حوارات عامة

في حوار مع د. بهجت عباس: فن الترجمة كاشكالية بين عقدة النص وانسيابية المعنى

bahjat abaasتوطئة: فن الترجمة صناعة تحتاج الى ثقافة رفيعة، باعتبارها ترتبط تماما بموسوعية الكلمة؛ جذورها اللغوية والتداولية، اي المفهوم المعرفي الابستمولوجي لسياقاتها الانسانية، اضافة الى ما يتطلبه هذا الفن من خزين تراكمي في باب الاستعمال الدلالي لمحتوى المضمون الفني والأدبي وطريقة انسيابه.

ان ترجمة النصوص الأدبية الى لغات مختلفة، يعد مهمة شائقة تفرض على المترجم صبرا ودقة وحرفية عالية، باعتبار ان هنالك شيئا ما، يختبيء خلف النص، يفرض على المترجم اضافة معنى آخراً، يلازم المعنى الأصلي للقصيدة، يحتويها بطريقة أعمق شمولا؛ هي مسؤولية كبيرة تلك التي تحتاج الى استقراء لغة النص من خلال استعمال نص ثان مطابق للنص القديم، ولكن بلغة اخرى محايدة، اي بشرط الحفاظ على المضمون الدقيق للنص، وليس هذا فحسب، إنما هنالك حاجة اخرى لإضافة ابعاد جديدة لمحتوى النص بكل مفردة من مفرداته.

لقد حرصت صحيفة المثقف وبشكل مميز على تشجيع ترجمة النصوص العربية الى لغات مختلفة، كالإنجليزية والألمانية وبالعكس، وكان اختيار النصوص جزء لا يتجزء من المسؤولية الملقاة على عاتق هذه، اوتلك النخبة من الأدباء والمترجمين من العاملين، وغير العاملين في هذه الصحيفة الغراء.

بهجت عباس واحد من رموز هذه النخبة، وله تجارب متميزة ومتعددة في قراءة وترجمة نصوص الشعراء العراقيين وغيرهم، والمثقف تتطلع الى تشجيع ما يتفق وخطتها في تبني النصوص المتقدمة بغية الوقوف وإيجاد ارضية واسعة لتداول افكار المبدعين من الكتاب، والأدباء، والشعراء، وأنماط القصائد المكتوبة وطريقة العمل والتفاعل مع نتاجاتهم.

لذلك كان لقاء متميزا هذا الذي جمعني مع واحد من ابرز الشخصيات التي بقيت محافظة على تألقها الأدبي والعلمي. تاريخ طويل وحافل بالعطاء، وكما ذلك، فهو عامر بالمحبة والتواضع.

هنا في مكان يحتفي بأصحابه ورواده، ساندياكو مكان يذكرني بأولئك الذين كنا نلتقيهم ذات يوم في مقهى البرازيلي ايام بغداد الجميلة، وفي مقهى الهافانا ايام دمشق التي كانت جميلة ايضا.

ستار بوكس هذه المرة، كانت على نمط جلسة عفوية جمعتنا صحبتها لتبادل الحديث معا عن نصوص الشعر وهموم الادب والأدباء، وكذا البحث كان عن علم الجينات ومواضيع، هي الاخرى تستهويني وانا انصت بلهفة عميقة الى مصدر شفوي من مصادر العلم والمعرفة.

العالم والمفكر والباحث والأديب والصيدلاني الدكتور بهجت عباس علي، الذي لم يخلو لقاء من لقاءاته من بحث جديد ومعلومة جديدة، وأفكار جديدة، ليس في باب الادب والترجمة الشعرية فحسب، بل في باب العلوم الطبية ومصطلحاتها الدقيقة ايضا. لذلك بعد السلام، استهل كلامي بهذه التوطئة:

800-akeel 

ان ترجمة النص يحتاج الى وقت وجهد مثابر، هو عمل مجهد وعسير، خاصة مع اهتماماتك العلمية والطبية، هذا ناهيك عن انشغالاتك الأهم في التأليف.

