حوارات عامة

في ضيافة الفنان التشكيلي: عبد النبي الصروخ

91 عبدالنبي الصروخ 1في مدينة السحر والجمال طنجة الندية تفتقت موهبة الفنان التشكيلي عبد النبي الصروخ، وتشكلت ملامح شخصيته الفنية مبكرا وهو ما يزال  طفلا بريئا حالما يشاغب بالبيت وبالمدرسة ويمنح لشغبه الحي مزيدا من الحياة. ومن جمال المدينة ومن تميزها الإنساني والطبيعي اكتسب رؤية نافذة عميقة للحياة ساعيا وراء اكتشاف كل الأسرار التي تحيط بالكون والإنسان. يستلذ المناورة في حمى كل ما هو سائد ومألوف، ويمنح لنفسه الحق في متابعة كل الجزئيات التي لا يلتفت إليها باقي الناس. يمتلك حساسية مفرطة إزاء المسخ الذي أصاب القيم في محيطه الاجتماعي، ويحمل في أعماقه نفسا بسيطة مسالمة لكنها تواقة إلى طرح الأسئلة الكبرى المستفزة،  كما أن  له نظرة مختلفة إلى الأشياء  تنطلق من أساس فلسفي خالص.  وقد ساعده على ذلك ثقافته العميقة التي تجمع بين عشق الفن التشكيلي وعشق الكتاب. فاستطاع بهذا الجمع اللطيف بين الرافدين التشكيلي والأدبي أن يصنع شخصية مبدعة تحول النصوص الأدبية والصور الذهنية إلى ألوان مرئية، وترسم الأفكار والأحلام والمواقف والنظريات الفلسفية في لوحات بهية.

كان اللقاء بهذا الفنان مفيدا مغريا بالسباحة في عوالم الجمال والأدب والفلسفة والتاريخ، بشكل يجعل الجليس عاجزا عن إيجاد الفرق بين المثقف والفنان في هذه الشخصية. فإذا تكلم عن الرسم وعالم التشكيل يعود بك إلى  محطات من التاريخ والحضارات الإنسانية، ثم ينقلك نقلا سريعا نحو الواقع المعيش و ما يعج به من صراع القيم واختلاف الإيديولوجيات والمنطلقات وهيمنة عقلية الربح وطغيان منطق الاستهلاك. فتجد أن اللوحة التي يتحدث عنها شيئا آخر غير الرسم، وتستطيع أن تقرأ في تفاصيلها ما لا يمكن أن يقرأه غيرك. فمن فجواتها وألوانها تطل عليك الأحداث والأخبار والصور والحكايات والأحلام والتطلعات بشكل يدفعك إلى المزيد من الفضول في التعرف على حقيقة الفن التشكيلي على روحه التي تحجبها الألوان والأشكال. ولذلك آثرت أن أعرض على القارئ هذا الحوار الهادئ المثمر الذي تحول إلى حديقة معرفية وفنية تمنح لكل قارئ نصيبه من المتعة واللذة والفائدة.

س: بداية، أودّ أن نؤسس لهذا الحوار من عتبة البدايات. وأجمل الأشياء وأصعبها هي البدايات. وأقصد هنا النشأة بكل ظلالها الحلوة والمرة، باعتبار أن المحطات الأولى حاسمة ومؤثرة في مسيرة كل إنسان.

