حوارات عامة

مائدة حوار مع د. ماجد رمضان

د. ماجد رمضان، قلم ٌجمع بين جَماليْن؛ جمال التعبير وجمال التفكير؛ إذ يكتب بحرف سلس يخلو من الزخرفة اللغوية، وبحماس ولكن دون صخب، وبمسئولية قِيَميّة مستمَدّة من نبعنا الإسلامي الثريّ. عبر أكثر من دار نشر أطلّ علينا بتسعة عشر مؤلَّفا طرقت محاور مهمّة وميادين متعدّدة، منها في تطوير الذات وإصلاح المجتمع، ومنها في الإيمانيات والثقافة الصحية، مدلّلا بذلك على ثقافة واسعة  لا شك أنها محصلة اطّلاع أفقي ورأسي. وُلد قبل نحو ستين عاما (1963م) في ريف محافظة المنوفية بالشَّمال المصري، وتخرّج في كلية طب القصر العيني عام 1987م، ثم تخصّص في جراحة الأنف والأذن والحنجرة وجمع إليه تخصصا ثانيا في الإدارة الطبيّة التي سلك طريقها مبكّرا ولا زال. بتواضع جمّ حاول الاعتذار عن الحوار بدعوى محدودية تجربته! ولكن لا يصحّ إلا الصحيح، والصحيح أن تجربته ثرية للغاية كما سيتبيّن في ثنايا حوارنا التالي:

* الطلب على الخدمة الصحية يبقى دائما أكثر من المعروض أو في الغالب طارئ وملحّ ولا يمكن تأجيله.

* الكتابة ذاتها مغامرة بما تعنيه الكلمة من مدلول لفظي ومعنوي.

* لكونك طبيبا، قد تتفهّم معنى المرض، لكنك لن تدركه بحق إلا إذا أصابك.

* من يدّعون أنهم يملكون أسرار النجاح ويستطيعون تقديمها لزبائنهم عبر كبسولات سريعة، فهذا وهم كبير وأمل زائف.

* استطاع قلم الأطباء أن يتبوّأ مكانه متقدّمة في مسيرة الأدب والفكر والثقافة.

*الاستسلام لوميض الشاشات أفقَد القراءة الشيءَ الكثير.

***

١.هل من مقوّمات خاصة تتفرّد بها الإدارة الصحية عن غيرها من الإدارات؟

- النظام الصحي من أعقد الأنظمة الإدارية بسبب تعدد الخبرات والمهارات وعدم تجانسها، ورغم وجود أشياء مشتركة بينه وبين الأنظمة الإدارية الأخرى، إلا أنه يوجد اختلافات أساسية وجوهرية في النظام الصحي، لا نظير لها في بقية الأنظمة مثل: محدودية الموارد المتاحة وكلفتها العالية وبالمقابل الطلب الكبير على هذه الموارد والتوقعات العالية لمستهلكي الخدمات الصحية، وعدم خضوع الخدمة الصحية لقانون العرض والطلب - الطلب على الخدمة الصحية يبقى دائما أكثر من المعروض أو في الغالب طارئ وملح ولا يمكن تأجيله – وكذلك الطبيعة الفردية للخدمة الصحية، والتي تجعل العمل اليومي للمؤسسة الصحية مختلفا ومتشعبا وغير خاضع إلا للقليل من التنميط والقياس. ويأتي على قمة هذه الخصائص الاعتبارات الإنسانية والأخلاقيات الاجتماعية والمهنية والتي تضع قيودا وتحديات أمام الإدارة الصحية. وهذه الخصائص المميزة للنظام الصحي تتطلب عناصر قيادية مؤهلة ذات مواصفات عالية تستطيع التعامل مع خصوصيات هذا النظام وتعقيداته وحل المشاكل والقضايا التي تواجهه.

