعر. أما إذا كان كاتبا ساذجا فانه يلجأ الي الوعظ وهذا يفقد الرواية قيمتها ويفقد شغف القارئ بالعمل الأدبي فينصرف عنه ويشيّعه باللعنات. ولابد أن نعرف أن الأدب له مهمّة مقدَّسة في الحياة، ولا ينبغي أن تكون الرواية مجموعة حكايات الهدف منها جذب القارئ بخسّة. وصحيح أنّ الأعمال المنحطّة التي تغرق في الجنس والمِثلية تحقّق أكبر المبيعات وتصل الي القارئ بسرعة مذهلة، ولكن مع نجاحها يكون الكاتب قد باع شرفه بعرَض دنيء، ولعلنا نتذكّر أعظم الروايات علي مرّ التاريخ وهي رواية (آنا كارنينا) للكاتب العظيم تولستوي التي تطرّقت الي الخيانة الزوجية ولكن الكاتب أفصح عن اتجاهه لرفض هذا السلوك المشين حين جعل بطلة القصة تُسلم عنقَها الي عجلات القطار.

- في عصر وسائل التواصل الحديثة التي محت المسافات، هل لا زالت الإقامة في العواصم تلعب دورها في شهرة الكاتب من عدمه؟

* انتشار الكاتب لم يعد معبّرا عن موهبة الكاتب بقدر ما يعبّر عن قدرته علي التواصل مع دور النشر ووسائل الإعلام وأبواق الدعاية، وذلك لم يكن ممكنا في القرون الماضية، بل كانت موهبة الكاتب هي المعيار الوحيد لنجاحه.

***

حاوره: د. منير لطفي

في المثقف اليوم