- ترى كيف تختار القصيدة للترجمة؟

دكتور بهجت: ليس الاختيار سهلاً. ما يهمّني أوّلاً المعنى فيما إذا كانت ذات معنىmeaningful أو بدونه meaningless والفكرة أو الغرض الذي كُتبت من أجله، غزلاً، سياسة، حالة نفسيّة أو فلسفيّة وقد ترجمت من هذه الأنواع الجيّدَ منها دون تمايز. ثمّ يأتي تركيبها وصوغها، إذا كانت ذات متانة أو ركاكة وفيما إذا لمْ تُحشرْ فيها تعابير أو أسماء معيّنة لا يسيغها القارئ من ناحية وتؤدّي إلى شرح طويل لتبيانهايستهلك وقتاً وجهداً لا ضرورة له من ناحية أخرى، وأستثني بعض الأسماء الواردة فيها إن كانت هامّة وذات فائدة للقارئ إنْ عرفها.وهناك شيء هامّ جدّاً، وهو التباين أو الفوارق بين اللغات والمفاهيم، فقد تكون القصيدة جميلة في لغتها وهزيلة أو مضحكة في ترجمتها حسب المتعارف عليه من تقاليد المجتمعات المختلفة.

 

سؤال: ما هي بنظرك أهمية الترجمة؟

دكتور بهجت: تكمن هذه الأهميّة في التواصل بصورة عامّة. فمعرفة الشخص بحضارة الآخرين هو علم بحدّ ذاته، إذ يتمكّن القارئ من المعرفة لاكتساب خبرة في ذلك الشأن فتتوسّع مداركه أو لتعلّم شيء جديديستفيد منه في حياته، أو ما هم عليه الآخرون ليسير على منوالهم أو يتجنّب ما يراه ضرراً عليه، فأهميّة الترجمة هي التقارب بين الشعوب في العالم الذي أصبح قرية كونيّة لا غنى له عنها في تجواله فكريّاً وجسديّاً.

 

سؤال: كم قصيدة ترجمت؟

دكتور بهجت: لمْ أحسِبْها. ولكنّها حسب ظنّي لا تقلّ عن 250 قصيدة.

 

سؤال: ما هي أهم القصائد التي ترجمتها لحد الان؟

دكتور بهجت: هذا سؤال محيّر أو محرج حقّاً! فما ترجمتُ هو مهمّ، وهل بفرّق فرق بين أبنائه إن كان عادلاً ومنصفاً!؟ فأنا أخترتُ ما رأيتُه جديراً بالترجمة ومهمّاً وجميلاً. وللقارئ أنْ يقرّر ولستُ أنا، فأنا أعرض البضاعة وأبرزها بصورة لائقة وجميلة وهو، الناقد المدرك، الذييختار ما يرغب ويستهويه منها. وكما تعرف يا عزيزي، فلكلّ مزاجه وذوقه وتفكيره وعاداته في الاختيار. وكما يقول المثل المعروف: لولا الأذواق لبارت السّلع!

 

سؤال: هل ترجمت لشعراء عرب؟

دكتور بهجت: نعم، ولكن عددهم ليس بكثير، وأتمنّى أن يتّسع لي الوقتُ لأترجم أكثر.

 