٢. ألا ترى أنك ظلمْت الابن حين خاطبْت الابنة في كتابيْن ولم تفرد له أيًّا من كتبك؟

- كتابة الآباء للأبناء، عادة قديمة قصها علينا القرآن الكريم في نصيحة لقمان لابنه، وكثيرا ما كتب الكتاب لأبنائهم، مثل "ولدي" لأحمد أمين، و"رسائل إلى ابنتي " لنعمات أحمد فؤاد، و "إلى ولدي " و "الي ابنتي" للأديب على طنطاوي، فآثرت أن أجري مجراهم مراعيا اختلاف البيئة واختلاف العصر، وان كان الكتاب موجه لأبنتي فغيرها أيضا مقصودات، وكان الداعي للكتابين خصوصية لها وهي تعبر مرحلة سنية يخشى فيها عليها.  وليس في ذلك ظلما للأبن، فجل ما كتبت صالح له .

٣. السرايا الصفراء! ما الذي جرّ قلمك إلى هذا العالم المثير والخطِر في آن واحد؟

- هي فرصة أُتيحت ليً على حين غرة، فاحتفيت بها، والكتابة ذاتها مغامرة بما تعنيه الكلمة من مدلول لفظي ومعنوي، فقد تدخل في تجربة تحفها المخاطر، من أجل الاستكشاف والبحث والتعرف على ما تحويه الحياة والواقع وسلوكيات البشر من حقائق وأسرار، وهذا ما كان في هذه المغامرة، بكتابة ما شاهدته وعايشته من حكايات عن المرضى والأطباء والمكان.

٤. ما خلاصة تجربتك العميقة مع مرض باركنسون؟

- أنه ليس من رأى كمن سمع، وليس من سمع كمن عايش وجرب، فلكونك طبيبا، قد تتفهم معنى المرض، لكنك لن تدركه بحق إلا إذا أصابك.

من جرّبَ الكيَّ لا ينسى مواجعهُ

 ومن رأى السمَّ لا يشقى كمن شربا

وقد كان أفلاطون محقا عندما قال: إنه من أجل أن يصبح المرء طبيبا حقيقيا، لابد أن يكون قد اختبر جميع الأمراض التي يأمل أن يعالجها وجميع الحوادث والحالات التي سيشخصها. عرفت أنه هناك فارقا بين أن تكون طبيبا أو أن تكون مريضا، فعندما يمرض الطبيب، فكثيرا ما يكون المرض أشد وطأة عليه، فهو أعلم بمصائر الأمراض، وما تؤول إليه الأمور، فتساوره الهواجس والشكوك. وأدركت بأن بعض البوح قوة لا ضعف، وأنه لابُدَّ من التفريج عن الصدر والترويح عن النفس بالبوح والشكوى لذي مروءة وحكمة، وصداقة ومودة، كما يقول بشار بن برد:

ولابُدَّ من شَكْوَى إِلى ذي مُروءَة

يُوَاسِيكَ أَوْ يُسْلِيكَ أو يَتَوَجَّع

ورغبت بأن تكون تجربتي سلوى لغيري من المرضى، و عبرة وفائدة لمن يحملون تاج الصحة فوق رؤوسهم. فسردت حكايتي مع المرض وسقت تفاصيلها بلا مواربة ولا خجل، في كتاب "مسني الضر – تجربتي مع مرض باركنسون " غير مبالي بما قد يجره عليً ذلك البوح من سمعة سيئة أو وصمة معيبة، فما من مرض عورة، ومما لا يُخجل منه الدين لا خجل منه في المرض.

٥. برأيك، هل تثمر كتب تطوير الذات عن تغيير حقيقي أم أنها نوع من الوهم والسراب؟

- دعني أطرح سؤالك بطريقة أخرى، هل أحدثت كتب تطوير الذات، فارقا حقيقيا وملموسا في حياة من قرأوها، كثيرون سيقولون نعم، وآخرون سينفون ذلك، ولكن الحقيقة هي أن التغيير والتحفيز لم يكن بسبب كتب تطوير الذات نفسها، بل بسبب عدة عوامل أولها وأهمها، أن من تغيروا كانوا مهيئين لكي يتقبلوا هذا الكلام ولديهم القابلية للاستهواء فيما قرأوه، فذلك الأثر من دواخلهم واستقبالهم لما يقرأون ويقتنعون به، وهذا ما تفعله كتب تطوير الذات بدون مبالغة، تستغل بعض النقاط التي يحتاجها أشخاص لا يعرفون ماذا يفعلون أو كيف يجتهدون في اكتشاف مغزى لحياتهم، عن طريق قول بعض النصائح والارشادات التي قد يحتاجوها بالفعل في حياتهم . أما من يدعون أنهم يملكون أسرار النجاح ويستطيعون تقديمها لزبائنهم عبر كبسولات سريعة، فهذا وهم كبير وأمل زائف، ومطاردة السراب الذي يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده ووجد هلاكه عنده.