ج: لا أدّعي أن طفولتي كانت استثنائية، ولكن الذي يمكنني أن أؤكد عليه هو ذلك الميل الفطري نحو الرسم وذلك الهوس الكبير بالخط منذ سنوات الدراسة الأولى. فقد وجدت نفسي وبدون وعي مني أداعب القلم وأخط على الورق ما كنت أعتبره آنذاك ترفا ولعبا وخربشات لا معنى لها إلى أن انتبه أحد معلمي إلى هذه الموهبة، وقد كان هو أيضا مغرما بالخط بارعا في الرسم. كلفنا يوما في إحدى الحصص الدراسية برسم الهيكل العظمي، فانبهر بما أنجزته، وشجعني على الاهتمام بالرسم. وكانت المفاجأة أكبر لما طلب مني زملائي مساعدتهم في إنجاز هذا الرسم. منذ ذلك الحين أحسست بالتميز على أترابي وبكوني أمتلك شيئا يفتقده الآخرون.والأمر الغريب الذي لا أجد له تفسيرا إلى يومنا هذا هو ارتباط بدايتي الأولى بالهيكل العظمي منذ ذلك الحين، فقد أصبح تيمة محورية في جل رسوماتي. كنت أرسم "السيد الهيكل العظمي" جالسا أو راقدا وتارة راكضا خلف الكرة وتارة أخرى راقصا أو سابحا أو غيرها من الوضعيات. ولا زلت أتأمل هذه البداية الغريبة وأبحث عن السر الذي جعل الجماجم والعظام تستهويني وتنصاع لموهبتي، لأفعل بها ما أشاء وأشكلها كما أريد بدون تكوين فني سابق. فما معنى أن ترتبط البداية بالنهاية، وما دلالة أن ترتبط الطفولة بالموت ؟؟؟

أما بخصوص علاقتي بباقي المواد فلا أنكر أنني كنت متهاونا متهورا مشاغبا كثير الغياب والمشاكسة.وبسبب ذلك ضيعت سنوات من عمري الدراسي، انقطعت عن الدراسة فترة، واشتغلت بالتجارة وببعض المهن البسيطة هروبا من بطش المعلمين، وفرارا من إنجاز الواجبات المنزلية. لكن إصرار والدتي عليّ للعودة إلى رحاب المدرسة كان أكبر من إرادتي. وقد نجحت في إقناعي، خصوصا أني جربت عذابات العمل مبكرا، وقاسيت ما فيه من تعب ونصب ونهْر وقهْر وتسلط المشغّل وغطرسته. فعدت إلى المدرسة لأجد نفسي أكبر التلاميذ سنا وأطولهم قامة، لكن نحافة الجسم كانت تشفع لي وتسهل عليّ الاندماج في ذلك الوسط الجديد. وبسرعة جاريت إيقاع الدراسة فصرت من المتفوقين. وظلت موهبة الرسم ترافقني، بل تزداد رسوخا وتعمقا في وجداني. وفي هذه المرحلة اتجهت نحو فن البورتريهات، فرسمت وجوها تقريبية لشخصيات سياسية وكروية وفنية شهيرة، حتى صرت بارعا في ذلك إلى درجة أنني أقمت أول معرض لي بالمدرسة، فكانت لوحاتي المتواضعة تزين جدران الفصل الذي كنت أدرس به. ثم بدأت علاقتي بعالم الرسم تتسع وتكبر بشكل أكثر نضجا حينما اتصلت بالفنان العالمي (خليل غريب) الأب الروحي الذي أدخلني إلى عالم التشكيل من بابه الواسع، وحفزني كثيرا على الاستمرار وعلى تحقيق التميز. ومنذ ذلك الحين صرت أرسم لوحاتي وأعرضها للبيع في إحدى المكتبات بمدينة طنجة، الشيء الذي جعلني أوجه بوصلة دراستي كليا نحو الفن وأخطط لمستقبلي بريشة الرسام. هكذا كانت البداية الثانية وأنا لم أتجاوز العشرين من العمر.

