حوارات عامة

محمد حسين الداغستاني يحاور الأديب فاروق مصطفى

كركوك وجماعتها الادبية في قبان الزمن

الاديب فاروق مصطفى المولود في العام ١٩٤٦ نشأ وترعرع في (جرت ميدان) وهي احدى محلات كركوك الشعبية، ودرس في مدارسها، ثم نال البلكلوريوس من قسم اللغة العربية بكلية الاداب بجامعة بغداد، غني عن التعريف فهو من اعمدة كركوك الثقافية وله حضور مهم في الفعاليات الادبية سواء في بغداد اوالمحافظات، وتُدرج كتاباته عن مدينته التي عشقها ضمن اروع ما كتب في ادب المكان.

ولا يختلف إثنان على انه ليس هناك من له حق الكلام عن كركوك وجماعتها الأدبية من منظور ادبي وفكري اكثر من الاديب فاروق مصطفى.. لقد صادق اقطابها، وصاحبهم في بدايات ظهورهم، وعقد معهم صلات وشيجة، حضر اجتماعاتهم وجلساتهم، بل وتواصل معهم وتفاعل مع ابداعاتهم حتى وهم في الشتات والمهجر ايضا.

عن كركوك العريقة التي سحرته، وعن جماعتها الادبية التي اضاءت المشهد الثقافي العراقي ردحا طويلا من الزمن ولا تزال، أجريت هذا الحوار مع الاديب الكركوكي البارز فاروق مصطفي.3127 فاروق مصطفى

* حالما يرد اسمك تقفز الى الذهن صلتك الحميمة مع كركوك وجماعتها الادبية.. من هم.. وكيف نشا هذا الهوس.. ومتى بدأ.؟

** تعود معرفتي بالاصدقاء الذين عرفوا فيما بعد ب (جماعة كركوك) الى العام ١٩٦٤، واول شخص تعرفت عليه هو (جان دمو) وهوا الذي قادني الى جليل القيسي ويوسف الحيدري حيث تعرفت عليهما في مقهى النصر، ويُعرف اليوم ب (المدورة) ثم جاء مؤيد الراوي وسركون بولص وصلاح فائق. اما انور الغساني فكنت اعرفه من قبل لانه درسني مادة التربية الفنية في المتوسطة الشرقية. الاب يوسف سعيد كان قيما على رعوية كنيسة تشرف على ساحة العمال. قحطان الهرمزي كان مبعدا الى البصرة. فاضل العزاوي كان ببغداد يعمل في صحافتها ويكمل دراسته بعد ان اطلق سراحه من السجن، جالسته كثيرا في مقهى البرلمان ومقهى ابراهيم ببغداد. زهدي الداوودي لم اعرفه في هذه الفترة لقد كان موقوفا ثم غادر العراق بعد ان اطلق سراحه لكنني تعرفت عليه في جامعة الموصل عام ١٩٧٨. كل هؤلاء الاصدقاء كانوا رائعين وملتحمين بالثقافة العراقية والعربية والعالمية. فالتحمت بجلساتهم وقراءاتهم وجدالاتهم ومع معظمهم تمتنت صداقتي والصداقة هي العلامة المميزة التي وسمت هذه الجماعة واستمريت معهم بالرغم من تشتتهم في اصقاع المعمورة. وصداقتي مع صلاح فائق لا تزال متينة حتى اليوم.

* يتبوأ المكان جزءا مهما في النسيج القصصي والروائي وقد تحول الى عنصر جذب واستقطاب.. كركوك كمدينة حضارية سرمدية حولتها أنت في كتاباتك من مكان إلى معشوقة ! كيف اينع هذا البرعم بداخلك وصار شجرة حب وارفة؟

** عندما تفتح وعيي على المدينة وبدات أعي ما تحيطني كانت كركوك بمثابة حدائق وبساتين واشجار الكالبتوس تظلل العديد من شوارعها، والكهاريز المتدفقة تقطعها من الشمال الى الجنوب، ولا اخفيك عن صالات سينماتها الصيفية تلك النوافذ المضيئة في اسمار لياليها وومقاهيها هي الاخرى عامرة بجلاسها وسمارها وما زلت اذكر كيف كانت لدينا مكتبات تتعاطى بيع الصحف والمجلات الاجنبية. وكركوك مدينة من الشعر قلعتها ونهرها الاسطوري المتدفق شتاءً والمنزوي الى هدوئه صيفا، هذه المشاهد التي انتشيت بها في صباي وشبابي المبكر صرت في كهولتي افتقدها وافتقد هارمونيتها فغدوت اعيشها في كتاباتي واحاول ان أعيد إليها الازهرار بعد ان شاخت واهملت وانطفأت ودبّ الاهمال في شراينها فصرت اعيش كركوكي التي استوطنت ذاكرتي وإنقلبت الى بيوت من الاحلام.