سؤال: ما الفرق بين ترجمتك للأدب العالمي والأدب العراقي؟

دكتور بهجت: الترجمة من الأدب العالمي، يعني من لغة أجنبيّة إلى العربيّة أسهل من العربية إلى اللغة الأجنبية، وليس دائماً، حيث يعتمد على أسلوب القصيدة التي يكتبها الشاعر. فمثلا ترجمة أشعار ريلكه وهولدرلينوتسيلان ليست سهلة أبداً مثلما تترجم لهاينريش هاينه، فهناك فرق واضح. وكذلك يوجد هذا الفارق بين الشعراء العراقيين الذين ترجمت لهم. فمثلاً ترجمة نصّ الشاعر الراحل كمال سبتي (حكاية في الحانة) صعبة جدّاً لكثرة الغموض والرموز فيها التي يجب فهمها لوضعها في أسلوب واضح ليتسنّى للقارئ الألماني فهمها. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى ترجمتي النصوص الأجنبية إلى العربية (أقوى) وأمتن من ترجمتي النصوص الأجنبية إلى العربيّة، ذلك أنّ العربيّة هي لغتي التي درستها وتعلّمتها منذ البداية فهي لغتي الطبيعيّة التي وُلدتُ معها وصاحبتني طوال حياتي. أما اللغات الأجنبيّة فهي مُكتَسَبة أحاول إجادتَها على أن المُكتَسَب ليس كالطبيعي، وقد يكون أحسن في بعض الحالات إذا عاش المرء حياة طويلة في ذلك البلد أو تكلّم بلغة مواطنيه زمناً طويلاً وكان جادّا فيتعلّمه ومتابعة أسرار تلك اللغة.

 

سؤال: ما هي الفائدة التي جنتها عملية ترجمتك للنصوص؟

دكتور بهجت: لا فائدة مادّية مطلقاً! ولكن المعرفة وتوسيع المدارك هو ما أصبو إليه إضافة إلى الهواية الشخصيّة وولعي بالشعر والأدب هو طبيعتي، ثمّ أنّ تعريف الشعوب بعضهم ببعض بواسطة الترجمة، وخصوصاً الشعر والأدب تجعلهم أكثر تقارباً ومودّة وصداقة، وهذا ما يسرّني.

 

سؤال: ما هي إنجازاتك الحالية والقادمة؟

دكتور بهجت: الحالية والقادمة سِيّانِ ، بل شيء واحد يتلخّص في كتابة (مذكّراتي) التي بدأتُ بها ونشرت بعضاً منها، وهي حافلة بالنضال من أجل البقاء. ولربّما تكون في الحقيقة تاريخاً حسب تجاربي،فهي ستذكر ما مررتُ به وخبرته من الأصدقاء والمعارف والناس بصورة عامّة وأنّ ما قيل : كما تكونوا يُوَلَّ عليكم، يصحّ تماماً، وهو ما كان شعراؤنا القدامى والجدُد يتذمّرون منه ويندبون.

 

سؤال: ما هي نصائحك لتطوير واقع الترجمة؟

دكتور بهجت: هي أن تُؤسَّس جمعية للترجمة ومؤسّسات حكوميّة تُعنى بالمترجمين كإيفادهم إلى الخارج في دورات تثقيفية قصيرة الأمد وتشجيعهم بكافّة السبل ماديّا ومعنويّا كأنْ تُخصِّص جوائز سنوية للمترجمين المتفوقين. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى أن يتقن المترجم اللغة الأمّواللغة الأجنبية، وإن عَصتْ عليه كلمة أو جملة لا يفهم معناها عليهأن لا يتسرّع في ترجمتها عبثاً دون أن يتأكّد منها، لآنّ الترجمة أمانة في عنقه يجب أن تؤدّى بأمانة تامّة. ثمّ عليه أن يعرف طبيعة القصيدة وحالة الشاعر النفسيّة، إن أمكن، وظروفه عندما كتبها.

 

سؤال: الفرق بين الترجمة الانكليزية والألمانية؟

دكتور بهجت: كالفرق بين اليد اليمنى واليد اليسرى!

 

سؤال: هل تعتقد ان الجمهور الألماني أكثر تلهفا للغور في قراءة القصيدة؟

دكتور بهجت: لا أدري! فلقد عشت بينهم فترة ليست بطويلة في زمان بعيد، فكانوا توّاقين لقراءة الشعر.