س: من خلال هذا السرد الطريف نخلص إلى أنك في بدايتك الأولى دخلت عالم الرسم بالصدفة وبرعت فيه بشكل عصامي بدون تكوين فني أو دراسة. لكن كيف طوّرت هذه الموهبة؟، وما الروافد الفنية التي ساهمت في ولادتك الثانية كفنان له بصمته ورؤيته وفلسفته في عالم التشكيل؟

91 عبدالنبي الصروخ 2

ج: ارتبطت هذه الولادة الجديدة بامتهان مهنة التدريس كأستاذ للفنون التشكيلية. فقد كان الجانب الوظيفي عاملا كبيرا وحاسما في دفعي نحو الإبحار في عالم الرسم ونحو الاطلاع على كل المدارس الفنية القديمة والحديثة، لأن وضعي الجديد أصبح يفرض علي أن أخوض غمار التجريب كفنان يجمع بين الدراسة النظرية للفن وبين ممارسة لعبة الإبداع. وبالفعل ازدادت مهاراتي تنوعا واتسعت مدركاتي الفنية عمقا، فصقلتُ موهبتي بما يكفي من زاد علمي غزير وبالانفتاح على تجارب عالمية رائدة في ميدان التشكيل.  ومع مرور الأيام أنشأت محترفا للرسم بالبيت الذي أسكن فيه، وجعلت منه مستودعا لحساسياتي الفنية ومعتكفا أمارس فيه طقوسي الإبداعية. أختلي فيه ساعات طوالا وأحاور فيه نفسي الأمارة باقتحام مضمار الاحتراف. وهكذا أنجزت لوحات عديدة من مختلف الأحجام وبكل المواد الخام المتوفرة، ثم اقتحمت عالم العرض فشاركت في معارض كثيرة فردية وجماعية داخل المغرب وخارجه بإسبانيا وفرنسا وبلجيكا. وقد أتاح لي ذلك الانفتاح اللقاء بكبار الفنانين العالميين وحضور منتديات حول المدارس الفنية الحديثة، الشيء الذي منحني مزيدا من الثقة للمضي قدما في هذا الدرب.

س: من المعروف عنك أنك قارئ جيد.. فما السر الذي جعلك مدمنا على الكتاب شغوفا به؟ وكيف أثر الكتاب على موهبتك الفنية؟

ج: من المؤسف جدا أن تجد بعض الفنانين لا يصاحبون الكتاب ولا يغذون موهبتهم بالمعرفة، ويكتفون بما لديهم دونما انفتاح على ثقافات الشعوب ومنجزاتها الفنية. والواقع أن الكتاب رفيق ضروري وجليس لا غنى للفنان عنه. منه يستمد الصور والأخيلة والأفكار والتجارب. وبالكتاب يغذي الفنان رؤاه ومواقفه وأساليبه. فالقراءة بالنسبة إلي هي نوع من التوعية المؤثرة التي تحدث زوبعة ذهنية تدفع الفنان إلى تجديد ذاته باستمرار وإلى مراجعة مكتسباته وقناعاته بشكل دائم.  ولذلك كنت حريصا على الجمع بين القراءة والممارسة الفنية. أجد متعتي في المطالعة بقدر ما أجدها وأنا أمام لوحاتي. وكل قراءة تزيدني قوة ورغبة في ترجمة تلك الأحاسيس والفوائد إلى أشكال وألوان وصور. وهنا أؤكد أن الرسم -على مر التاريخ- لم يكن قطُّ منفصلا عن العلوم والفلسفات والدين والتاريخ والمجتمع، بل كانت المعارف السائدة في كل عصر تحضر بظلالها في اللوحات الخالدة. بحيث تصبح كل لوحة كتابا تتقاطع فيه النظريات والتصورات والقيم مع الحمولة الفنية. ولذلك كانت علاقتي بالكتاب وطيدة خصوصا مع أمهات الكتب الأدبية والتاريخية والفلسفية والتربوية لكبار الكتاب العرب والأجانب، فعلى سبيل المثال قرأت كتب: أمين معلوف، عبد الرحمن منيف، باولو كويلو، غارسيا ماركيز، تولستوي،إدريس الشرايبي،عبد الكبير الخطيبي، محمد شكري، نجيب محفوظ، دوستوفسكي، برغسون، جاكطالي، وغيرهم كثير... وأشير هنا إلى أنني لم أكن أكتفي بمنجز واحد، بل أحرص على قراءة الأعمال الكاملة لكل مبدع حتى أشكل الصورة الكاملة لمشروعه الإبداعي وأفهم تفاصيل رسالته الفنية الكامنة في تجاربه المختلفة. وقد ساعدتني هذه القراءات المتنوعة في عملي الإبداعي وفي الانفتاح على الثقافات الإنسانية من بوابة الكتب واللوحات. فأنا أؤمن بالمثاقفة والانفتاح وبكون الرسام في حاجة ماسة إلى التحرر قليلا من قيد الثقافة الواحدة وإلى الاغتراف من معين المنجزات العالمية، لأن الفن إنجاز إنساني تتداخل فيه الهويات والانتماءات والجغرافيات واللغات والأديان والثقافات. وهذا التلاقح لا يمنع من أن يحتفظ كل رسام بخصوصيته الجمالية وبطابعه المحلي الذي يؤسس عليه تميزه وتجربته الخاصة.