* احد الروائيين العرب قال ان خصائص المكان في الابداع السردي العربي لا يزال غائبا عن الدراسات الادبية مقارنة بالكم الكبير منها في الأدب الأجنبي.. هل تقر هذا الطرح ، وبمعنى أخرهل تصدى النقاد للإنتاج الابداعي الذي وثق المدينة، لك أولمعاصريك من جماعة كركوك مثلا؟

** هناك مدن اقترنت باسماء الروائيين والقصاصين الذين وظفوها في منجزاتهم السردية فإسم نجيب محفوظ اقترن بالقاهرة، والاسكندرية بابراهيم عبدالمجيد والبصرة بمحمد خضير وطنجة بمحمد شكري. وأظن أن غواية الامكنة راجت كثيرا في السردية العربية والعديد من النقاد تصدوا لهذه الظاهرة ، وانا لا استطيع في هذه العجالة ان اؤشر اسماء النقاد الذين انبروا لهذا الموضوع ولكن انا من ناحيتي كثيرا ما درست وكتبت عن كركوك في قصص جليل القيسي وثمة كتاب للدكتور نوزاد احمد اسود يحمل عنوان (المدينة في قصص جليل القيسي) ، والكثير من الدراسات كتبت عن المكان في منجزي، اذكر على سبيل المثال ما كتبه الدكتور يوخنه مرزا الخامس، الدكتور فاضل التميمي، الدكتورة سلوى النجار، الاديب نصرت مردان، الناقد عدنان ابو اندلس. وعشرات غيرها من الدراسات تصدت الى هذه الظاهرة ايضا.

* بالعودة الى جماعة كركوك الأدبية يرى البعض أن اقطابها وخلال وجودهم في كركوك وبغداد ستينيات القرن الماضي كانوا أكثرحضورا وتأثيرا على مسار الأدب العراقي الحديث مما اصبحوا عليه وهم في دول الشتات. اذا كان هذا الطرح صائبا فكيف تفسر موقفهم من مدينتهم بل وطنهم أيضا وهم في سعير الغربة؟

** علينا ألا ننسى بان الصحب في جماعة كركوك ابان الستينات كانوا في اول شبابهم ممتلئين حماسا وعنفوانا ووإقداما وجرأة في اقتحام سوح الادب فجربوا كتابة قصص مغايرة للمالوف وكتبوا قصائد جديدة بنكهة غير معروفة وتقانات مستحدثة لم يعهدها المشهد الثقافي، وكذلك ألا ننسى بان معظمهم كانوا يتقنون اللغة الانكليزية فقرؤا ادابها وتأثروا بها وترجموا منها، وباستثناء جليل القيسي الذي آثر البقاء في كركوك وقحطان الهرمزي الذي انفصل عن الجماعة في ذروة صراع اليسار واليمين في العراق. خرج الصحب الى ارجاء المعمورة وتشتتوا في بلاد الله البعيدة فتوالت كتبهم السردية والشعرية ولم يتوقفوا عن الكتابة والابداع في اجناسها المختلفة. والى اليوم فإن عطاء فاضل العزاوي مستمر من مستقره في برلين وصلاح فائق غزير الانتاج يتواصل كل يوم في نشر قصائده على صفحته الشخصية في العالم الافتراضي بخياله الجامح وذاكرته الممراعة. عندما غادر الصحب كركوك حملوها معهم وفهرسوها في دفاتر قلوبهم وبقيت تتمرأى في كتاباتهم بقلعتها ونهرها وجسورها وخاناتها وناسها الطيبين واظن العراق نفسه ظل شاخصا في ادبهم يتألمون للمحن التي يمر فيها ويسعدون اذا ما ذاق الراحة وانتشى بها وظلوا يحلمون به وبزيارته متى سنحت الفرصة لهم كما زار صلاح فائق كركوك في العام ٢٠٠٣.

* رغم ان تاريخ كركوك يعود الى اكثرمن سبعة الاف عام وشهدت عصورا من الحضارات الا انها لا تزال تفتقر الى اية مقومات ثقافية َ توفر بيئة َللابداع الفكري او الفني، ومع ذلك فهي مدينة ولودة رفدت المشهد الادبي والفني وكذلك الرياضي باسماء مميزة.. اليست هذه السمة تشكل مفارقة حقا.؟

** الانسان لا يعرف متى يجود الزمان باعطياته وربما كانت من باب الصدف الماتعة ان يجتمع اولئك الناشئة في اعدادية كركوك اواخر الخمسينات وبدواميها الصباحي والمسائي ويتعارفوا ويتبادلوا النشرات الجدارية، واعني فاضل العزاوي ويوسف الحيدري وقحطان الهرمزي ومؤيد الراوي، ومن هذه اللحمة انبجست تلك الصداقة الملتحمة بينهم واستمرت بالرغم من تشتتهم في ارجاء المعمورة فكان انور الغساني وسركون بولص يزوران مؤيد الراوي في برلين دائما، والاب يوسف سعيد استقر في السويد ولكن لقاءاته بصحبه القدامى لم تنقطع والذي خدم جماعة كركوك التطورات الادبية التي شهدها العقد الستيني وصعود التيارين اليساري والوجودي وكثرة الترجمات من الادب الروسي والفرنسي والانكليزي والامريكي ، واهم دالتين في حياة هذه المجموعة الصداقة المتينة التي ربطتهم وكذلك كانوا دائما يجدون الوقت للاصغاء الى كتابات بعضهم البعض، والاجمل تجمعاتنا الليلية في كركوك قبل التشتت والخروج منها والقراءات التي كانت تستمر الى ساعات متاخرة من الليل.