أمّا الآن، فالدنيا تغيّرت وتغيّر معها كلّ شيء. ولكنّ الشعر بصورة عامّة لا يجذب كثيراً من القرّاء كما كان يفعل قبل زمن الإلكترونيّاتوالفيسبوك وتويتر وغيرها من هوايات الشباب.

 

سؤال: هل تفكر بترجمة نصوص معينة في الوقت الحاضر؟

دكتور بهجت: ليس لديّ أيّ مشروع في هذا الخصوص. كل شيء يعتمد على المزاج والوقت وجودة النصّ!

 

سؤال: كم تأخذ معك مسالة الوقت وانت تترجم القصيدة؟

دكتور بهجت: بعضها ساعة أو بضع ساعات وبعضها يستغرق يوماً أو أياماً وهذا يعتمد على القصيدة، طويلة كانت أو قصيرة وأسلوبها، هل صعب أو سهل. فمثلاً ترجمت سونيتات ريلكه الخمس والخمسين في 22 يوماً ولكنّ تنقيحها وتصحيحها وإعادة النظر فيها عدّة مرّات تجاوز شهراً قبل أن تُنشر في كتاب مع المراثي العشر (الطويلة) التي استغرقت ترجمتها شهراً أيضاً.

 

سؤال: كيف تنظر الى قصيدة الهايكو؟

دكتور بهجت: بعضها جميل. هي فنّ لطيف خفيف وقعه على السمع والفكر ولكنّه عرضة للسرقة بكلّ سهولة. يكفيك أن تسرق كلمة واحدة من قصيدة أو فكرتها، لتكوّن هايكو. أنا لستُ ضدّه ولكنّي لا أرغب في كتابته في الوقت الحاضر على الأقلّ، ولا أعرف ما سيأتي به غدٌ.

 

قبل الختام لا يسعني الا ان أشكرك على إجاباتك الدقيقة وملاحظاتك المهمة، وطريقة تعاملك مع هذا اللون من الإبداع، كونه يعد جسرا يربط بين ثقافات متعددة، ما يساهم في عملية الارتقاء الالتقاء الحضاري والانساني بين الادب العربي، والعالمي خاصة ونحن نجسد أزمة الانسان في ظل هذا النوع من الصراع، الترجمة ليس علما للتعامل مع فنون الادب المختلفة وتياراتها ومدارسها المختلفة، انما هو علم الامتداد التاريخي الحواري بين الثقافات والأديان والعلوم. لهذا لا يسعني الا ان اعبر عن خالص شكري لهذا الحضور اولا، وللمصادر القيمة التي اهديتني إياها في علم الجينات ومرض السكر وبعض المؤلفات الاخرى في عالم الصيدلة والكيمياء، وذلك عمل يضاف الى جهدك المتميز في عالم الترجمة، كونه يتطلب ثقافة علمية متنوعة في المصطلحات الطبية ما يجعلك مترجما وخبيرا متميزا في حقل اخر من حقول هذا التخصص الرفيع. دمت إنسانا ومفكرا وعالما، وأتمنى لك الصحة والعمر المديد، وسنلتقي مرة اخرى مع ستاربوكس يوم جديد.

 

دكتور بهجت: أشكر الأديب البارع الأستاذ عقيل العبود على اللقاء الجميل الذي تمّ بجوّ كلّه طيب وصفاء حيث كان حسن الحديث لطيف الشمائل يستمتع المرء بحديثه الشيّق وتمرّ الساعة وكأنها دقائق. سُررت جدّاً لحسن اللقاء ولحسن ظنّه بي وثقته بترجماتي التي أفرد لها هذه الأسئلة التي تدلّ على اطّلاع غير قليل بالترجمة والثقافة وولعه غير المحدود بما يدور في عالم الأدباء والأدب. وألف تحيّة للمثقف الذي يَعرض مثل هذه الحوارات بإدارة الباحث القدير ماجد الغرباوي الذي يؤدّي ما بوسعه خدمة للثقافة.

 

عقيل العبود

8/8/2015

في المثقف اليوم