٦.بالإشارة إلى عنوان أحد كتبك، لو وُضع مصباح علاء الدين بين يديك، ما الذي ستطلبه لعلاج أوطاننا المنكوبة على أكثر من صعيد؟

- أن تتحرر الأوطان من حكم الفرد الذي يقيد الحريات ويخنق المبادرة وروح الإبداع، وأن يُعلىَ شأن المؤسسية والحوكمة، وأن تعود شخصية المواطن العربي إلى سابق مجدها وحضارتها، تثق بنفسها وتؤمن بقدراتها وتمتلك إرادتها وتتخلص من التبعية للغرب فننتج غذائها ودوائها وسلاحها.

٧.ما الركائز العلمية والأخلاقية التي تراها ضرورية للطبيب المسلم؟

- فيما يخص الركائز العلمية: أن يكون قمة في تخصصه المهني، متقنا له، يستزيد دائما من العلم، مطلعا على الجديد فيه، عنده قدر من الدراية بالفقه وأحكام العبادات والاجتهادات الفقهية لما استحدث في حياتنا الحديثة والمعاصرة من أقضية في عالم الطب والمرض. أما الركائز الأخلاقية: أن يكون حسن الهيئة، مخلصا في عمله، صادقا في قوله، مجندا لاستكمال الصحة مادامت الحياة، حريصا على نفع الناس، متواضعا رقيقا رحيما، حييا ستيرا يحفظ الأسرار، لا يغالي في أتعابه وينفس عن المعسر.

٨.على صعيد الأدب والفكر والثقافة، كيف تقيّم قلم الطبيب وسط أقلام تنتمي إلى مهن أخرى كثر؟

- أعتقد أنه لا علاقة وظيفية أو نفسية للطب مع الأدب والفكر والثقافة، فالطبيب الأديب كالمهندس الأديب، والتاجر المثقف كالمحاسب المثقف، والمحامي المفكر كالمدرس المفكر. نعم قد يمتلك الطبيب تجربة إنسانية شاملة وأوسع من غيره باعتباره يتعامل مع المرضى بمختلف أعمارهم وثقافتهم ولغتهم ومفرداتهم مما يزيد من توسع قاموسه الحسي الشعوري والإبداعي، لكن ليس ذلك وحده كافيا لولادة أديب أو مفكر أو مثقف، والفيصل يرجع إلى من يمتلك موهبة حقيقية ونزعة صادقة وعارمة نحو الأدب أو الفكر والثقافة.

ومع ذلك فقد استطاع قلم الأطباء أن يتبوأ مكانه متقدمة في مسيرة الأدب والفكر والثقافة، وحقق بعضهم شهرة ونجاحا ساحقا، وكثير منهم تجاوزوا الأدباء والمفكرين والمثقفين المتخصصين، بدأ من أنطون تشيكوف. ومرورا بميخائيل بولغاكوف، ووليام سومرست موم، ومايكل كاريتون، وآرثر كونان دويل، وإبراهيم ناجي، ومصطفى محمود وعلاء الأسواني ويوسف أدريس ونجيب الكيلاني ومحمد المخزنجي، وأحمد خالد توفيق وغيرهم الكثير.

٩. ما الذي وقفْت عليه من عجائب وغرائب الأنف والأذن والحنجرة، وتغيب عن معرفة غير المتخصّصين؟

- ليس من باب الغرائب ولكنه مفهوما شائعا عند الكثير، وهو أن الطبيب الذي لا يستخدم سماعة وجهاز ضغط هو أقل شأنا من تخصصات الطب الأخرى كالطب الباطني وطب الأطفال، و لا يعلم أكثر الناس بل أكثر المرضى أنه تخصص من التخصصات الجراحية التي يقوم فيها الطبيب بفحص المرضى أكلينيكا وإجراء الجراحات المختلفة.