91 عبدالنبي الصروخ 3س: كيف يستطيع الفنان أن يكون عالميا مع الحفاظ على المحلية أو الإقليمية.

ج: إذا تأملنا الواقع التشكيلي اليوم نلاحظ أن ثمة من الفنانين من يرتمي بسرعة قياسية في أحضان الثقافة الغربية ويعتبرها نموذجا للاقتداء، وبأن تقليد التجار الغربية سبب كاف للدخول إلى العالمية من بابها الواسع، فينسلخ بشكل كلي عن هويته ويتنكر لخصوصيته الثقافية، في حين أن المفروض هو أن ينفتح الفنان على كل التجارب والمدارس والحساسيات ويستفيد من الثقافات الإنسانية ويغذي بها تجاربه بدون التفريط في هويته وانتمائه، حتى يحافظ على طابعه الخاص وتكون له شخصيته الفنية المستقلة. وأعتبر أن الفنان مطالب بأن ينطلق من موقعه ومن محيطه وبأن يستمد منه طابعه الذي يميز منجزاته الفنية، وبعد ذلك يعمل على إشاعته وعولمته وتصديره ليصبح رافدا جديدا من الروافد المغذية للفن العالمي. فلو تأملنا الأسماء العالمية الخالدة نجدها لا تفرط في هويتها وإن كانت تبدع فنا عالميا. فالفنان (بيكاسو) رسام عالمي ولكنه حافظ على هويته الإسبانية. وكذلك (سلفادور دالي) فهو فنان إسباني وعالمي. وكذلك (فان غوغ) فنان هولندي وعالمي، والفنان غوغان رسام فرنسي وعالمي...فلكل فنان من هؤلاء الرموز مدرسته الخاصة في الرسم، وبفضل هذه الخصوصية المميزة لإبداعه اقتحم العالمية. والشيء الذي أود الإشارة إليه هنا هو أن معظم هؤلاء الفنانين يلتقون في (المدرسة الانطباعية) التي هي نتيجة التأثر بالثقافات الإنسانية، فمثلا الفنان (فان غوغ) تأثر بالمطبوعات اليابانية، بينما تأثر (غوغان) بألوان جزيرة تاهيتي. وتأثر بيكاسو بالفن الإفريقي. وهكذا هي أغلب التجارب العالمية. فكل فنان عالمي يستفيد من المؤثرات الخارجية مع محافظته على مراجعه ومصادره المحلية. وبذلك يستطيع التوفيق بين ما هو محلي وبين ما هو عالمي. وغير خفي ما كان للثقافة الإسلامية من تأثير ملموس على الفن العالمي وعلى مختلف العلوم. أما بالنسبة إلى تجربتي الخاصة فيمكن أن أدعي أنني بدأت محليا، أترجم واقعي ومحيطي وثقافتي المحلية بلغة الألوان. لذلك كان اهتمامي ينصب أساسا على الخط العربي وعلى الرموز الدينية وعلى الجداريات وعلى الأشكال العمرانية والفسيفساء وعلى كل ما له علاقة بالمحلية، أو إن صح القول بالثقافة الإسلامية.  اقتنعت بهذا التصور الهوياتي، فانطلقت من هذه الزاوية لتكون تجاربي التشكيلية مخلصة لانتمائها، تحيي أنفاس الموروث، وتساهم في ضمان الاستمرارية لجماله وتأثيره باعتباره تراثا إنسانيا ورصيدا حضاريا خالدا.