* اعمدة جماعة كركوك الادبية.. زهدي الداوودي رحل عن عالمنا في المانيا. فاضل العزاوي مقيم في المانيا أيضا صلاح فائق سعيد في الفلبين سركون بولص رحل وهو في امريكا جان دمو في استراليا وأنور الغساني في كوستاريكا.. في رأيك هل ادى هذا التشتت في اقطار المعمورة الى إنهاء ودور الجماعة في مسار الادب العراقي الحديث.؟

** بقي صلاح فائق في الفلبين عشرين عاما. في الوقت الحاضر يقيم في بريطانيا في بلدة تبعد عن لندن حوالي الساعة. سركون بولص توفي في برلين الا ان جثمانه دفن في سان فرانسيسكو وهكذا مع بقية الصحب، الاب يوسف سعيد توفي في السويد، وأنور الغساني في كوستاريكا ولم يبق من الجماعة الا اثنان، صلاح فائق وفاضل العزاوي - طول العمر لهما - وهذا الاخير ترجمت اعماله الى الانكليزية والالمانية وغيرها من اللغات الحية، وروايته (اخر الملائكة) ذاعت شهرتها حتى ان (كولن ولسن) كتب عنها. صلاح وفاضل مازالا متواصلين في عالم الكتابة والابداع. صلاح فائق غزير الانتاج، شعره يستقي موضوعاته من وقائعه اليومية المعاشة ترفدها ذاكرته الممراعة وخياله المخصاب. فاضل العزاوي جاب ميادين الابداع كلها من شعر وقص ورواية ونقد وترجمة وقد بزّ في جميعها وفي اخر المطاف المنجز الادبي للجماعة يشهد على توهجهم وتميزهم ومازالت الاطاريح الجامعية تكتب عنهم والنماذج التي تركوها في مضمار قصيدة النثر وفن القصة القصيرة وترجماتهم ما فتئت تاخذ باهتمام النقاد والدارسين وبعد ذلك الزمن هو الذي سيغربل كل شيء ولا يبقى الا الجميل الحسن البناء يقاوم معاول النسيان.

* هل تتوقع بأن البيئة الثقافية في كركوك الآن قادرة على انتاج جماعة فكرية او فنية جديدة تعزز التراث الحضاري للمدينة اسوة بجماعة كركوك الادبية.؟

** تحدث الاديب الراحل وحيد الدين بهاء الدين ان كركوك عرفت جماعات ادبية عدة، وأطلق الدكتور عبدالله ابراهيم على نفسه وأصدقائه من الادباء الذين برزوا بعد منتصف العقد السبعيني بانهم (جماعة كركوك الثانية) الا ان شهرتهم لم تبلغ شهرة الجماعة الاولى وهناك من تحدث عن جماعة كركوك الثالثة عرفتهم تسعينات القرن المرتحل وهكذا كما ترى كركوك مدينة ولادة لا تتعب من انجاب ابنائها المبدعين وحاليا في كركوك العديد من المنشئين والمنشئات يتعاطون ويتعاطين امور الكتابة اذا طوروا ادواتهم الفنية وصقلوها ربما تفوقوا وبلغوا القمة التي يطمحون الوصول إليها، ولا اظن في الوقت الحاضر البيئات صالحة لإنضاج الجماعات الادبية والفنية كما عرفتها العقود السابقة. تغير الزمن وتغيرت الظروف وظهرت معها سمات وعلامات غير التي كانت موجودة في السابق.

* اذا مُنحت فسحة حديث قصير نختم به هذا الحوار. فماذا تقول؟

** في البدء شكري الموصول لكم على هذه المحاورة والاسئلة الرصينة التي طرحت من قبلكم. اتمنى العناية بتراث جماعة كركوك وبالاخص انشاء قسم في المكتبة المركزية في كركوك يعنى بامور هذه الجماعة ويضم كتبهم ورسائلهم وصورهم ومصادر الدراسة عنهم وكل ما يتعلق بهم ، واذا استحال ذلك في المكتبة المركزية فلدينا جامعة كركوك وقسما اللغة العربية في كليتي التربية والآداب للعناية بتراث الجماعة ، هذا التراث الذي اوصل إسم كركوك الى أبعد اصقاع المعمورة.

***

حاوره: محمد حسين الداغستاني - كركوك 

في المثقف اليوم