١٠. بعد آلاف الصفحات التي ضمها نحو عشرين مؤلَّف لكم، ما شاء الله، هل وجدت الكتابة ضربا من الوجع أم نوعا من الفرح؟

- الكتابة كما وصفها جبرا إبراهيم جبرا في معايشة النمرة "هي تلك الحورية الرائعة، الذاهبة بالنفس في طرقات الجنة ودركات الجحيم، متعة ولا كأية متعة أخرى يعرفها الجسد: فهي وجد صوفي، وهي عذاب عذب ".

فهي نوع من الفرح عندما تستطيع تشكيل صوتك الداخلي العميق على الورق، بحيث تطلق فرسك البرية في سهوبك الواسعة. فما أعظم الفرح، إذا انتهيت من كتابك، فرح الحس والعقل، وسعادة الوحي والنشوة.

وهي ضرب من الوجع وجزء من الجحيم كما وصفها ماركيز: إن تأليف الكتب مهمة انتحارية. والمبتلى بعشق الكتابة كمن ابتلي بجوع جحيمي، وبشبق لاهث وراء سراب. مثل الطاقة المشتعلة الكامنة الجبارة، ان لم تجد مساربها دمرت مكانها، واشعلت نيرانها جدرانها، وأبقت الدخان وبقايا الحرائق على هياكلها الخارجية بقايا نار، وحزن وكأبة .

١١. بحساب المكسب والخسارة، ما تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على القراءة كفعل ثقافي وعلى الكتابة كعمل إبداعي؟

- من المؤكد أن الاستسلام لوميض الشاشات أفقد القراءة الشيء الكثير، فمواقع التواصل الاجتماعي بصفحاتها اللانهائية التي تغرينا بالاستمرار بالتقليب فيها تُصبح بمنزلة ثُقب أسود يبتلع الساعات والأيام، ولكن هذا لا يعني موت القراءة وضعف الكتاب. فعلى الجانب الآخر، أتاحت هذه المواقع روافد جديدة للقراءة والكتابة، فتقنية الكتابة في هذه المواقع من شأنها أن تشجع على التركيز المتناهي في أسلوب الكتابة، على اعتبار محدودية الحيز المتاح للكتابة. وهناك محاولات إبداعية لم يكن يكتب لها الظهور والانتشار إلا بفضل هذه المواقع، كما أن هذه المواقع جعلت الكتب متاحة إلكترونيا، فأصبحت النصوص الجيدة والرائدة في متناول الجميع، وتعددت الخيارات المطروحة للمفاضلة بين أكثر من كتاب وآخر، كما تنتقل النحلة البرية بين زهر وأخرى، تتغذي على رحيق هذه وتلك، وتنتج في النهاية شرابا مختلفا ألوانه سائغا للشاربين .

ولعل المستقبل كفيل بكشف ما سينتج عن هذه المؤثرات من ظواهر أدبية مختلفة.

12. هل من رسائل قصيرة توجهّها إلى الناقد، والناشر، والقارئ، والكاتب، كلّ على حِدة؟

- أقول للناقد: كن موضوعيا ومنصفا، بعيدًا عن المجاملة والمداهنة، لا تلعب دور الشرطيّ الباحث عن الأخطاء، ابحث عن المواهب وشجعها.

أقول للناشر: لا تنظر إلى الكتّاب والمؤلفين كمشاريع ربح فقط، انشر العمل المتميز، وادعم الكاتب الجيد.

أقول للقارئ: لتكن لك رؤية واضحة في تكوينك المعرفي والعلمي، وكن منهجيا في قراءتك وحدد الغرض منها، وإلا فلن تكون شيئا مذكورا .

أقول للكاتب: اقرأ.. ثم اقرأ.. ثم اقرأ، فمن لم يقرأ طويلا ويجدً في قراءته، فلن يكتب نصا متميزا، فجودة الكتابة بمقدار جودة القراءة، والكتابة تحتاج إلى جسارة وإرادة جادة، وعزم لا يكل ولا يمل، وإذا لم يكن دافعها نابعا من الأعماق، لن يكتب لك التوفيق والاستمرار في طريقها، ولا تتعجل النشر والشهرة، ولا تتأخر كثيرا.

***

حاوره: د. لطفي منير

16 نوفمبر 2022

 

في المثقف اليوم