91 عبدالنبي الصروخ 4س: ما دمنا نتحدث عن المنطلق الهوياتي في الأعمال الإبداعية، أريد أن أسألك عن العمق المغربي بجميع أطيافه وظلاله وتلويناته. فما حظ الثقافة المحلية في مشروعك الإبداعي؟

ج: حينما نتحدث عن البعد الهويّاتي في أعمالي، يجب أن نميز بين ما هم عام وما هو خاص. فالثقافة الإسلامية والعربية حاضرة كمكون هوياتي عام، ولكن تحضر كذلك الثقافة المغربية كمكون خاص، وأقصد به كل ما يرتبط بالمجال المغربي وتنويعاته التعبيرية وطقوسه الاجتماعية ورموزه الفلكلورية والشعبية والتراثية. وأخص بالذكر المكون الأمازيغي والجبلي والصحراوي، باعتباري مواطنا مرتبطا بأصوله فخورا بانتمائه  وحاملا لجينات امتزج فيها ما هو عربي بما هو أمازيغي،  وبذلك تشكلت القناعات التي أحملها والذوق الذي أميل إليه وأدافع عنه. فلا أنكر أنني تأثرت كثيرا بالرموز والإيقونات والتعبيرات والأشكال التي تحيط بي. تأثرت بالأرض التي تقلني، وبالسماء التي تظلني، وبالهواء الذي يملأ رئتي، وبالماء الذي يرويني صباح مساء. كما أضيف أن اهتمامي بالمحلية ذهب إلى أضيق دائرة، وهي دائرة الحي الشعبي الذي تشرّبت منه القيم و الألوان والأشكال والأصوات والحركات. فمن جدران المدينة القديمة المتصدعة والمتآكلة كانت النزعة الفضولية تتنامي في داخلي وتتسرب إلى حساسيتي الفنية، لتجعل من تلك الجدران المتساقطة موضوعا مركزيا يؤثث لوحات كثيرة تختزل الزمان وتبوح بالتاريخ وتحكي حكايات تراها العين وتلمسها الأذواق. وكأنني أقرّب البعيد فأجعله مسطّحا بأبعاد مختلفة وبامتدادات جديدة. وعموما يمكن أن أقول بأنني متنوع في مواضيع رسوماتي إلا أن الطابع المحلي سكنني وهيمن على مشروعي الإبداعي. والذي لا بد من الإشارة إليه هو أنني لا أهتم بالموضوع كمعطى جاهز، ولا أهتم بالنقل المباشر للمرئيات بقدر ما يهمني التجريد داخل الموضوع: أي تجريد المادة الواقعية من لون وحركة وخطوط وغيرها وصبغها باللمسة الفنية المنزاحة عين الواقع الحرفي...

91 عبدالنبي الصروخ 5س: يغلب على لوحاتك الألوان الغامقة الداكنة، فهل هذا الاختيار عاكس لصورة الحياة كما تراها أنت؟ وهل لهذه النزعة التشاؤمية الناقمة والناقدة من تفسير؟

ج: قد يظن البعض أن أعمالي تغلب عليها السوداوية وبأنني أنظر إلى الحياة من زاوية مظلمة سلبية. والحقيقة أنني أرى أن تلك الألوان الغامقة تعكس الحياة التي نحياها كما هي في الواقع دونما تزييف للحقيقة. فهي مزيج من الألوان والسواد. فالحياة ليس بداية وليست نهاية في تقديري. هي محطة وجودية حاسمة بالنسبة للإنسان اعتمادا على التفسير الروحي للوجود الإنساني. ولذلك قد يعتبر البعض أن في أعمالي بعدا صوفيا. وأنا لا أنفي ذلك، لأن الحياة لها بعدها الواقعي كما أن لها بعدا روحيا صوفيا. وفي فضاء اللوحة أحاول أن يحضر البعدان معا لتجسيد الجمال الروحي الذي ينطلق من المرئي نحو اللامرئي، من المنظور إلى غير المنظور، من الواقعي إلى الميتافيزيقي. فهناك أسرار منتقبة وحقائق محتجبة وتفاصيل غائبة، والعقل عاجز عن إدراكها وحائر في تفسيرها. وهذا هو السر وراء تلك الألوان الغامقة.

س: وردت في كلامك إشارة إلى خاصية مهمة تطبع أعمالك التشكيلية، وهي مسألة التجريد. وأنا أرى أنه يصعب تصنيف أعمالك في تيار محدد. فهي- إن صح التعبير- في المنزلة بين المنزلتين. فكيف تصنف تجاربك الإبداعية؟

ج: فيما يخص مسألة التجريد في علاقتها بالتشخيص في أعمالي الإبداعية، يمكن أن أقول إنها علاقة جدلية. بحيث يكون التجريد في خدمة التشخيص، وبالمثل يكون التشخيص في خدمة التجريد. فأحيانا ألتجئ إلى التجريد هروبا من التشخيص أو بحثا عن فسحة للتأمل والراحة النفسية. وكذلك هناك رغبة في تربية الذوق لدى المتلقي ونقله من تذوق الجاهز إلى المشاركة في خلق المعني ومطاردة خيوط الموضوع وقراءة جمالية الغموض في اللوحة، خصوصا وأن الجمهور يميل في الغالب إلى تلقي التشخيص أكثر من التجريد، بل إن هناك قطيعة بينه وبين الفن التجريدي لغياب الثقافة الفنية ولعدم قدرة المتلقي على تفكيك شفرات اللوحات وقراءة ما تخفيه الأشكال والألوان من خطابات خفية. ولذلك ألجأ إلى التجريد لترقية الذوق وللمساهمة في خلق ثقافة فنية لدى الجمهور.

91 عبدالنبي الصروخ 6س: سؤال أخير، هو ما الجديد الذي أضفته إلى الساحة التشكيلية من خلال مشرعك الإبداعي؟

ج: الفن التشكيلي بحر لا ساحل له ولا قرار له. وفي كل يوم يتسع هذا البحر ويزداد عمقا. وكل تجربة فنية تساهم في هذا الاتساع. ولا أدعي أن منجزاتي إضافة نوعية، وإنما هي لبنة تنضاف إلى منجزات الفنانين المغاربة في أفق تأسيس مدرسة تشكيلية مغربية. والذي أفتخر به في هذه التجربة المتواضعة أنني حاولت نقد الفن الاستشراقي الذي سعى في كثير من الأعمال إلى تشويه التاريخ الإسلامي ونعته بالوحشية والعنصرية والنزعة الدموية، من خلال صور مشينة روجها الفنانون الغربيون والتي تركز على أسواق النخاسة والمعارك والجنس،  وتهمل بقصد المظاهر الحضارية والقيم الإنسانية التي اعتمد عليها الغرب كأساس لبناء حضارته الجديدة.

شكرا على هذا اللقاء الماتع الباذخ بالمعرفة والمفعم بالجمال. دام لك العطاء والبهاء.

 

حاوره: د.محمد شداد الحراق

 

في المثقف اليوم